in

كيف ساهمت أعظم كارثة حلّت بالبرتغال في نشأة عِلم جديد

رسمة تبرز مدينة ليشبونة عندما ضربها الزلزال
صورة: North Wind Picture Archives/Alamy

كات معظم سكان مدينة ليشبونة بالبرتغال في الكنيسة عندما ضرب أول زلزال صباح عيد القديسين سنة 1755، لقد كانت ليشبونة من أرقى وأكبر المدن في واحدة من أقوى البلدان في العالم آنذاك، لكن أيا من هذا كان مهمّا في عيني الزلزال المدمر عندما ضربها.

ما زال ذلك الزلزال يعتبر حدثا حاسماً ومؤثرا جدا في تاريخ المدينة، ويقدر الباحثون في أيامنا هذه أن قوته كانت حوالي 8.5 على سلم ريختر، وتلته هزتان أرضيتان صغيرتان وموجة تسونامي بارتفاع خمسة عشر متراً، ثم في الأيام اللاحقة شبت حرائق مهولة أحاطت بالمدينة.

وقعت مئات من الهزات الارتدادية خلال شهور عديدة تلت ذلك الزلزال، وعلى الرغم من أنه لا يوجد سجل رسمي بعدد ضحايا الكارثة، غير أن مصادر قديمة وحديثة تقدر بأنه كان يتراوح بين عشرة آلاف وستين ألف ضحية، من بين تعداد سكاني إجمالي لا يتجاوز المليون نسمة آنذاك، كما دمر الزلزال حوالي 82 بالمائة من مباني المدينة، ومن بينها كانت الكنائس، والكاثدرائيات، والقصور الملكية، ودار أوبيرا.

رسمة تبرز مدينة ليشبونة عندما ضربها الزلزال
رسمة تبرز مدينة ليشبونة عندما ضربها الزلزال.

بسبب كون هذا الزلزال لم يستثني لا الأغنياء ولا أكثر الناس تديناً وورعاً فقد حلت أزمة وجودية ببعض الأوروبيين، وبينما أدار الكثيرون وجوههم إلى الدين في زمن تلك المحنة لتفسيرها والتخفيف من وطأتها —لام الكثير من رجال الدين البرتغاليين آنذاك خطايا الناس على ذلك الزلزال واعتبروها سبب حدوثه الرئيسي، وهي ظاهرة مازالت حاضرة حتى يومنا هذا—، فقد كان للعلم والفلسفة ما يقولانه في ذلك أيضا، فقد عمد مفكرون على شاكلة (فولتير) و(روسو) و(إيمانويل كانط) إلى تأمل الزلزال وتبعاته وما كان يعنيه بالنسبة للجنس البشري.

تعود جذور علم الزلازل والظواهر التي تتبعها إلى سنة 1755، وبشكل أخص إلى رجل واحد وهو (سيباستياو جوزي دي كارفاليو إي ميلو ماركيز بومبال)، وكان (بومبال) يشغل منصب وزير الدولة لدى الملك البرتغالي (جوزيف الأول)، وقد لعب دورا كبيرا في الأحداث التي تلت الزلزال. يقول (مارك مولسكي) مؤلف كتاب «خليج النار: تدمير ليشبونة»: ”لقد كان الملك في حالة صدمة —كاد يخسر عائلته بسبب ذلك“، ويستطرد: ”وقد وضع السلطة الكاملة بين يدي (بومبال)، الذي حكم باسمه لمدة عشرين سنة“.

لقد كان (بومبال) هو من أمر بتوزيع نماذج استطلاع حول الزلزال على العامة من أجل ملئها، وقد تضمنت هذه النماذج أسئلة على غرار: كم هزة ارتدادية شعرت بها؟ هل ارتفع البحر أم انخفض قبل موجة التسونامي؟ أي أقسام المدينة تدمرت بفعل الحرائق، وإلى أي مدى لحق بها الضرر؟ ومازالت هذه البيانات محفوظة في أرشيفات البرتغال إلى يومنا هذا، وقد ساعدت الباحثين المعاصرين على فحص تفاصيل زلزال سنة 1755 وإعادة هيكلتها بمساعدة النظريات العلمية الحديثة.

نحن لسنا نقول هنا بأن علماء ذلك الزمن كانوا على الدرب الصحيح فيما يتعلق بمسببات الزلازل، فقد جاء هؤلاء كلٌّ بنظريته الخاصة ومحاولته الشخصية لتفسير الظاهرة، فوضع على سبيل المثال الفلكي (جون ميشال) نظرية تتضمن موجة من القوة، تشبه موجة الصوت، والتي قد يكون تسبب في حدوثها بركان سخّن طبقات من الصخور بشكل كبير تحت الأرض.

أما (إيمانويل كانط)، فقد اقتبس عن نظريات وضعها (أرسطو)، الذي كان يعتقد بأن الزلازل سببتها الرياح التي تمر عبر كهوف تحت الأرض، لكن (كانط) كان يعلم بأن الرياح لم تكن قادرة على إحداث مثل هذا الدمار، ومنه اقترح بأن الأمر راجع إلى انفجارات وقعت في كهوف تحت الأرض.

على الرغم من أن دراسة الصفائح التكتونية تحت الأرض جعلتنا ندرك جيدا ما يتسبب في حدوث الزلازل، لكن هذا لم يساعدنا في التنبؤ بها قبل حدوثها بشيء، ناهيك عن الحيلولة دون ذلك، هذا على الرغم من أن المساعي في محاولة ذلك كانت قد بدأت في (ليشبونة) منذ 263 سنة في الماضي.

مما لا شك فيه أن مساهمات (بومبال) لم تساعد في الوقاية من الزلازل، لكن التحضير الجيد لها قد يساهم في تقليل الخسائر، وهو ما أدركه جيدا، فعندما أمر بإعادة بناء ليشبونة من الصفر، قام بإنشاء العديد من الأحياء السكنية على نظام شبكات منطقية في نمط هندسة معمارية ما يزال يعرف باسم (بومبالين) تيمنا به، وقد كان واحدا من أوائل نماذج الهندسة المعمارية الحديثة التي تضمنت خصائص أمنية مضادة للزلازل، مثل استعمال الهياكل الخشبية التي قد تنحني دون أن تنكسر.

هندسة (بومبالين) المعمارية في لشبونة اليوم.
هندسة (بومبالين) المعمارية في لشبونة اليوم – صورة: auxes.is/Instagram

بنيت هذه المباني باعتماد هياكل شبكات خشبية بهدف توزيع قوة الزلزال، وجُعلت الأبواب والنوافذ والجدران فيها بأحجام معيارية، ثم أمر (بومبال) الجنود بالمشي فوقها بقوة شديدة لاختبار شدة تحملها.

لم تكن هناك مناسبة جيدة لاختبار مدى نجاعة هذه الأفكار في الحياة الواقعية، حيث بقي زلزال سنة 1755 أقوى زلزال شهدته البرتغال على الإطلاق. تم وضع ليشبونةِ (بومبال) على لائحة المناطق المرشحة إدراجها ضمن مواقع التراث العالمي لدى اليونيسكو، وهذا ليس فقط بفضل نمط هندستها المعمارية المنظم بصورة أيقونية، بل كتخليد لمساهمة البرتغال في التحضّر والاستعداد للزلازل في أي وقت.

مقالات إعلانية