in

لا تتسرعوا في الحكم، فمن الخطأ قول ”المبكّر“ في وصف ”القذف المبكّر“

قنينة نبيذ

إنَّ مفهوم القذف المبكّر عند الذكور هو مفهومٌ غريب، على الأقل إذا نظرنا إليه من منظورٍ تطوريّ، فبالنهاية لا تعتبر عملية القذف صدفةً بيولوجية وإنما هي عمليّة مُصممة من قبل الطبيعة لإطلاق السائل المنوي بما يحتويه من النطاف وإرسالها إلى أقصى حدٍّ ممكن داخل الجهاز التناسليّ الأنثوي، نحن نرى ذلك عندما تسافر إحدى هذه النطاف المنطلقة بعد سباقٍ محموم مع ما يقارب مليوناً من النطاف الجشعة الأخرى نحو بويضة أنثوية بهدف إخصابها، فقد تحدث المعجزة ويحدث الإلقاح بنجاح، ويعود الفضل في هذا كلّه إلى الانتقاء الطبيعي، الذي أتمّ عمله بإتقان.

بالنظر إلى هذه الحقائق البيولوجية الأساسية، لا يمكن اعتبار القذف سابقاً لأوانه إلّا إذا وجدت الحيوانات المنوية نفسها تسبح خارجة من المهبل حائرة كأسماك تتحرك عشوائياً في محيط، فما الذي يعتبر ”مبكراً“ إذاً في القذف المبكر؟

في الحقيقة، إذا نظرنا إلى أسلافنا القدماء سنجد أنَّ هناك الكثير من المزايا الإيجابية للقذف بأسرع ما يمكن أثناء الجماع، مثل إلقاح أكبر عدد ممكن من الإناث في أقصر وقتٍ ممكن، أو السماح لهم بالتركيز على سلوكيات تكيفية أخرى بصرف النظر عن العملية الجنسية، أو التمكن من إتمام العملية عند التعرض لمواقفٍ صعبة دون التسبب بضوضاء كبيرة.

لا يعتبر ما نقوله حديث العهد، ففي عام 1984 قام عالم الاجتماع (لورنس هونغ) من جامعة ولاية (كاليفورنيا) بنشر ورقة بحث هامة للغاية في (مجلّة الأبحاث الجنسية) The Journal Of Sex Research بعنوان: ”البقاء للأسرع، أصل سرعة القذف“ كتب فيها (هونغ) -الذي يشتهر حالياً بأبحاثه في التحول الجنسي:

استمدَّ (هونغ) هذا الافتراض من أنّ الذكور يحتاجون إلى دقيقتين وسطياً بعد الإيلاج فقط للوصول إلى النشوة الجنسية، بينما تحتاج الإناث إلى ضعف ذلك الوقت تقريباً بعد الإيلاج لبلوغ النشوة الجنسية، هذا إذا تمكنَّ من بلوغها في الأساس.

يمكن فهم هذا الفرق الواضح بين الجنسين بحسب (هونغ) عندما نعرف أنَّ الجنس تطوّر بهدف التكاثر وحسب، ولم يتطوّر ليلبّي حاجاتنا الترفيهية، وذكّرنا أن ممارسة الجنس بهدف الجنس فقط (دون التكاثر) هو ابتكارٌ حديث نسبياً، عززته العقاقير المانعة للحمل وغيرها من أساليب الوقاية من الحمل.

كما قارن الكاتب بين عادات التزاوج عند البشر وأنواعٍ أخرى من فصيلة الرئيسيات سريعة وغير سريعة القذف، وأشار إلى أنه كلما قصرت مدّة التزاوج عند نوعٍ ما؛ انخفضت عدوانيته عندما يتعلق الأمر بالسلوكيات الجنسية، وسمّى ذلك ”فرضية انخفاض السرعة وازدياد العدائية“، وضرب مثالاً عن قرود (ماكي ريسوس) التي عادةً ما تدخل سباقاً طويلاً للتزاوج مع الإناث، حيث قد تمتد عملية التزاوج لساعة من الزمن (تتخللها عدة استراحات لا يمارس فيها الإيلاج والسحب) قد يبدو ذلك ممتعاً ولكن لينتبه الشبقون جنسياً هنا، فالجنس عند قرود (ماكي) فوضويٌّ وعنيف، وذلك لأن طول مدّة العملية الجنسية تجذب عدائية الذكور المنافسة الأخرى، وعلى الوجه الآخر كانت الذكور التي استطاعت القذف بعيدة عن المخاطر أو العنف أو قلصته إلى أقل حد ممكن.

بالتالي، فإن مفتاح تحليل (هونغ) هو أن سرعة القذف لدى الذكور هي عملية وراثية، أي أن تبايناً ظهر من هذه الناحية بين أسلاف الإنسان، ولكن بمرور والوقت، حسب قوله ”اكتظت أعداد الهوموسابيان (البشر) بالقاذفين السريعين“ فالذكور الصغار النشطون جنسياً (الذين كانت لديهم قضبانٌ أكثر حساسية مثلاً) استطاعوا تفادي الإصابات والعيش لفترات أطول، وكانت لديهم فرص أكبر للقيادة والحصول على الإناث.

لاقت أفكار (هونغ) دعماً كبيراً في هذه الفترة، ففي مقالة نشرت عام 2009 في (المجلة العالمية لأبحاث العجز الجنسي) International Journal of Impotence Research جاء فيها قيام فريق من الباحثين النفسيين الفنلنديين برئاسة (باتريك جيرن) في جامعة (آبو أكاديمي) Abo Akademi University بدراسة أدلة تظهر أن سرعة القذف لها أسباب وراثية، فما افترضه (هونغ) عام 1984 أثبته (جيرن) وزملاؤه الذين وجدوا أيضاً أن تأخر القذف ليس لديه أية أسباب وراثية، وهو حسب قولهم ”غير مناسب تطورياً أبداً“، أما القذف المبكر فهو نتاج للانتقاء الطبيعي، فالذين لديهم تأخر القذف هم الأكثر ندرة، وتبلغ نسبتهم 0.15٪ من إجمالي الذكور، وتحتاج أغلب هذه الحالات إلى الاهتمام الطبي المستمر وتناول أدوية كمضادات الأكسدة المناعية أو مثبطات امتصاص السيروتونين الانتقائية (SSRIs)، أو الأدوية العصبية، أو أدوية حديثة الانتشار لها تأثيرات جانبية خطيرة: كعدم القدرة على بلوغ النشوة الجنسية المزمن، أو غيره من التأثيرات.

بالإضافة لأبحاثهم عن ارتباط التطور بهذه المسألة، نشر (جيرن) وزملاؤه العام الماضي أبحاثاً مستمدة من بيانات أخذوها من تجارب ذاتية في (مجلة الطب الجنسي) The Journal of Sexual Medicine تظهر أن استثارة القذف كانت أقصر بكثير عند الذكور الذين يحاولون الوصول إلى النشوة عن طريق الجنس المهبلي، مقارنة بنشاطات أخرى مثل الجنس الشرجي، أو الفموي، أو الاستمناء، وتحت ضوء هذه الأبحاث يقترح الباحثون التعامل مع كل حالة من حالات ”توقيت“ القذف على حدى، وألا يتم التعامل معها كظاهرة طبية عامة، واقترحوا إطلاق اختصارات على أسماء حالات توقيت القذف الفرعية مثل: (أويلت) OELT التي ترمز إلى (زمن القذف عند الجنس الفموي) Oral ejaculation latency time، و(ميلت) MELT التي ترمز إلى (زمن القذف عند الاستمناء) Masturbation ejaculation latency time.

لم يغفل (هونغ) ذكر موضوع النشوة الجنسية عند الإناث، ولكنه مثل العديد من الباحثين في زمنه -مثل (جاي غولد) الذي اعتبر أن النشوة الجنسية عند الإناث هي مثل الحلمات عند الذكور، بقايا تتمسك بوجودها في الأجنة البشرية- ورأى (هونغ) أن المتعة الجنسية عند الإناث هي أمرٌ لطيف، ولكنه لم يلعب دوراً هاماً في التطور الجنسي، وكتب كقاعدة عامة بالنسبة للإناث:

يعترف (هونغ) مع الكثير من التواضع والفكاهة بأن أفكاره عن الأسباب التطورية للقذف المبكر عند الذكور هي محطّ شك كبير، وقد انتقدت هذه الأفكار بكفاءة من قبل الباحث النفسي في جامعة (لويسفيل) University of Louisville (راي بيكسلر) Ray Bixler الذي كتب مراجعة جيدة لفرضية (هونغ) عام 1986 في (مجلة الأبحاث الجنسية)، ومن بين الكثير من العيوب التي وجدها في فرضية (هونغ) المعنونة (البقاء للأسرع)، هو إغفال سعي الإناث الواضح لممارسة الجنس، فعند الشيمبانزي على سبيل المثال -وهي حيوانات يقاس زمن القذف عند ذكورها بالثواني وليس بالدقائق- الإناث هنَّ من يبدأ العملية الجنسية عادةً، وهناك أيضاً العامل المؤلم الذي نجده عندما تكون هناك أنثى رافضة للعملية الجنسية، فتصبح أعضائها الجنسية الجافة عاملاً منفراً.

ويقول (بيكسلر): ”إذا كان افتراض (هونغ) صحيحاً، فلن نرى سبباً غير الإكراه بالنسبة للإناث لكي يدخلن العملية الجنسية، ويجب أن يكون واضحاً أنه إذا تعاونت الإناث لممارسة الجنس سريعاً، فلن تكون أعضاؤهنَّ الجنسية رطبة، وسيضطر الذكر إلى إيلاج قضيبه عنوة مما سيؤدي لتجربة مؤلمة عند الإناث، وتجربة غير ممتعة للذكور أيضاً“.

للأسف، يتوقف التفكير التطوري عند هذا الحد، فمن الواضح أنه لم يقم أيُّ باحث آخر باستكمال ما بدأه (هونغ) لاستثارة المزيد من الجدل حول موضوع الزمن المحتاج للقذف عند الذكور، فلا يوجد إلا بعض الكلمات التي تطفو هنا وهناك، مثل تقرير الباحثين الفنلنديين الذي يقول أن الجنس المهبلي يؤدي إلى زمن قذف أسرع من باقي الممارسات الجنسية.

ولكن ورقة بحث (هونغ) كانت ”مبكرة“ بحد ذاتها، وفي هذا الوقت الذي يحتوي على معلومات أكثر في مجال علم الأحياء التطوري، يمكن بناء نظريات جديدة أكثر دقة وشموليةً.

يمكن تتبع قطعة كبيرة من قطع التركيبة وإيجادها في إمكانيات البشر الخاصة في تطور التقارب الاجتماعي الذي بدأ قبل عشرات آلاف السنوات فقط، وتعتبر هذه الفترة قصيرة جداً في تاريخ تطورنا، هذا التقارب الاجتماعي مكننا من اختبار التعاطف مع الشريك خلال الجنس، وأصبح الذكر يهتم بتوفير المتعة لشريكته خلال الجنس، فيتعمد إطالة العملية الجنسية لكي تصل شريكته إلى النشوة، ولم نر هذا النشاط يحدث عند أنواع أخرى، فكل الأنواع تبدأ العملية الجنسية على اعتبار أن شركائها في التزاوج هم مجرد لحمٍ متراكم فوق بعضه.

قد لا يهمّ هذا الموضوع الكثيرين، ولكن بسبب الآراء السلبية تجاه القذف المبكر نعتقد أن التعامل مع هذه ”المشكلة“ على أسس تطورية سيفيد إلى حد كبير في الحلول السريرية لها، وهي مشكلة تلقى اهتماماً علاجياً متزايداً، ويتم العمل عليها علاجياً بشكل كثيف.

في جميع الأحوال، يجب أن تستوقفنا فكرة (هونغ) قبل وصف أيّ حالة من حالات القذف في المهبل بـ”المبكر“، فلا بد أن أمّنا الطبيعة قد لعبت دوراً في ذلك مع أسلافنا.

مقالات إعلانية