in

القصة الكاملة وراء حادثة إطلاق النار الشهيرة في ثانوية كولومباين الأمريكية

في صبيحة يوم الثلاثاء 20 أبريل سنة 1999، لاحظ طالب السنة الأخيرة في ثانوية (كولومباين) وهو (بروكس براون) أمرا غريبًا: كان صديقه أحيانا وعدوه أحيانا أخرى الشاب (إيريك هاريس) قد تخلّف عن عدة صفوف مدرسية، والأغرب أن (هاريس) الذي كان طالبا متفوقًا قد فوّت إجراء امتحان مادة الفلسفة التي يعشقها كثيرًا.

مباشرة قبل استراحة الغداء، خرج (براون) من مجمع الصفوف في الثانوية باتجاه منطقة مخصصة للمدخنين بالقرب من موقف السيارات الخاص بالطلبة. في طريقه إلى هناك، التقى بـ(هاريس) الذي كان يرتدي معطفًا طويلاً واقيا من المطر وكان يحمل حقيبة ضخمة وتبدو ثقيلة من سيارته التي ركنها في نقطة بعيدة عن مكانها المعهود.

بينما بادر (براون) بمواجهة صديقه القديم (هاريس)، قاطعه هذا الأخير مخبرا إياه: ”لم يعد الأمر يهم بعد الآن (بروكس)، أنا أحبك الآن. أخرج من هنا، عد إلى المنزل“. كان (براون) مرتبكا، لكن هذه كانت طبيعة العلاقة التي جمعته بـ(هاريس)، فخلال السنة التي سبقت وقوع الحادثة، كان (هاريس) قد قام بأفعال شنيعة تجاه (براون) حيث قام بتشويه واجهة منزله، كما وضع تهديدات بالقتل في حقه على الإنترنت، ناهيك عن تبجحه حيال تجاربه في صناعة القنابل.

قام (براون) بعدها بهز رأسه ممتعضًا وسار في حال سبيه خارج حرم الثانوية، وعندما ابتعد بحوالي مربع سكني واحد عن مقر الثانوية، سمع صوت طلقات نارية، اعتقد في البادئ أنها ألعاب نارية وواحد من مقالب (هاريس) البليدة، لكن بعد قليل صار صوت الطلقات أسرع، فبدأ (براون) على إثر ذلك يسرع بالركض ويدق أبواب المنازل طالبا منهم استخدام الهاتف للاتصال بالشرطة.

في غضون ساعة واحدة، كان (هاريس) البالغ من العمر 18 سنة وصديقه وشريكه (ديلان كليبولد) البالغ من العمر 17 سنة قد صارا في عداد الأموات. في نفس الوقت كانا قد اغتالا 12 طالبًا في تلك المدرسة الثانوية ومدرّسا واحدًا، فيما أصبح يعرف آنذاك على أنه أفظع حادثة إطلاق نار في التاريخ الأمريكي وأكثرها حصادا للأرواح.

في السنوات العشرين التي تلت الحادثة، تم حشو المخيلة الشعبية بتفسير مقبول عن الدوافع التي أدت بهذين الشابين لاقتراف فعلتهما تلك، حيث قيل أن (هاريس) و(كليبولد) كانا طالبين منبوذين وكانا ضحية للتنمر ما دفع بهما إلى حدود الانفجار بالطريقة التي انفجرا بها.

إنها الصورة التي علقت في ذهنية الشعبية وألهمت بشكل مباشر الحركة المناهضة للتنمر الحديثة، كما ألهمت إنتاج عدة أعمال سينمائية وتلفزيونية عن التنمر على شاكلة Reasons Why 13، وDegrassi، وغيرها.

منحت هذه الفكرة المغلوطة على عدة جوانب وأصعدة شرحًا مريحا وبسيطا عن حادثة إطلاق النار في ثانوية (كولومباين)، لكنها مثلما يصفها (بروكس) في كتابه الذي ألفه سنة 2002 حول الحادثة: ”لا توجد لها أية أجوبة سهلة“.

(إيريك هاريس) و(ديلان كليبولد) قبل المجزرة:

(ديلان كليبولد) على اليسار و(إيريك هاريس) على اليمين، حوالي سنة 1998-1999.
(ديلان كليبولد) على اليسار و(إيريك هاريس) على اليمين، حوالي سنة 1998-1999. صورة: Columbine Wikia

حتى يناير من سنة 1998، كان (إيريك هاريس) و(ديلان كليبولد) يعيشان حياة طبيعية. كان (كليبولد) مشهورا بخجله وقدراته العقلية الكبيرة، فقد كان هو و(بروكس) يحضران معا برنامجا يدعى «تحدي الطلبة ذوي القدرات العقلية العالية» الذي يعنى بالأطفال الموهوبين ابتداء من الصف الثالث في المدرسة. ترك (براون) هذا البرنامج بعد سنة فقط قائلا أن السبب كان الطبيعة التنافسية الحادة بين التلاميذ وعدم توفير المدرّسين للدعم المناسب. بقي (كليبولد) في البرنامج إلى غاية الصف السادس الدراسي، وقد كان شخصا انطوائيا لا يتشارك مشاعره مع الغير، وبدل ذلك تركها تتراكم في نفسيته إلى أن صار ينفس عن غضبه في نوبات غريبة.

أما (إيريك هاريس)، فقد كان ابنا لربان طائرة عسكرية، وكان قد قضى قسما كبيرا من طفولته يتنقل من مكان إلى آخر بحكم طبيعة عمل والده. كان يحب كثيرا قصص الحرب، وكان بصورة دائمة يلعب دور الجندي، وكان يحب تقمص دور جندي البحرية على وجه الخصوص في لعبة كان يلعبها هو وشقيقه الأكبر وأطفال حيّهما في ضواحي مدينة (ميتشيغان). في مخيّلته، كانت الألعاب مليئة بالعنف، وكان هو دائما البطل فيها.

عندما بلغ من العمر 11 سنة، اكتشف (إيريك هاريس) لعبة تحمل اسم Doom، التي كانت في الملخص لعبة حركة وعنف ورعب شديدين. بينما كانت حياة والده العملية تفرض عليه الانتقال بشكل شبه دائم، وكانت تبعده عن أصدقائه ومدارسه التي ما كاد يعتاد عليها، صار (هاريس) يجد نفسه متعلقا أكثر فأكثر بالحواسيب والإنترنت، وبحلول سنته الثانية في ثانوية (كولومباين)، كان (هاريس) قد ابتكر 11 مستوى معدلا عن لعبة Doom ونسختها الثانية Doom 2.

كان (هاريس) و(كليبولد) قد التقيا أول مرة في حياتهما في المدرسة الإعدادية، لكنهما لم يصبحا صديقين مقربين إلا في المدرسة الثانوية. بينما قد يقترح البعض أن كلا الولدين كان هدفا للتنمر وضحية له، فإن الكثير من القصص والروايات عن حياتهما تظهرهما على أنهما كان شخصيتان شعبيتان، وكانت لديهما دائرة معارف وأصدقاء لا بأس بها، وكان ما جمع بين (هاريس) و(كليبولد) و(براون) هو حبهم الكبير للفلسفة وألعاب الفيديو.

انضم (براون بروكس) لقسم المسرح في الثانوية ثم تبع خطاه (كليبولد)، فكان الإثنان يعملان على المسرح في مجال هندسة الصوت. كان الإثنان يحضران مباريات كرة القدم بصفة منتظمة بشكل أساسي لتشجيع شقيق (هاريس) الأكبر، الذي كان يتمتع بشعبية كبيرة آنذاك، مما جعل (هاريس) يحظى بالمزيد من الشعبية، كما تمكن حتى من الدخول في علاقة حميمية مع فتاة في سنته الأولى في الثانوية.

لكن عندما أخبرته تلك الفتاة بأنها لم تعد ترغب في رؤيته بعد عدة مواعيد بينهما، استعرض (هاريس) واحدة من علامات الخطر المبكرة خاصته، فبينما راح (براون) يشتت انتباه الفتاة، قام (هاريس) بتغطية نفسه بدماء مزيفة بالقرب من صخرة، فصرخ ثم انهار على الأرض مدعيا الموت. أثار هذا المقلب الثقيل فزع الفتاة كثيرا وقررت عدم التحدث إليه أبدًا، لكن أصدقائه وافقوه الرأي بأن المقلب كان ”ظريفًا للغاية“.

ثم بدأ الصبيان يقومان ”بالمهام“

(إيريك هاريس) في صورة الحولية لمدرسة (كولومباين) الثانوية. حوالي سنة 1998.
(إيريك هاريس) في صورة الحولية لمدرسة (كولومباين) الثانوية. حوالي سنة 1998. صورة: Columbine High School

كان التنمر مظهرا شائعا في مدرسة (كولومباين) الثانوية، كما يقال أن المدرسين لم يبذلوا المجهودات اللازمة لوقفه. بالنسبة لعيد الهالوين لسنة 1996، كان أحد ضحايا التنمر شبه الدائم شاب يدعى (إيريك دوترو)، وكان قد جعل والديه يقتنيان له رداءً طويلاً أسود اللون ليتقمص شخصية دراكولا. لم يكن الزي مناسبا لكنه أعجب بالسترة التي كانت عبارة عن معطف واقي من المطر لأنه جذب إليه الكثير من الاهتمام.

سرعان ما بدأ أصدقاؤه في ارتداء هذه المعاطف الطويلة، حتى عندما كانت درجة الحرارة عالية جدا، وعندما علق أحد الرياضيين ذوي الشعبية الكبيرة على منظر المجموعة بأنهم يبدون مثل ”مافيا المعاطف الطويلة“، حولها هؤلاء الأخيرون إلى شارة فخر يتبجحون بها، ثم علق هذا الإسم معهم وصار مرافقا لهم.

لم يكن (إيريك هاريس) و(ديلان كليبولد) ضمن مافيا المعاطف الطويلة، الذين تخرج معظمهم سنة 1999 من المدرسة الثانوية، لكن صديقا لهم يدعى (كريس موريس) كان ضمن تلك المجموعة. كان (موريس) يعمل بدوام جزئي في مطعم محلي لتقديم البيتزا، وكان هو من ساعد (هاريس) على الحصول على وظيفة هناك في الصائفة التي تلت السنة الثانية في الثانوية.

سرعان ما تبع (كليبولد) خطى (هاريس) وحصل هو الآخر على وظيفة له في نفس المطعم. كان (هاريس) مثالا عن الموظف الجيد، حيث كان يحضر في الوقت المحدد ولم يكن يتأخر أبدًا، وكان مهذبًا، كما كان يحب العمل، وكان متفانيا فيه وجيدا فيه لدرجة أن صاحب المطعم عينه رئيسا لفريق مناوبة الموظفين بعد العمل هناك لمدة سنة فقط. استخدم (هاريس) موقعه ذلك من أجل استمالة الفتيات من خلال منحهن شرائح بيتزا مجانية.

خلال هذه الفترة تشكلت الروابط القوية بين (هاريس) و(كليبولد)، كما كانت هذه الفترة قد شهدت تغيرا جذريا في سلوكاتهما، حيث أصبح (هاريس) أكثر جرأة وغرابة، بينما كان (كليبولد) يحذو حذوه ويعتبره مثالا أعلى.

في إحدى الليالي، يتذكر (براون) أنه وأحد أصدقائه ظلا مستيقظين حتى الساعة الثالثة صباحا يلعبان ألعاب الفيديو في منزله، ثم سمع طرقا خفيفا على زجاج نافذته فاستدار ليجد (هاريس) و(كليبولد) فوق الشجرة مرتديين لباسا أسود اللون، وبعد أن سمح لهما بالدخول، شرحها له كيف أنهما صارا يقومان ببعض المهمات على شاكلة تشويه مناظر منازل الآخرين بأوراق المرحاض، والقيام بأعمال غرافيتي، وإحراق النباتات التي يضعها البعض على شرفات منازلهم الأمامية.

كانت هذه المهام أحيانا عبارة عن ”رد“ على مناوشات طفيفة تحدث في المدرسة الثانوية، لكن معظمها كان بداعي المرح والعبث، بمرور الوقت، لاحظ (براون) أن المهام صارت أكثر قسوة.

طلب مساعدة يائس يمرّ دون ملاحظة

صورة (ديلان كليبولد) حوالي سنة 1998
صورة (ديلان كليبولد) حوالي سنة 1998. صورة: Heirloom Fine Portraits

بعد عيد الهالوين سنة 1997، راح (هاريس) وصديقه (كليبولد) يتبجحان حول مطاردة الأطفال الذين يطرقون أبواب المنازل طالبين ”الحلوى أو الحيلة“ بمسدسات مقلّدة تطلق عيارات معدنية BB Gun. في نفس السنة، تم فصل (كليبولد) من المدرسة مؤقتا بسبب نحته لعبارات معادية للمثلية تنم عن رهاب المثلية في الخزانة المدرسية لأحد الطلبة.

في تلك الأثناء، راح (هاريس) يبعد الناس المقربين عنه بسبب سلوكاته، ولأنه لم يكن قادرا على قيادة السيارات بمفرده بعد، كان يعتمد على (براون) في تنقله من وإلى المدرسة الثانوية. كان (براون) شخصا كسولا وكان دائما ما يأتي متأخرا على المواعيد، وهو الأمر الذي كان يزعج (هاريس) كثيرا لأنه كان شخصا دقيقا في مواعيده.

في نهاية المطاف، بعد أن احتدم الجدال بين الإثنين في إحدى المرات، أخبر (براون) (هاريس) بأنه لن يقلّه معه من الآن وصاعدا.

بعد بضعة أيام، وبعد أن توقف لبرهة عند مفترق طرق، قام (هاريس) بتحطيم زجاج سيارة (براون) الأمامي بكتلة من الجليد القاسي. شعر (براون) بغضب شديد وأخطر والديه على الفور بهذا الاعتداء، كما أخبرهم بعادات (هاريس) السيئة في الإفراط في تناول الكحول وبعض السلوكات السيئة الأخرى.

في تلك الفترة، كان الغضب الذي ظل يحتقن ويتراكم داخل نفسية (إريك هاريس) قد وجد له هدفا يركز عليه. في شهر يناير من السنة الموالية، تقرب (كليبولد) من (براون) داخل المدرسة الثانوية، وسلم له قصاصة ورق مع عنوان إلكتروني مكتوب عليها وقال له: ”أعتقد أنه يجب عليك إلقاء نظرة على هذا الليلة“، واستطرد قائلاً: ”لا يمكنك إخبار (إيريك) أنني أعطيتك هذا“.

لم يكن (براون) متأكدا لم قام (كليبولد) بذلك، لكن (دايف كولن)، مؤلف رواية (كولومباين)، يقول بأن ذلك قد يكون واحدة من عدة محاولات يائسة لجذب الاهتمام لسلوكات (هاريس) المقلقة، أي أن ذلك كان بمثابة طلب مساعدة غير صريح.

صورة (ديلان كليبولد) على اليسار و(بروكس براون) في المدرسة الإعدادية.
صورة (ديلان كليبولد) على اليسار و(بروكس براون) في المدرسة الإعدادية.

على الموقع السابق، كان (هاريس) تحت حسابه المسمى Reb اختصارا لـRebel أي ”متمرد“ يسرد بالتفصيل مغامراته الليلية مع VoDka، وهو اسم (كليبولد) المستعار، واصفا عدة أعمال تخريب بما في ذلك صنع قنابل من قارورات الغاز، والتعبير عن رغبته في قتل الناس، على وجه الخصوص رغبته في قتل (بروكس براون).

أخطر والدا (براون) رجال الشرطة، وقد لاحظ المحقق الذي تحدثا إليه وجود قنابل مصنوعة من قوارير الغاز في المنطقة، وكان اعتقاده أن التهديدات كانت واقعية بما فيه الكفاية وخطيرة لتحرير تقرير رسمي حولها. بعد بضعة أيام، تغيب (هاريس) و(كليبولد) عن المدرسة، وانتشرت الشائعات في مدرسة (كولومباين) الثانوية بأنهما واقعان في ورطة حقيقية.

شعر آل (براون) بالراحة لاعتقادهما بأنهما تكفلا بالمشكلة، غير أن ما كانا يجهلانه هو أن (هاريس) و(كليبولد) قد تم اعتقالهما لجريمة مختلفة تماما: وهي اقتحام شاحنة مغلقة وسرقة معدات إلكترونية كانت داخلها.

تمكن السيد (واين) وهو والد (هاريس) من إدخال كلا الصبيين إلى برنامج تحويل في نظام العدالة الجنائية بدلا من دخول سجن الأحداث، وبمجرد اكتمال ساعات البرنامج المفروضة عليهما، تم اعتبار الولدين مؤهلين بنجاح للعودة إلى الحياة الاجتماعية الطبيعية، كما منحا سجل سوابق عدلية نظيف تمامًا، ولو أن القاضي الذي منحهما العفو اطلع على تقرير آل (براون)، أو لو أن مذكرة التوقيف الناتجة عنه قد أُصدرت، لما قُبل (هاريس) في ذلك البرنامج وربما كان ليزج به في السجن، كما كانت الشرطة لتعثر على ترسانته من قنابل القارورات الغازية. لسبب يبقى مجهولًا، لم تتم مشاركة تلك المعلومة وذلك التقرير أبدًا، ولم يتم التوقيع على مذكرة البحث والتفتيش تلك على الإطلاق.

وفقا لشهادة الجميع، كان (هاريس) مشاركا نموذجيا في برنامج التحويل الآنف ذكره، فقد بدا تائبا ونادما بشكل كبير على ما اقترفه، كما ظل يحصد أعلى النقاط في ذات البرنامج ولم يفوّت ولا حصة استشارة واحدة. غير أنه خلف تلك الواجهة المثالية، أشعل الإحراج الذي تسبب فيه إلقاء القبض عليه بالجرم في داخله وصديقه (كليبولد) شعلة من الحقد والكراهية.

بحلول ربيع سنة 1998، كان الثنائي قد بدأ التخطيط بالفعل لما أسموه ”يوم الحساب“ أو NBK، التي هي اختصار Natural Born Killers أو ”قتلة بالفطرة“.

داخل عقل (هاريس) و(كليبولد):

رسومات من دفتر يوميات (إيريك هاريس).
رسومات من دفتر يوميات (إيريك هاريس).

يمنح دفترا يوميات كل من (هاريس) و(كليبولد) لمحة إلى مخططهما ”يوم الحساب“ وتركيبتهما النفسية في ذلك الزمن. في أوائل سنة 1998، توقف (هاريس) عن نشر المحتوى على موقعه على الإنترنت وبدأ بتأليف كتيب صغير منحه عنوان «كتاب الله»، الذي كرس معظمه لتخيلاته في القتل وفلسفته المخالفة لكل ما هو أخلاقي.

كما كان (كليبولد) يحتفظ بدفتر يومياته الخاص وكتيبه الذي عنونه «الوجود: كتاب افتراضي»، وذلك منذ ربيع تلك السنة، غير أن الاختلافات بين الاثنين كانت كبيرة جدا بشكل صادم.

كان (كليبولد) يكتب بأسلوب نثري وشعري منمّق غير أنه متجهم نوعا ما حول الله، والتطبب الذاتي بالكحول، وإيذاء نفسه، وأفكاره الدائمة حول الانتحار، وبعيدا عن العنف، كان يتحدث عن الحب في كلا جانبيه المجرد والمحسوس وعلى الصعيد الشخصي كذلك.

يحتوي دفتر يومياته على رسالتين اثنتين لفتاة كان مهتما بها، غير أنه لم يرسل بأي من الرسالتين، كما كان دفتر يومياته يحتوي على الكثير والكثير من قلوب الحب.

بصفة عامة، كان (كليبولد) يشعر بأنه قد خرّب حياته وأن لا أحد كان يستطيع فهمه، كان يرى أن الآخرين كانوا عبارة عن ”زومبي“ أو أحياء-أموات، غير أنه كان يرى بأنهم كانوا محظوظين، وكما كتب في صفحة دفتر يومياته الأولى: ”حقيقة مثبتة: الناس في جهل شديد.. حسنًا، الجهل نعمة على ما أعتقد… هذا ما قد يفسر سبب اكتئابي“.

رسومات أولية وملاحظات أخذت من دفتر يوميات (هاريس).
رسومات أولية وملاحظات أخذت من دفتر يوميات (هاريس).

بينما كان دفتر يوميات (هاريس) يتصف بنوع من التفكير الذاتي بصفة عامة. بالنسبة له، كان البشر عبارة عن ”روبوتات“ تم الاحتيال عليهم وحملهم إلى اتباع نظام اجتماعي خاطئ، وهو نفس النظام الاجتماعي الذي ”تجرأ على الحكم عليه“، فكتب قائلًا: ”أنا لدي شيء لا يشاركني فيه سوى V [في إشارة إلى صديقه (كليبولد)]، وهو الوعي الذاتي“، وكان قد كتب هذه الكلمات قبل سنة تماما من وقوع المجزرة.

كان (هاريس) يرى بأن الآخرين لم يكونوا يفكرون تفكيرا حراً وما كانوا لينجوا من ”اختبار الهلاك“. الحل النهائي على حد تفكيره، مثل ذلك الذي أتى به النازيون، هو ما كان لينقذ العالم: ”الانتخاب الطبيعي“، وقد كانت تلك نفس الكلمات التي كتبت على قميصه أثناء الهجوم المسلح الذي نفذه وصديقه (كليبولد) على طلبة المدرسة الثانوية.

صفحة من دفتر يوميات (إريك هاريس) تظهر رسومات وملاحظات على علاقة بالأسلحة و”الهلاك“.
صفحة من دفتر يوميات (إريك هاريس) تظهر رسومات وملاحظات على علاقة بالأسلحة و”الهلاك“.

غالبا ما كانت قسوة ووحشية (هاريس) غير مركزة على هدف معين ولم تكن نابعة عن إهانة أو اختلاف معين. لقد كانت قهرية. بالإضافة إلى كرهه للبشر وحبه للنازيين ورغبته في قتل ”الجنس البشري“، في مقدمة ليومياته من سنة 1998، وصف (هاريس) تخيلاته عن اغتصاب فتيات من مدرسته الثانوية، قائلاً: ”أريد الإمساك ببعض الفتيات الجديدات الضعيفات وتقطيعهن إربا إربا مثل ذئب لعين. أن أظهر لهم من هو الله الحقيقي“.

في مقدمة لمؤتمر لخبراء علم النفس بعد سنوات من حادثة إطلاق النار، قدّم (دواين فيزيليي) من مكتب التحقيقات الفدرالي اعتقاده بناء على تخيلات (هاريس) في القتل ومهارته في الكذب وانعدام الشعور بالندم لديه قائلا: ”كان (إيريك هاريس) سايكوباثيًا بصدد التطور“. كرد على هذا التصريح، عارض أحد الخبراء المشاركين قائلاً: ”أعتقد أنه كان سايكوباثيًا مكتمل التطور“، وهو ما اتفق عليه عدد من خبراء علم النفس في ذلك المؤتمر.

التحضير ليوم الحساب في مدرسة (كولومباين) الثانوية:

من اليسار إلى اليمين: (إيريك هاريس) و(ديلان كليبولد) يتفحصان بندقية مقطوعة الماسورة، في ميدان رماية تقليدي، قبل وقت قصير من وقوع حادث إطلاق النار. السادس من مارس سنة 1999.
من اليسار إلى اليمين: (إيريك هاريس) و(ديلان كليبولد) يتفحصان بندقية مقطوعة الماسورة، في ميدان رماية تقليدي، قبل وقت قصير من وقوع حادث إطلاق النار. السادس من مارس سنة 1999. صورة: Jefferson County Sheriff’s Department via Getty Images

على مدى سنة كاملة من الزمن قبل وقوع حادثة إطلاق النار في مدرسة (كولومباين) الثانوية، كرّس (هاريس) نفسه لصناعة عشرات من المتفجرات والقنابل المصنوعة من قارورات الغاز. كما حاول حتى صناعة قنابل النابالم الحارقة، وفي مرحلة ما حاول تجنيد (كريس موريس) —الذي سبق لنا ذكره—

كان (هاريس) يدون كل ما يلاحظه حول تحركات الطلبة في المدرسة الثانوية، كما سجل عدد المخارج. حتى أنه أجرى أبحاثا حول قانون (برادي) وعدة ثغرات في قوانين حيازة الأسلحة، وذلك قبل أن يقرر أخيرا في الثاني والعشرين من نوفمبر سنة 1998 الانضمام إلى (كليبولد) من أجل إقناع صديقة مشتركة بينهما تبلغ من العمر 18 سنة —التي صارت لاحقا رفيقة (كليبولد) في حفل التخرج— بأن تشتري لفائدتهما بنادق رش ذات مواسير قصيرة ورشاشا أوتوماتيكيا من أحد معارض الأسلحة. لاحقا قام (كليبولد) باقتناء مسدس نصف أوتوماتيكي من صديق آخر له خلف مطعم البيتزا الذي يعمل فيه.

على الرغم من أن (هاريس) ادعى بعد أن قاما باقتناء أولى بنادقهما بأنهما عبرا ”نقطة اللاعودة“، فإنه لم يأخذ بالحسبان بعض التعقيدات التي طرأت، حيث أنه قبل وقت قصير من رأس السنة، اتصل صاحب محل بيع الأسلحة المحلي بمنزل (هاريس) قائلا بأن الذخيرة التي طلبها من أجل الرشاش الأوتوماتيكي الذي اشتراه قد وصلت، والمشكلة أن والده هو من رفع السماعة، وعندما واجه ابنه بهذه المعلومة نفى هذا الأخير الأمر برمته قائلا بأنهم أخطأوا في رقم الهاتف.

غير أن أكبر عائق واجهه (هاريس) هو حالة رفيقه (كليبولد) العقلية، ففي عدة مرات قبل وقوع الهجوم كان (كليبولد) يكتب حول مخططاته في الانتحار وقتل نفسه، بما في ذلك سرقة واحدة من قنابل (هاريس) وربطها بعنقه ثم تفجيرها.

كانت العديد من يومياته التي ظل يدونها مختومة بعبارة ”الوداع“ كما لو أنه كان يتوقع منها أن تكون الأخيرة من جهته. يبقى غير معلوم ما تغير بين العاشر من أغسطس 1998 —آخر تهديد بانتحاره— ويوم وقوع الهجوم 20 أبريل 1999. في مرحلة ما، التزم (كليبولد) بمخطط ”القتلة بالفطرة“، هذا وقد يحدث أن يكون قد فكر في الأمر وكأنه طريقة انتحار مثيرة وسينمائية فيها نوع من الإثارة.

كتب في إحدى صفحات يومياته التي كانت من بين الأخيرة في حياته ما يلي: ”أنا عالق مع البشر. ربما سيحررني كوني فردا من عصابة ”قتلة بالفطرة“ مع (إيريك) منهم. أنا أكره هذا“.

انتهت الصفحة ما قبل الأخيرة في دفتر يوميات (كليبولد)، التي كتبها قبل 5 أيام من وقوع الهجمات، بالعبارة التالية: ”إنه وقت الموت، إنه وقت التحرر، إنه وقت الحب“، وكانت تقريبا جميع الصفحات المتبقية في ذلك الدفتر مملوءة برسومات لزيّه الذي من المفترض أن يرتديه في ”يوم الحساب“ والأسلحة التي سيستخدمها.

(إيريك هاريس) وهو يتمرن على الرماية بالأسلحة النارية في ميدان رماية تقليدي، قبل زمن قصير من وقوع حادثة إطلاق النار. في السادس من مارس سنة 1999.
(إيريك هاريس) وهو يتمرن على الرماية بالأسلحة النارية في ميدان رماية تقليدي، قبل زمن قصير من وقوع حادثة إطلاق النار. في السادس من مارس سنة 1999. صورة: Jefferson County Sheriff’s Department/Getty Images

عمل الثنائي في آخر مناوبة لهما لدى مطعم (بلاك جاك) لتقديم البيتزا في يوم الجمعة 16 أبريل. تمكن (هاريس) من الحصول من رب العمل على راتب مقدم لكليهما من أجل شراء بعض المؤونة الأخيرة.

حضر (كليبولد) حفل التخرج مع مجموعة من 12 صديقًا يوم السبت، بينما خرج (هاريس) في أول وآخر موعد غرامي له مع فتاة كان قد التقى بها مؤخرًا.

في يوم الإثنين ذلك، الذي كان من المفترض أنه تاريخ تنفيذ الهجمات الأصلي، أجّل (هاريس) تنفيذ المخطط حتى يتمكن من شراء المزيد من الرصاص من صديق له. يبدو أنه نسي بأنه قد أكمل سنته الثمانية عشر وأنه لم يعد في حاجة لوسيط ليشتري له الذخيرة والأسلحة.

لا تجري الأمور مثلما تم التخطيط لها:

بعض من الأدلة التي جمعتها الشرطة والتي عرضتها على العامة بعد خمسة سنوات من وقوع الهجمات، والتي تتضمن قنابل تقليدية مصنوعة من عبوات غاز البروبان.
بعض من الأدلة التي جمعتها الشرطة والتي عرضتها على العامة بعد خمسة سنوات من وقوع الهجمات، والتي تتضمن قنابل تقليدية مصنوعة من عبوات غاز البروبان. صورة: Craig F. Walker/The Denver Post/Getty Images

في صباح اليوم الموالي، أي 20 أبريل سنة 1999، استيقظ كلا الولدان وغادرا منزليهما بحلول الساعة الخامسة والنصف صباحًا من أجل التحضيرات النهائية للهجمات. بطريقة ما، ساعدت كتابات القاتلين على فك شيفرة حادثة إطلاق النار في ثانوية (كولومباين)، ليس لما كشفا عنه من مشاعر تختلج في نفسيتيهما، بل للتفاصيل التي اتسم بها مخططهما والطريقة التي أرادا من خلالها تنفيذه.

من الخارج، تبدو مجزرة مدرسة (كولومباين) الثانوية وكأنها حادثة إطلاق نار أخرى مثل التي تحدث في الولايات المتحدة على العموم، لكن من خلال ملاحظاتهما ودفتري يومياتهما، اتضح أنها كان من المفترض بها أن تكون تفجيرات على نطاق واسع، لكن لحسن الحظ فشل المخطط.

كانت تلك الحقيبة كبيرة الحجم التي كان (هاريس) يحملها عندما صادفه (بروكس براون) تحتوي على عدة قنابل موقوتة مصنوعة من قارورات غاز البروبان. تم وضع اثنتين منها داخل كافيتيريا الثانوية من أجل هدم السقف والسماح لـ(هاريس) و(كليبولد) بإطلاق النار على الطلبة بينما يفرون منها خارجين.

لاحظ كذلك (براون) أن سيارة (هاريس) كانت مركونة في نقطة بعيدة عن مكانها المعهود، وقد كان ذلك لأن كلا من سيارتي (هاريس) و(كليبولد) قد تم تفخيخها وإعدادهما بجهاز توقيت للانفجار بمجرد وصول الشرطة ورجال المطافئ والإسعافات والصحافة، أي قتل أكبر عدد ممكن من الأشخاص.

تم وضع قنبلة أخيرة على بعد حوالي 5 كيلومترات من المدرسة الثانوية، وتم إعدادها بجهاز توقيت لتنفجر قبل القنابل الأخرى من أجل أن تجذب اهتمام الشرطة بعيدا، مما يعني المزيد من الوقت لهما لقتل أكبر عدد ممكن من الأشخاص قبل أن تحول الشرطة اهتمامها لموقع الهجمات الفعلي لقتلهما، ذلك أن الانتحار على يد الشرطة كان المخطط النهائي لـ(هاريس) و(كليبولد).

غير أن جميع القنابل لم تنفجر وبالتالي لم تسر الأمور وفقا للمخطط.

صورة بندقية رش ورشاش هجومي تم استخدامهما في حادثة إطلاق النار في ثانوية (كولومباين). صورة: Mark Leffingwell/Getty Images
صورة بندقية رش ورشاش هجومي تم استخدامهما في حادثة إطلاق النار في ثانوية (كولومباين). صورة: Mark Leffingwell/Getty Images

ولأن هذه القنابل كانت أكبر من القنابل الأخرى، لم يتمكن (هاريس) و(كليبولد) من إخفائهما في منزليهما، وبدل ذلك، قررا صناعتها على عجالة صبيحة اليوم الذي من المفترض أن تقع فيه الهجمات. على الرغم من ذكائهما الكبير، فإنهما لم يكونا يملكان أدنى فكرة عن الطريقة الصحيحة التي يتم بها إعداد القنابل الموقوتة، وفشلا في إيجاد حل بسبب ضيق نافذة الوقت المتاح أمامهما. لحسن حظ طلبة ثانوية (كولومباين)، لم تنفجر أي من القنابل الموقوتة التي قاما بصناعتها.

بعد أن علم الثنائي بفشل جزء كبير من مخططهما، اتخذت قراراتهما منحى آخر تماما. على ما يبدو، كان (كليبولد) مترددا بعض الشيء عندما لم تنفجر القنبلة التي وضعاها في كافيتيريا الثانوية، حيث كان من المفترض بهما أن يقفا على مبعدة من بعضهما البعض بعدة أمتار حتى يتسنى لهما تغطية مدى إطلاق نار أوسع، لكن عندما بدأت عملية إطلاق النار على الطلبة، كان الإثنان يقفان بجانب بعضهما البعض في الموقع الذي من المفترض أن يقف فيه (كليبولد)، ومن هنا من السليم الجزم بأن (هاريس) اضطر إلى إقناع (كليبولد) بالمضي قدما في مخططهما في آخر لحظة، وحتى بعد إقناعه بذلك، كان (هاريس) هو أكثر من أطلق النار وأصاب الطلبة.

عبّر الناجون من الحادثة ورجال الشرطة على حد سواء عن حيرتهم حول السبب الذي جعلهما يتوقفان عن إطلاق النار فجأة. بعد نصف ساعة من وقوع الهجمات، كان (هاريس) و(كليبولد) في مكتبة المدرسة مع حوالي 50 طالبًا تحت رحمتهما، ثم غادراها سامحين لمعظم الطلبة المحتجزين بالفرار سالمين، ثم أطلقا النار على نفسيهما.

صورة المدخل الغربي لمدرسة (كولومباين) الثانوية: توضح تلك الأعلام الصغيرة النقاط التي عثر فيها على أغلفة العيارات النارية. 20 أبريل سنة 1999. صورة: Jefferson County Sheriff’s Office/Getty Images
صورة المدخل الغربي لمدرسة (كولومباين) الثانوية: توضح تلك الأعلام الصغيرة النقاط التي عثر فيها على أغلفة العيارات النارية. 20 أبريل سنة 1999. صورة: Jefferson County Sheriff’s Office/Getty Images

يبدو أن نقطة التحول الكبيرة كانت بعدما قتل (هاريس) أحد الطلبة بواسطة بندقية الرش خاصته، فارتدت هذه الأخيرة في وجهه كاسرة أنفه. بعد ذلك أظهرته كاميرات المراقبة هو و(كليبولد) يتوجهان إلى الكافيتيريا حيث حاولا جعل قارورات البروبان تنفجر باستعمال قنابل يدوية ثم من خلال إطلاق النار عليها من أسلحتهما لكن دون جدوى.

بعد ذلك حاولا استفزاز الشرطة من خلال إطلاق النار عبر النوافذ، غير أن رجال الشرطة امتنعوا عن رد إطلاق النار أو اقتحام المكان. في النهاية، عاد (كليبولد) و(هاريس) إلى المكتبة وتوجها إلى نقطة يتمكنان فيها من مشاهدة جبال الروكي ثم أطلقا النار على نفسيهما منتحرين.

الدافع الحقيقي وراء الأحداث التي وقعت في ثانوية (كولومباين)

طلبة ناجون من ثانوية (كولومباين) يجتمعون حول موقع تذكاري لتخليد ذكرى ضحايا الهجوم. في شهر مايو سنة 1999.
طلبة ناجون من ثانوية (كولومباين) يجتمعون حول موقع تذكاري لتخليد ذكرى ضحايا الهجوم. في شهر مايو سنة 1999. صورة: David Butow/Corbis/Getty Images

مقارنة بما تم التخطيط له من طرف (هاريس) و(كليبولد)، فقد كان الهجمات على ثانوية (كولومباين) فشلاً ذريعًا. تم التخطيط لتنفيذ هذه الهجمات في الأصل في يوم 19 من أبريل، وهو ذكرى وقوع حصار (واكو) وتفجيرات مدينة (أوكلاهوما)، وقد كان (هاريس) يأمل أن هجماتهما تلك ستتجاوز من ناحية الضحايا تفجيرات (أوكلاهوما).

كان (هاريس) يحلم بزرع القنابل حول (ليتلتون) و(دينفر)، وفي إحدى المرات كتب في دفتر يومياته أنه في حالة تمكن من النجاة هو و(كليبولد) من يوم الحساب، سيقومان بالاستيلاء على طائرة ركاب وتحطيمها في أحد مباني مدينة نيويورك.

لا يعتبر (إيريك هاريس) نفسه ولدا طيبًا دُفع نحو العنف بسبب سوء معاملة المجتمع له، فقد كان يرغب أن يكون إرهابيًا محليًا منذ البادئ، وفي رد له على قلق والديه حيال مستقبله، كتب: ”هذا ما أريد أن أفعله في حياتي“ —أي التعنيف والترهيب—

تقريبا قبل تمام السنة من وقوع هجمات ثانوية (كولومباين)، بدا وكأن (هاريس) منح لنا تفسيرا مقرّبا عن اختياره لإطلاق النار على مدرسة ثانوية، فهو لم يكن يهاجم مجموعة محددة من الأشخاص أو ثانوية (كولومباين) في حد ذاتها، بقدر ما كان يهاجم ما كانت المدرسة بصفة عامة تمثله بالنسبة له: ”نقطة إدماج في مجتمع هو يمقته، مجتمع يقمع التفرّد والطبيعة البشرية“.

كتب (هاريس) يوم 21 من أبريل سنة 1998: ”إن المدرسة هي طريقة المجتمع لتحويل جميع الشباب إلى روبوتات صغيرة مطيعة وعمال مصانع“، واستطرد: ”أفضل الموت قريبًا على خيانة أفكاري الخاصة. لكن قبل أن أغادر هذا المكان عديم القيمة، سأقتل كل من أعتبره غير ملائم لأي شيء على الإطلاق، خاصة الحياة“.

تقرير صحفي لشبكة CBS حول حادثة إطلاق النار في ثانوية (كولومباين).

كانت حادثة إطلاق النار في ثانوية (كولومباين) من بين أولى المآسي الوطنية الأمريكية في زمن الهواتف النقالة وقنوات التلفاز المختصة في بث الأنباء على مدار الساعة. سرعان ما وصل المراسلون الصحفيون من مختلف الشبكات التلفزيونية إلى مدرسة (كولومباين) الثانوية من أجل إجراء لقاءات صحفية مع المراهقين المصدومين.

قام بعض الطلبة، الذين لم يكن بمقدورهم الوصول إلى مصالح استعجالات المشافي المحلية التي صارت مكتظة بسبب الحادثة، بالاتصال بمحطات الأنباء التي كانت تبث على الهواء مباشرة شهادتهم التي يمكن اعتبارها غير موثوقة.

كان (كليبولد) و(هاريس) طالبين من بين 2000 طالب في مدرسة (كولومباين) الثانوية، وكان معظم من أجرت معهم قنوات الأنباء لقاءات صحفية لا يعرفونهما على الإطلاق، لكن هذا لم يمنعهم من الإجابة عن جميع أسئلة الصحفيين.

ومن هناك بدأت الصورة الشعبية عن (كليبولد) و(هاريس) تتشكل من تصريحات خاطئة، فقد افترض البعض أن (كليبولد) كان يعمل في المسرح ومنه كان مثلي الجنس وهو الأمر الذي جعله محط سخرية، ولأن كلا الولدين كان يرتدي معطفًا واقيا من المطر خلال الهجمات، فقد افترض الناس كذلك كونهما فردين من عصابة ”مافيا المعاطف الطويلة“.

بعد يوم من وقوع الهجمات، اجتمع طلبة ثانوية (كولومباين) خارج مقر المدرسة للصلاة على الضحايا. صورة: Zed Nelson/Getty Images
بعد يوم من وقوع الهجمات، اجتمع طلبة ثانوية (كولومباين) خارج مقر المدرسة للصلاة على الضحايا. صورة: Zed Nelson/Getty Images

كانت الشرطة تمثل مشكلة أخرى بحد ذاتها، حيث لم يكن مأمور مقاطعة (جيفرسون) قد تسلم مهامه إلا منذ شهر يناير الذي سبق الحادثة، وهو ببساطة لم يكن مؤهلا للتعامل مع وضع بهذا الحجم. بدلا من إرسال فرق التدخل الخاصة SWAT، ظلت الشرطة المحلية مرابضة في أماكنها إلى أن سئم (كليبولد) و(هاريس) من قتل الطلبة وانتحرا.

نزف أحد الضحايا الذي يدعى (دايف ساندرز) على الأرض حتى الموت بسبب بطء استجابة الشرطة وسوء تعاملها مع الموقف، كما تركت عدة جثث في أماكنها ولم يتم تحريكها خلال الليلة بطولها خوفًا من ”كونها مفخخة بالقنابل“، حتى أن بعض الأهالي لم يتم إخطارهم حتى بأن أبناءهم قد تعرضوا للقتل، ولم يعلموا بالأمر إلا من خلال التلفاز أو الجرائد.

طلبة ثانوية (كولومباين) وأفراد عائلاتهم ينتحبون ضحاياها في يوم للذكرى في منتزه (كليمونت) أثناء الذكرى السنوية الثانية لوقوع الهجمات.
طلبة ثانوية (كولومباين) وأفراد عائلاتهم ينتحبون ضحاياها في يوم للذكرى في منتزه (كليمونت) أثناء الذكرى السنوية الثانية لوقوع الهجمات. صورة: Hyoung Chang/The Denver Post/Getty Images

وكان الأسوأ ما في الأمر هو أن الشرطة قد تم إخطارها وتحذيرها من (هاريس) على وجه الخصوص على يد عائلة (بروكس براون) بعد أن راح يهدده ويعتدي عليه، حيث تم تحضير الأوراق اللازمة للحصول على إذن بتفتيش منزله لكن لسبب ما لم يتم المضي قدما في تلك الإجراءات، ولو أن الأمر سار وفقا لما هو معمول به، لكان بالإمكان تفادي حادثة إطلاق النار في ثانوية (كولومباين) ربما.

كنتيجة على ذلك، تحولت الموارد المتاحة من التحقيق إلى التستر، فعلى شاشات التلفاز، وسم مأمور المقاطعة (بروكس براون) بأنه متورط في الحادثة من أجل حمله على الصمت. كافحت عائلات الضحايا بضراوة من أجل طلب التصريح بالوثائق والإفصاح عنها لكنها فشلت.

وفجأة اختفى ملف (إيريك هاريس) لدى الشرطة بطريقة غامضة، ولم يتم إصدار الوقائع كاملة حيال ما حدث في ذلك اليوم المشؤوم والسبب وراء الواقعة إلا في سنة 2006، أي بعد أن هدأ اهتمام الشعب بالقضية.

بحلول ذلك الزمن، كانت المعتقدات السائدة حيال ما حدث يوم 20 أبريل 1999 قد دمغت في الوعي الشعبي العام، واليوم مازال معظم الناس يعتقدون أنه كان من الممكن منع وقوع حادثة إطلاق النار في ثانوية (كولومباين) لو أن الطلبة كانوا أقل قسوة مع (إيريك هاريس)، أي أن الناس مازالوا يعتقدون أنه كان ضحية التنمر وسوء المعاملة، وهذا ما جعله يتحول إلى قاتل عديم الرحمة.

مقالات إعلانية