in

دخلك بتعرف أول نظام ديمقراطي علماني ذو أصول مسلمة في التاريخ

خريطة جمهورية أذربيجان الديمقراطية الأولى 1918

”كانت المدينة تعج بالحياة والاختلاف، بتنوع الثقافات والخلفيات العرقية والدينية، والتي حوّلت انهيار إمبراطوريةٍ ومملكةٍ إلى ولادةِ أوّل نظامٍ علماني ذو خلفية مسلمة في العالم تحت حكم النخبة المثقفة“. إذا كنتَ تعتقد أنّنا نتحّدث هنا عن طهران منتصف القرن العشرين، أو (كراكس) السبعينيات، أو (أنقرة) أتاتورك، فأنتَ مخطئ.

رغم وجودها على الأطراف الشماليّة من الإمبراطوريّة الروسيّة آنذاك، لم تكن المحطّة التجارية والثقافية «التي تُعرَف اليوم بمدينة (باكو) Baku عاصمة أذربيجان» مهمّشةً كما يُعتقد بالنسبة لكونها مدينةً معزولةً على شواطئ بحر قزوين وخلف جبال القوقاز، ففي المرحلة الموجزة بين انهيار الإمبراطورية الروسية وتأسيس الاتحاد السوفيتي، أدت سلسلة من الظروف التي طرأت حينها إلى ظهور حدث مفاجئ في (باكو)، وهو ما يعتبره المؤرخون المحليون نشوءاً لأول ديمقراطية علمانية ذات أصول مسلمة في العالم.

على عكس ما يُشاع عن جمهورية مصطفى كمال أتاتورك في تركيا التي أُسِّسَت عام 1923، فقد كانت أولى الأنظمة العلمانية الديمقراطية ذات الخلفية المسلمة تعود إلى جمهورية أذربيجان الديموقراطية ADR، والتي امتدّت بين عامي 1918 و1920، وعلى الرغم من قِصر فترة امتدادها، فقد نشأت تلك الجمهورية في إقليمٍ ضم مجموعةً من الإمبراطوريات والممالك والأنظمة الأتوقراطية –ذات حكم الفرد المطلق الاستبدادي– المنهارة، ما جعلها سابقةً مميزة في التاريخ، فقد تبنّت السياسات النيابية الشاملة، وحرصت على تمكين المرأة وضمان حقوقها وحقوق الأقليات العرقية، واهتمت بالارتقاء بجودة التعليم، وكل ذلك لم يسهم فقط بنشوء أذربيجان كدولة، بل جعل لبصمتها أثراً مهمّاً في التاريخ.

خريطة جمهورية أذربيجان الديمقراطية الأولى 1918-1920
خريطة جمهورية أذربيجان الديمقراطية الأولى 1918-1920 – صورة: Emin Bashirov من ويكيميديا

يقول (ألتاي غولوشوف) Altay Goyushov البروفيسور في مجال التاريخ في جامعة (باكو) الحكومية: ”لعلّ أهم ما في الأمر هو أن ذلك يعدّ انتصاراً للنخبة المثقفة العلمانية المحلية على النخبة الأرستقراطية القديمة“.

وكان لموقع جمهورية أذربيجان الديموقراطية، الذي يعدّ معبراً استراتيجياً يربط بين إيران وتركيا وأوروبا، أهميةً كبيرة في تكوين مجموعة خاناتها التي أصبحت تحت حكم روسيا لاحقاً في القرن العشرين، وكان أهم ما يميزها هو غناها بالتنوع الثقافي والعرقي، فكان سكانها من المسلمين السنة والشيعة والأرمن والروس والبولنديين، والعديد من الجنسيات والخلفيات العرقية والدينية الأخرى.

تواصل اهتمام النخبة المثقفة في أذربيجان –وهم خريجو معاهد ومؤسسات روسيا العلمية الذين عُرفوا باهتمامهم بالديمقراطية الشعبية المستخلصة من التجارب الأوروبية– بالتركيز على أهمية فكرة وجود دولة تحكمها معاهد ما بعد الاستعمار التي كانت تنمو آنذاك في شتّى أنحاء أوروبا، فكانت كما وصفها البروفيسور (غويوشوف) قد قدّمت ”نتيجةً منطقيةً“ للتحول الذي طرأ على المجتمع الأذربيجاني خلال القرن التاسع عشر.

استغلّت تلك النخبة المثقفة والممثلّة بجزء كبير منها بمحمد أمين رسولزاده وحزب المساواة التابع له، بمساعدةٍ من جيش الإمبراطورية العثمانية، فرصةَ تأسيس جمهورية أذربيجان الديموقراطية، والتي قُسِّمت حكومتها فيما بعد إلى العديد من الفروع، وتميّزت ببرلمانها البارز الذي ضمّ طيفاً واسعاً من الجنسيات والعرقيات، بدءاً بالأذريين –مجموعة عرقية ناطقة بالتركية– وصولاً لليهود، والعديد من القوى السياسية من القوميين والليبراليين الديمقراطيين، وحتى الإسلاميين واليساريين.

وإضافةً إلى ذلك، تمثّلت أهم ركائز جمهورية أذربيجان الديمقراطية بجامعة (باكو) الحكومية التي شكّل تأسيسها عام 1919 ولادةً لنخبةٍ مثقفةٍ جديدة، ونهايةً لمعاناة النساء. يقول (زور غاسيموف) Zaur Gasimov، وهو باحثٌ في معهد Orient-Institut Istanbul في إسطنبول معقّباً: ”كانت جامعةً تقدميةً حقاً، ليس فقط على صعيد الشرق الجديد، بل أيضاً على الصعيد الأوروبي“.

كما أنّه في سبتمبر من عام 1919، تحدّث الرئيس الأمريكي آنذاك (وودرو ويلسون) في خطابه معقِّباً على حدث لقائه بالمندوبين الأذربيجانيين في مؤتمر باريس للسلام –رغم أنّه لم يدرك أصولهم في بداية اللقاء ما أثار دهشته لاحقاً: ”لقد كنتُ أتحدث مع رجالٍ يتكلمون بلغتي ذاتها، احتراماً للأفكار، واحتراماً لمفاهيم الحرية، واحتراماً للحق والعدالة“.

ورغم إنجازات جمهورية أذربيجان الديمقراطية العريقة فإنها لم يكتب لها البقاء، يبدو أنّها لم تكن جاهزة بعد لمثل تلك التجربة السياسية واسعة الطيف، خصوصاً بعد حالة افتقار المجتمع الأذربيجاني للـ«تكنوقراطيين» –حكام من الطبقة المثقفة العلمية– والعديد من الخبراء المتمرسين في تطبيق النظام البيروقراطي الفعّال.

وفيما بعد أثناء حكم روسيا، لم يُسمح للمسلمين أو اليهود بالانضمام للخدمة العسكرية، ما أجبر حكومة جمهورية أذربيجان الديمقراطية على تشكيل جيشٍ من المأجورين الأجانب والمبتدئين.

إضافةً إلى النزاعات الإقليمية مع دول الجوار وحجم نفوذ القوى العالمية المتنافسة للسيطرة على المنطقة الكبرى، فقد أُجبرت جمهورية أذربيجان على الخضوع لحكم الجيش الأحمر عام 1920، حيث يقول (غاسيموف): ”خلال يومين فقط، سيطر الجيش الأحمر على الدولة بأكملها“.

نصب تذكاري في (باكو) لأولئك الذين قتلوا على يد الجيش السوفيتي في يناير 1990 - صورة: Dan Lundberg من فليكر
نصب تذكاري في (باكو) لأولئك الذين قتلوا على يد الجيش السوفيتي في يناير 1990 – صورة: Dan Lundberg من فليكر

استمرت أذربيجان بمشروع بناء دولتها الخاصة كجزء من الاتحاد السوفييتي، على الرغم من حكم التجربة الشيوعية التي أثبتت فشلها، واستعادت استقلالها عام 1991 إثر الانهيار السوفييتي، وكان الأمر يبدو الأكثر منطقيةً بعد الاستقلال هو استمرارية جمهورية أذربيجان الديموقراطية –وهذا قطعاً مُراد الأذربيجانيين من النخبة الواعية– لكن سلالة أذربيجان الحاكمة ذات السياسة الاستبدادية التي حكمت الدولة منذ بداية تسعينيات القرن المنصرم، لم تجعل الأمر سهلاً وواقعياً كما بدا. فالشخصية الدينية المقدّسة والهالة التي رُسمت على مدى سنين وبإحكام شديد حول حاكم أذربيجان (حيدر علييف)، الذي سيطر ابنه (إلهام علييف) على الحكم بعد وفاته، حالت إلى صدارة الحكم على حساب ذكرى جمهورية أذربيجان الديمقراطية السابقة التي تُحيا من قبل السلطة الحاكمة لكن لا يُحتفل بها بحماس أو قبول.

يقول (غويوشوف): ”على الجانب الأول، لا يمكنهم نكرانها تماماً، لكن في الوقت عينه يسعون جاهدين إلى تقليص دور الجمهورية الأذربيجانية الديمقراطية في تاريخ أذربيجان العام“، ويضيف بأن ”المثير للسخرية هو تقديمُ الحكومةِ الحاليةِ جمهوريةَ أذربيجان الديمقراطية كمثال لسقوط الديموقراطية الاشتراكية“.

يتركنا التاريخُ بأسفٍ شديد على حال دولٍ كانت سبّاقةً في اتّباع العلمانية تحت حكم النخبة المثقفة واحتضان التعددية العرقية والدينية واحترام المرأة ودورها، لتعود بحالها إلى الوراء مع تقدم الزمن إلى الأمام، فالحكم الذي لا يكفل حق الجميع على اختلافهم، ويعتمد الدين كمرجع سياسي مفروضٍ على الجميع بدلاً من كونه حرية معتقد وحقاً يحميه القانون –ولا يفرضه–، ويعملُ باستبداده على محوِ ديمقراطية أسلافه، ويستبدل النخبة المثقفة بمتطرفين ثقافتهم استقصاء الآخر واستعباده؛ لن يحيا إلّا على أنقاض نفسه.

مقالات إعلانية