in

دخلك بتعرف المفاعل النووي السرّي في لندن؟

الجامعة البحرية الملكية البريطانية

لأكثر من ثلاثين سنة، من سنة 1962 إلى غاية سنة 1996 بالضبط، كان هناك مفاعل نووي يقبع في قلب مدينة لندن بالقرب من طريق عام مكتظ بالمارة ومنازل السكان وكذا المباني العمومية، وقد أُبقي على وجوده بهذا القرب من المناطق السكانية سرّا دفينا، لأن الناس لو علموا بحقيقته لأثار ذلك جدلا واسعا في أوساطهم.

كان هذا المفاعل موجودا ضمن قبو مبنى الملك (ويليام) في جامعة البحرية الملكية القديمة في (غرينيتش)، التي تأسست في سنة 1873 وتضمنت مركّب مبانٍ شُيد في القرن السابع عشر، تم تصميمه من طرف واحد من خيرة المهندسين المعماريين آنذاك وهو السير (كريستوفر ورن).

خُصصت المباني التي تضمنها المركب في البادئ لمستشفى (غرينيتش)، الذي كان عبارة عن منزل تقاعد خصص لبحارة البحرية الملكية البريطانية المصابين والمقعدين، وكانت كلمة ”مستشفى“ Hospital آنذاك تعني حرفيا ”بيت الاستضافة“، وبعد غلق المستشفى في سنة 1869، أصبحت هذه المباني ما عرف لاحقا بـ«الجامعة البحرية الملكية» حيث كان يتم تدريب ضباط البحرية.

جامعة البحرية الملكية القديمة في (غرينيتش)، الموقع حيث تم تثبيت المفاعل النووي الوحيد داخل مبنى من حقبة القرن السابع عشر
جامعة البحرية الملكية القديمة في (غرينيتش)، الموقع حيث تم تثبيت المفاعل النووي الوحيد داخل مبنى من حقبة القرن السابع عشر – صورة: Mark Ramsay من فليكر

كانت جامعة البحرية الملكية في بادئ الأمر عبارة عن جامعة يتم فيها تدريب الضباط العسكريين على المهام الإدارية فقط. لاحقا، مع نقل نشاطات «جامعة البحرية الملكية للحروب» من (بورتسموث) إلى (غرينيتش) في سنة 1914، بدأت حينها الجامعة الملكية البحرية بتقديم تدريبات تقنية في الحروب والمعارك البحرية التكتيكية والاستراتيجية، وبمرور السنوات أصبحت هذه التدريبات والتكتيكات متطورة أكثر فأكثر.

في أوائل ستينات القرن الماضي؛ اقتنت الجامعة البحرية الملكية مفاعلا نوويا ذا طاقة منخفضة أطلق عليه اسم (جايسون) من أجل تعليم وتدريب الموظفين العسكريين وكذا المدنيين الذين سيعملون على الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية، وقد كانت إدارة هذا المفاعل النووي في السابق تتم من قبل شركة (هاوكي سيدلاي) للطاقة في (لانغلي) بالولايات المتحدة.

كان مفاعل (جايسون) صغيرا مقارنة بتلك المفاعلات الموجودة في محطات الطاقة النووية، حيث كان ارتفاعه يبلغ أربعة أمتار وكان يحيط به أكثر من 300 طن من الفولاذ والخرسانة العازلة من أجل منع أية نيوترونات مشحونة شاردة من الخروج.

على الرغم من حجمه الصغير، فإن (جايسون) كان مفاعلا قويا وفعالا، فوفقا لصحيفة (ذي إنديبندنت) The Independant فقد كان يعمل باستخدام اليورانيوم المخصب بنسبة 90٪ الذي كان يستعمل في بناء الأسلحة، مما جعله مشعا بنسبة 30٪ أكثر من أي مفاعل تجاري آخر، ومنه فقد كان مفاعل (جايسون) أشبه بقنبلة موقوتة، وبالتأكيد لم تكن البحرية الملكية ستُعلم سكان لندن أنهم كانوا جيراناً لقنبلة نووية، لذا أُبقي على (جايسون) سرّاً دفينا.

محطة التحكم في مفاعل (جايسون) النووي.
محطة التحكم في مفاعل (جايسون) النووي – صورة: جامعة البحرية الملكية في (غرينيتش).

كتب موقع (غرينيتش فانتوم) The Greenwich Phantom: ”لمدة معتبرة من الزمن بقي [المفاعل النووي] أسطورة“، وتابع: ”الشيء الغريب حقا هو أنني سمعت عن أحدهم الذي كان يعمل عليه مباشرة (والذي لم يكن لديه أي سبب يدفعه للكذب) بأنه كان مجرد نموذج خالٍ من أي نشاط إشعاعي، كما أُخبر المتدربون بأنه تم وضعه هناك ليمكّنهم من التعامل معه بشكل جدي“.

والمثير للسخرية في الأمر هو أن منطقة (غرينتيش) أعلنت منطقة خالية من النشاطات النووية منذ سنة 1963 إلى يومنا هذا، أي بعد سنة من جلب مفاعل (جايسون) النووي.

في سنة 1996، قررت البحرية الملكية تسريح «الجامعة البحرية الملكية» وتسليمها من أجل استغلالها لأغراض مدنية، مما عنى أن على (جايسون) الرحيل كذلك، لكن التخلص منه لم يكن مهمة سهلة على الإطلاق، أولا كان يتعين عليهم تعطيل المفاعل نفسه وإزالة التجهيزات العملية، وهو ما كان الجزء الأسهل وتم إنجازه والانتهاء منه بسهولة وسلاسة، وكان الجزء الصعب من العملية هو إزالة الوقود وتفكيك المفاعل والخرسانة العازلة التي أصبحت مملوءة بالنيوترونات المشحونة على مر السنوات التي اشتغل فيها المفاعل.

في ذلك الوقت الذي تقرر فيه تفكيك ونقل المفاعل، لم تكن قد تمّت عملية من هذا النوع من قبل في بريطانيا كلها، لذا كان يجب على البريطانيين تعلم كل شيء من الصفر.

في نهاية المطاف، تمكن العاملون أخيرا من إنجاز المهمة التي استغرقت حوالي ثلاثة سنوات، وتم على إثرها إزالة حوالي 270 طنا من النفايات النووية من المنطقة، وفي شهر نوفمبر من سنة 1999، أعطت وكالة المحيط أخيرا ترخيصها بكون المنطقة آمنة من الإشعاعات.

اليوم يتم تدريب الضباط والمستخدمين بشكل مباشر على مستوى الجامعة الإمبراطورية في (أسكوت)، كما تستخدم البحرية الملكية كذلك أنظمة محاكاة لتدريب وتعليم العسكريين والمدنيين المنخرطين في برنامج طاقة الدفع النووية في مدرسة البحرية الملكية للهندسة البحرية والجوية في قاعدة (آيتش آم آس سلطان)، في (غوسبورت) بـ(هامشاير).

أبنية الجامعة البحرية الملكية المذهلة، التي تم تصنيفها اليوم ضمن التراث العالمي من طرف منظمة اليونيسكو، وتعتبر اليوم مصدر جذب للسواح في (غرينيتش)، في الصورة أعلاه نرى كنيسة الجامعة البحرية الملكية من الداخل
أبنية الجامعة البحرية الملكية المذهلة، التي تم تصنيفها اليوم ضمن التراث العالمي من طرف منظمة اليونيسكو، وتعتبر اليوم مصدر جذب للسواح في (غرينيتش)، في الصورة أعلاه نرى كنيسة الجامعة البحرية الملكية من الداخل – صورة: David Iliff
واحدة من أجمل الروائع الهندسية في الجامعة البحرية الملكية القديمة هو "البهو المرسوم"، الذي تم طلاؤه باللوحات الفنية بين سنة 1707 و1726 من طرف السير (جايمس ثورنهيل)
واحدة من أجمل الروائع الهندسية في الجامعة البحرية الملكية القديمة هو ”البهو المرسوم“، الذي تم طلاؤه باللوحات الفنية بين سنة 1707 و1726 من طرف السير (جايمس ثورنهيل) – صورة: radeklat من فليكر
كان ”البهو المرسوم“ عبارة عن غرفة عشاء أيام الجامعة البحرية الملكية القديمة
كان ”البهو المرسوم“ عبارة عن غرفة عشاء أيام الجامعة البحرية الملكية القديمة – صورة: kaysgeog من فليكر
سقف البهو المرسوم
سقف البهو المرسوم – صورة: Maciek Lulko من فليكر
تقع كافيتيريا الجامعة البحرية الملكية في القبو تحت الكنيسة
تقع كافيتيريا الجامعة البحرية الملكية في القبو تحت الكنيسة – صورة: nick.garrod من فليكر

مقالات إعلانية