in

دخلك بتعرف تجربة ”طوف الحب“ الاجتماعية المثيرة في عرض المحيط، التي مهّدت لظهور برامج تلفزيون الواقع

تجربة طوف الجنس الاجتماعية في سبعينات القرن الماضي

عندما أعيد عرض برنامج «الأخ الكبير» Big Brother آخر مرة؛ بدا وكأنه ببساطة لم يعد بوسعه منافسة كل تلك البرامج التلفزيونية المقلدة له والتي جاءت بعده. بعد كل شيء، ما الذي قد يجذبك إلى برنامج تلفزيون واقعي يدور حول مجموعة من الأشخاص الذي يقيمون في منزل إنجليزي يناقشون تكاليف اقتناء البقالة، بينما تتمحور البرامج الأخرى من نفس الفئة، مثل برنامج «جزيرة الحب»، حول شباب جذابي المظهر من كلا الجنسين يبحرون في تجارب جنسية وشهوانية، وتتحول أحياناً سلوكاتهم إلى هوس، وكل هذا يحدث في فيلا على شاطئ البحر الأبيض المتوسط؟

بالتأكيد، اتسعت شريحة برامج تلفزيون الواقع التي تتضمن أشخاصاً يجبَرون على العيش مع بعضهم البعض في أجواء ضيقة تدفع إلى الجنون، وقد كان اتساعها هذا بنوع من التدرج المتواصل، وخلال السنوات العشرين الماضية، أخذ الطابع الجنسي والعاطفي يطغى عليها بشكل أكبر. غير أنها، وعلى الرغم من التطور الحاصل في زمننا الحاضر وكل شيء، مازال لديها الكثير لتتعلمه عن سلفها: التجربة الاجتماعية التي أجريت في عرض المحيط في سنة 1973، والتي نالت لقب ”طوف الجنس“.

أبحر خمسة رجال وستة نساء على متن هذا الطوف لمدة 101 يوماً في عرض المحيط.
أبحر خمسة رجال وستة نساء على متن هذا الطوف لمدة 101 يوماً في عرض المحيط.

حملت هذه التجربة اسم «مشروع السلام» في الأصل، غير أنها سرعان ما نالت لقب ”طوف الجنس“ الذي ظلت الصحافة العالمية تقرنها به، تعرف هذه التجربة الاجتماعية كذلك باسم «تجربة أكالي» تيمناً باسم الطوف الذي جرت أحداثها على متنه، وتضمنت خمسة رجال وستة نساء من ديانات، وجنسيات، وخلفيات اجتماعية مختلفة، أبحروا مع بعضهم البعض عبر المحيط الأطلسي على متن طوف صغير لمدة 101 يوماً.

لم يتم عرض هذه التجربة على التلفاز على المباشر، حيث أن مساحة الطوف (أكالي) كانت صغيرة جدا بالكاد كانت تتسع ليعيش عليها المشاركون في التجربة، ناهيك عن طاقم تصوير وبث بأكمله! غير أن هذا لم يمنع مهندس التجربة والعقل المدبر وراءها (سانتياغو جينوفيس) من تسجيل شريط فيديو لثمانية ساعات بواسطة كاميرا 16 ميلمتر، استخدم تلك اللقطات لاحقاً المخرج (ماركوس ليندين) من أجل إخراج وثائقي جديد بعنوان «الطوف».

يقول (ليندين) حول التجربة: ”لقد قرأت عن طريق الصدفة كتاباً علمياً ألمانياً حول أغرب 100 تجربة علمية على مر التاريخ، وكان من بين هذه التجارب تجربة أطلق عليها اسم ”طوف الجنس“، التي تتحدث عن تجربة طوف (أكالي)“، واستطرد بالقول: ”بدأت أجري بعض الأبحاث حول الموضوع واكتشفت أن قبطان الطوف كانت امرأة سويدية، مما حفزني على المضي قدماً في البحث. سرعان ما أدركت أن الأمر برمته كان يدور حول قصة مغامرة في قمة الروعة“.

المشاركون الأصليون لتجربة الطوف بعد أن أعيد لم شملهم.
المشاركون الأصليون لتجربة الطوف بعد أن أعيد لم شملهم.

توفي العقل المدبر وراء هذه التجربة، وهو عالم الأنثروبولوجيا المكسيكي (سانتياغو جينوفيس)، في سنة 2013 بعد فترة وجيزة من بدء (ليندين) بحثه حول الموضوع. يقول المخرج (ليندين): ”لقد تكرّم علي ابنه بسخاء ودعاني إلى المكسيك من أجل البحث في أرشيفات والده“. وبهذا تم سرد معظم القصة من منظور اليوميات التي كان (جينوفيس) يكتبها بالتفصيل.

كتب (جينوفيس) في سرد لتجربة واقعية عاشها وأشعلت في داخله فضولا متقداً فيما يتعلق بما يدفع بالناس إلى اقتراف أعمال العنف، فقال: ”لقد كنت محظوظاً بما فيه الكفاية لأجد نفسي على متن طائرة كانت متجهة إلى كوبا عندما تعرضت للاختطاف“.

من منظور آخر، يمكننا اعتبار هذا الاعتراف ”المهووس“ علامة خطر على ما يجول في ذهن هذا ”العالم“. بينما في برامج تلفزيون الواقع تميل هذه الأخيرة لتكون غير صريحة حول أهدافها الحقيقية من الحبكة، فتجد المنتجين يتصنّعون التفاجؤ في كل مرة (بينما هم سعداء سراً) ينشب فيها صراع بين المشاركين في البرنامج، أو حتى قتال، فإن (جينوفيس) راح يتحدث بصراحة ووضوح منقطعي النظير عن آماله في أن ينتهج المشاركون في تجربته الواقعية سلوكات جنسية وعدوانية عنيفة.

أعيدَ بناء الطوف من أجل هذا الوثائقي داخل أحد الاستوديوهات، حيث تجمع طاقم التمثيل من أجل مشاركة تجاربهم.
أعيدَ بناء الطوف من أجل هذا الوثائقي داخل أحد الاستوديوهات، حيث تجمع طاقم التمثيل من أجل مشاركة تجاربهم.

يقول (جينوفيس): ”لقد وقع اختياري على مشاركين كانوا جذابي المظهر، وجعلت بينهم راهباً كاثوليكيا“. من أجل خلق المزيد من الفوضى والتناقض في هذه التركيبة الاجتماعية المصغرة التي أنشأها، كان بعض من المشاركين في التجربة متزوجين، كما منح النساء أدواراً أكثر أهمية من أدوار الرجال على متن الطوف، والسؤال المحير والمربك الذي راح (جينوفيس) ينشد له رداً من وراء تجربته الاجتماعية هذه هو: ”هل بإمكاننا العيش بدون حرب؟“.

من الجدير بالذكر أن وقائع تجربته هذه جرت بالتزامن مع حرب فيتنام، غير أن الانطباع العام الذي تخلفه التجربة في نفس كل من اطلع عليها هو صورة رجل يستمتع بدفع الناس إلى أبعد من حدودهم ليرى ردود أفعالهم.

أعاد المخرج (ليندين) لم شمل أفراد تجربة طوف (أكالي) الذين مازالوا على قيد الحياة من أجل فيلمه الوثائقي، يقول في هذا الصدد: ”لقد كان الأمر صعباً لأنني لم أكن أعرف أسماءهم الحقيقية“، ويضيف: ”لقد استخدم (جينوفيس) في أوراقه البحثية حول التجربة أسماء مستعارة للمشاركين فيها، لذا استغرقني الأمر تقريباً سنتين من الزمن من أجل العثور على سبعة من أفراد الطاقم الذين مازالوا على قيد الحياة“.

جعل (ليندين) المشاركين في التجربة يعيدون سرد ما عاشوه على متن الطوف، فقالوا أنهم لم يكونوا يحوزون على متن الطوف على أية كتب، ولا حتى مساحة واسعة يمارسون فيها نشاطاتهم، كما لم يكن أمامهم من مفرّ، وكل ما كان يسعهم القيام به للترويح عن أنفسهم هو الغناء، وسرد القصص والحكايات. وهو ما ظلوا يقومون به بنوع من الغبطة لمعظم الوقت، حتى اليوم 22، حيث خيم الملل على جميعهم، وبحلول الأسبوع الرابع، راح العديد منهم يخوضون في علاقات جنسية مع بعضهم البعض.

عندما سئلوا عن عدد الأشخاص الذين مارسوا معهم الجنس على متن الطوف، أجاب أحد المشاركين: ”الكثير، الكثير… الجميع في الواقع“، وتابع شارحاً: ”لقد كانت ممارسة الجنس على الطوف أمراً معقداً“، وعادة ما كان الأمر يجري بين الشخصين المسؤولين على تولي الحراسة بينما ينام البقية. كانت المهارة والتنسيق أمرا مفتاحياً.

بالنسبة للصحافة، لم تكن تجربة (أكالي) تحدث ذلك النوع من الردود التي كان عالم الأنثروبولوجيا (جينوفيس) يأمله، حيث كتبت إحدى وسائل الإعلام المبتذلة في عنوان رئيسي حول التجربة: ”سرّ طوف الحب“، بينما راح عمود في صحيفة أخرى يركز على واقع أن القبطان كان يرتدي ”البيكيني“.

يقول (ليندين): ”كتبت الصحافة آنذاك الكثير من الأمور المقرفة حول التجربة، فأطلقت عليها ألقابا مثل ”طوف الجنس“، وهو الأمر الذي لم يكن حقيقيا في الواقع“، وأضاف المخرج: ”أجل، مارس بعض الأشخاص علاقات جنسية، لكن الأمر لم يكن على قدر الشهوانية التي وصفتها وسائل الإعلام المبتذلة بإسهاب. عندما عادت النساء إلى البر، صدمن من التغطية الإعلامية الرديئة والتشويه الذي طالهن“.

ربما كان (جينوفيس) يأمل في تحليل وتغطية إعلامية أكثر جدية لتجربته الاجتماعية، لكن من بين الأمور التي نحن متأكدون منها هو رغبته الكبيرة في رؤية الجنس يمارَس بين المشاركين فيها. وقبل أن يمضي وقت طويل، أُشبعت كذلك رغبته في رؤية العنف والدماء على متن الطوف، حيث تم سحب سمكة قرش صغيرة على متنه وراح المشاركون يطعنونها بدون توقف في جو هستيري، وراح أحد المشاركين يمسك بقبضته على فأس ويضرب به سمكة القرش التي مازالت حية مثلما لو كان مطرقة، ثم اجتث قلبها النابض وأمسكه بيده.

غير أن آمال عالم الأنثروبولجيا الغريب هذا سرعان ما تبددت، حيث أصبح من الواضح أن ”الطوف“ لم يكن قصة حول كيف أن الجنس والوحشية سيظهران بشكل آلي في كل مرة يترك فيها البشر لوحدهم، بل صارت قصة حول غرور وأنانية رجل واحد.

بدا من الواضح أن الممارسات الجنسية بين المشاركين في التجربة لم تكن تسبب أي ضرر، كما كانت بعض حالات العنف التي عاشوها معزولة وطفيفة، بل كانوا في صفة عامة يعيشون بتناغم جيد كما لو كان مجتمعا مصغراً.

لم يعجب هذا الواقع (جينوفيس)، الذي راح يقرأ جهارة بعض الأجوبة التي حصل عليها من بعض المشاركين، الذين منحوه إياها على أساس أنها ستبقى سرية بينهم وبينه، فراح يقرأها على مسامع الجميع، وهي بالطبع كانت أسئلة شخصية ومحرجة على شاكلة: ”من قد ترغب أكثر في ممارسة الجنس معه؟“، و”من قد ترغب في طرده ورميه من على الطوف؟“، فتظهر لنا هذه الخطوة تكتيكات، أصبحت لاحقاً خاصية تميز بها برنامج «جزيرة الحب».

مع كل تصرفات (جينوفيس) التي كانت تشبه أكثر فأكثر طرائق شرطة الـ(غيستابو) النازية سيئة السمعة، بدأ المشاركون في التجربة يشعرون بغضب عامر وصاروا شبه مقتنعين بأن الرجل الذي كان من المفترض أن يكون بمثابة دليل لهم أصبح ديكتاتوراً عليهم.

من النقاط المحورية التي ساهمت في تحول مجريات القصة، هو عندما حاول (جينوفيس) التخطيط مع الجماعة من أجل تنفيذ انقلاب ضد قبطان الطوف، وهي المرأة القائدة نفسها التي أوعز إليها مهمة قيادة الطوف من اجل ملاحظة الطريقة التي سينظر بها الرجال إلى الأمر وكيف ستكون تصرفاتهم وردود أفعالهم. إن هذه أكثر اللحظات المثيرة للاهتمام في هذا الوثائقي، حيث يتذكر المشاركون كيف أن مقترح المؤامرة ذلك كان بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس بالنسبة لهم، فاجتمعوا في إحدى الليالي ليتآمروا على قتل الرجل الذي أتى بهم إلى هنا.

ما ورد في عناوين بعض الصحف المبتذلة في وصف تجربة (آكالي).
ما ورد في عناوين بعض الصحف المبتذلة في وصف تجربة (آكالي).

كان من بين الأفكار التي طرحت حول كيفية التخلص منه هو الإلقاء به في عرض المحيط، بينما تضمنت فكرة أخرى حقنة مميتة، شرط أن يمسك كل فرد من المجموعة بجزء منها حتى تقع المسؤولية على عاتقهم جميعاً، ومنه يضمنون صمت الجميع. بشكل لا يثير الدهشة، لم تلتقط عدسات الكاميرا ليلة المؤامرات هذه التي تجرت فوق سطح الطوف، ذلك أن الأفراد سهروا على السرية التامة، غير أن المنتجين، تمكنوا بطريقة ما من حمل هؤلاء ”المتآمرين“ على الاعتراف وسرد الحكاية بالتفاصيل، فقال أحد المشاركين الذي يدعى (إيزوكي ياماكي): ”أنا سعيد لأن لا أحد تعرض للقتل“، ويتذكر هذا الأخير كيف أن الجميع توسل إليه أن يرمي العالم ”المسيئ“ من على الطوف في عرض المحيط.

آزر طاقم تجربة طوف (أكالي) مساندتهم لبعضهم البعض في معارضتهم للديكتاتور (جينوفيس) بشكل مثير للاهتمام، وبعد 101 يوماً من الهيام في عرض المحيط، يتمكن طوف (آكالي) من العودة إلى شواطئ المكسيك مع كون دماء القرش المسكين هي الدماء الوحيدة التي سُفكت عليه. وما يثير الاهتمام بشكل أكبر، ولعل الأمر الذي انزعج بسببه (جينوفيس) كثيراً، هو أن المجموعة تمكنت من حل كل المشاكل التي تسبب لها بها هذا الأخير بنوع من الدبلوماسية بدلا من العنف.

كانت هذه المؤازرة والعلاقة الوطيدة هي ما تمكن الوثائقي الجديد من توثيقها وإظهارها للعالم، عارضاً للصحافة المبتذلة منظوراً تصحيحياً لما أسمته ”طوف الجنس“. من جهتهم، أثبت المشاركون في هذه التجربة الاجتماعية التي أقل ما يقال عنها أنها قاسية، عن كونهم تجاوزوا جميع محنهم بشكل مثالي.

على الرغم من أن ”العالم“ المسؤول على جمعهم وجلبهم إلى عرض المحيط كان قد تخلى عن واجباته في الاعتناء بهم، فإنهم لم يعتبروا أنفسهم ضحايا له.

في هذه التجربة الاجتماعية التي يمكن اعتبارها سلفاً أولاً لجميع برامج تلفزيون الواقع، لم يتم تخليف أحد، ولم يتم التصويت على طرد أحد أو إبعاده، كما لم يحنث أحد بوعد قطعه على المجموعة. في الواقع، على نقيض كل ما كان (جينوفيس) يأمل في أن يحدث، فقد بدا جليا أن كل واحد على متن الطوف قضى وقتاً ثميناً تعلم فيه الكثير، وقتاً مفعماً بالسلام، بل أن المشاركين فيه على الرغم من المحن التي عانوا منها على متنه، فإن واحدا منهم وهو (سيرفان زانوتي)، قال في اللحظة الأولى التي وطأت فيها قدماه البرّ بعد الرحلة: ”أستطيع العودة والذهاب في رحلة أخرى لمدة ثلاثة أشهر أخرى“.

عند سؤاله عما إذا كان يعتبر (جينوفيس) كأب لفئة برامج تلفزيون الواقع، أجاب المخرج (ليندين): ”من المستحيل عدم النظر إلى التجربة على أنها برنامج تلفزيون واقعي“. كما أوضح أن التلفزيون المكسيكي قد مول جزئياً ذلك المشروع.

عندما أجري معه حوار صحفي لاحقاً في حياته، سؤل (جينوفيس) عما إذا كان يعتبر نفسه كرائد في عالم برامج تلفزيون الواقع، فقال: ”كانت الفكرة هي صناعة وثائقي علمي حول التجربة“، وبدا واضحاً أنه لم يحب مقارنة الناس له على أنها منتج برامج تلفزيون الواقع، بل كان يرغب في أن ينظر إليه الناس على أنه عالم جدّي.

يقول (ليندين) في هذا الصدد: ”لقد كان [جينوفيس] مهتما بشكل أكبر بالبحث في السلوكات البشرية، وكان مهتما بإحلال السلام من خلال فهم أصول العنف. لكنه كان في نفس الوقت شاعراً. لقد أراد من العلم أن يكون مثل الفن. أكثر تجربة وتحدياً“.

ويتجلى هذا بوضوح تام في الوثائقي، الذي يمنح المشاهد قصصاً ذا نوعية رائعة عن حياة المغامرة، ولربما كانت التجربة لتكون أكثر نجاحاً كبرنامج تلفزيوني، مثلما نوّه إليه المخرج (ليندين) بالقول: ”ربما كانت تجربة (أكالي) أكثر نجاحاً كعمل فني أكثر منها كتجربة علمية“.

مقالات إعلانية