in

إمكانية تفسير سبب وجودنا في هذا الكون بالاعتماد على مبدأ الأنتروبية

مبدأ الأنتروبية

هل لاحظت التناسق الرائع في المعادلات الرياضية التي تصف الكون؟ فمثلاً، القيمة التي تصف الكون والطبيعة المسمى ”ثابت بلانك“ تبلغ 6.6×10^-34 (صفر عشري وبجانبه 31 صفر ثم 662). وتظهر هذه القيمة كأنها مضبوطة بشكل غريب، وإن اختلفت قيمتها قليلاً فربما هذا الكون الذي نراه الأن لن ينشأ. إن الأجوبة على هذا الضبط الدقيق جداً للكون ربما تأتي من أكثر المبادئ العلمية جدلاً وأهمية، وهو المبدأ الإنتروبي.

أثبت العلم أن الجنس البشري يتكون من نفس مكونات الكون، ولذلك فإننا نخضع لجميع القوانين الأساسية التي يتبعها الكون. فالعديد من الثوابت الرياضية التي تنظم الطبيعة الكونية تسيطر على الطبيعة البشرية أيضاً، وبالتالي يمكننا بناء مفهومين بسيطين ومن الصعب المجادلة ضدهمَا وهما:

  1. موقعنا الحالي في الكون مهيئ ليجعلنا مجرد ملاحظين لما يدور في الكون ولسنا متحكمين فيه.
  2. الكون والبارامترات الرئيسية الذي يعتمد عليها تترك مجالاً للكائنات المراقبة (نحن) أن نُخلق في بعض الحالات.

أول من صاغ القانونين المذكورين هو الفيزيائي براندون كارتر عام 1973 وأطلق عليهما اسم المبدأ الإنتروبي الضعيف والمبدأ الإنتروبي القوي. القانونين ينصا على أن وجودنا في هذا الكون الذي يحوي قوانين جوهرية، بارامترات وثوابت طبيعية، هو إثبات على أنه يسمح بقوانينه لكائنات مثلنا أن تتكون فيه أيضاً.

عنقود نجمي صغير في منطقة تشكل النجوم
عنقود نجمي صغير في منطقة تشكل النجوم – صورة لـNasa

في الواقع، إن هذا المبدأ البسيط والواضح يحمل الكثير من الأهمية، فهو يخبرنا بأن خصائص كوننا مناسبة لظهور كائنات أذكياء مختلفة. ويقف هذا المبدأ بشكل معاكس للخصائص التي لا تتكيف مع الحياة الذكية، والتي لا يمكنها أن تصف كوننا. جوهر المبدأ الانتروبي هو استخلاص حقيقة احتمال وجود كائنات ذكية أخرى في الكون من وجودنا نحن. فمجرد تواجدنا في الكون وملاحظتنا لتحركاته وتساؤلنا عن الغرض وراء تواجدنا في هذا المكان دليل على أن الكون مهيأ بطريقة ما ليترك لنا وللكائنات الذكية الأخرى مجالاً للتكون.

ومن الجدير بالملاحظة أن هذا المبدأ يدعم العديد من النظريات المنطقية عن البيانات والتنبؤات العلمية المتعلقة بالكون، فحقيقة أننا — البشر — مصنوعين من الكربون تخبرنا بأن الكون قام في بداياته بتكوين الكربون بطريقة تتلاءم معنا ولا تؤثر سلباً على احتمالية تكون الكائنات الذكية. هذا ما قاد الفيزيائي فريد هوي لفهم كيفية تكوين العناصر الثقيلة في النجوم خلال البدايات الأولى للكون عبر التنبؤ بحالة مثارة من نواة ذرة الكربون-12، والتي يجب أن تتواجد بدرجة معينة من الطاقة لكي تندمج مع ثلاث نوى من الهيليوم-4 مكونة الكربون-12 في داخل النجوم. وقد أثبتت صحة هذه النظرية — نظرية تفاعل ألفا الثلاثي — من قبل الفيزيائي النووي وايل فولر بعد طرحها بخمس سنوات.

نظرية تفاعل ألفا الثلاثي

قال العالم ستيفن هوكنج: ”لو كانت طاقة توسع الكون بعد ثانية من الانفجار العظيم أقل بجزء من مائة ألف مليون مليون جزء؛ لانهار الكون على نفسه قبل أن يصل إلى حجمه الحالي. وفي المقابل، لو كانت أكبر بجزء من مليون جزء؛ لكان توسعه سريعاً بشكل لا يسمح بتشكل النجوم والكواكب.“

وبالتالي يمكننا القول أن تشكل الكون والحياة يعتمد على قيمة طاقة الفراغ للكون (طاقة الفراغ الخالي ذاته) والتي يجب أن نكون مضبوطة بشكل دقيق جداً. طاقة الفراغ تحدد معدل سرعة توسع الكون (أو معدل انكماشه، إذا كانت قيمة الطاقة سالبة)؛ فإذا كانت الطاقة عالية جداً، لن تكون هناك إمكانية لتشكل الحياة أو الكواكب أو النجوم أو حتى الذرات والجزيئات. لكن نجد أن طاقة الفراغ، كما قاسها ستيفن وينبرغ (Steven Weinberg) عام1987، لا يمكن أن تتخطى 10^-118 (صفر عشري وبجانبه 117 صفر ثم واحد). ولكن عندما تم اكتشاف الطاقة المظلمة (Dark Energy) في 1998، استطاع العلماء قياس ذلك الرقم — طاقة الفراغ — بدقة للمرة الأولى، والذي كان أكبر بـ10^-120 مرة من نتيجة الحسابات الأولى. ولذك فقد وجه مبدأ الانتروبية العلماء بشكل صحيح عندما فشلت حساباتهم.

من الجدير بالذكر أنه لا يزال يساء فهم المبدأين الانتروبين، الضعيف والقوي، وقد تم استخدامهما لتبرير نظريات غير منطقية وغير علمية. فيظن الكثير أن المبدأين الانتروبيين يدعما فكرة الأكوان المتعددة، بالإضافة للادعاء بأن القيمة الدقيقة للثوابت الطبيعية لا تظهر لأغراض فيزيائية، بل لأن قيمتهم هذه مهمة لنشوء الحياة.

ويعتقد البعض أيضاً بوجود عملاق غازي يحمينا من الكويكبات، بالإضافة لزعمهم بأننا في مركز المجرة. وبشكل عام المفهوم الخاطئ للانتروبية يستخدم لاثبات أن الخصائص الكونية المتواجدة مبنية على وجودنا — أي الكون خُلق من أجلنا — وهذا ليس صحيحا، والمبدأ الإنتروبي لا ينص على هذا أبداً.

النظرية الجوهرية للمبدأ الانتروبي تنص بكل بساطة على أن البشر — الكائنات المراقبة — موجودون في هذا الكون، وبالتالي الكون مصنوع بطريقة تسمح للمراقبين والكائنات الذكية الأخرى بالتواجد في الكون أيضاً. وإذا وضعنا فرضاً قوانين فيزيائية للكون بطريقة تجعل وجودنا مستحيلاً، فستكون القوانين التي وضعناها غير صالحة لوصف الكون.

إن الدليل على وجود كائنات مراقبة وذكية عديدة هو أن الكون يسمح بذلك، لكن ذلك لا يعني أن خصائصه كانت مناسبة لنشأة الحياة الذكية منذ نشأته الأولية، أو أن وجودنا اجباري لاستمرار الكون. فبشكل عام، لا نستطيع القول أن الكون خُلق هكذا لأننا نتواجد فيه، فهذا لا يمثل المبدأ الانتروبي بل هو مجرد مغالطات منطقية.

لكن كيف انتهى بنا الأمر هنا؟

في عام 1986، أصدر كل من الفيزيائيين جون بارو (John Barrow) وفرانك تيبلر (Frank Tiplerr) كتاباً مهماً يسمى ”المبدأ الإنتروبي الكوني“ (The Anthropic Cosmological Principle)، والذي أعادوا فيه تعريف المبدأ الانتروبي كالتالي:

1. لقيم الملحوظة لكل المقادير الفيزيائية والكونية ليست متساوية على الأرجح، لكننا نعتمد القيم اعتماداً على متطلبات وجودنا، كنسبة الكربون الداعم للحياة، بالإضافة الى القيم الأنسب عند النظر إلى عمر الكون الطويل جداً.

2. يجب على الكون أن يمتلك هذه الخصائص ليسمح بنشأة الحياة فيه عند نقطة من الزمن.

يجب على الكون أن يسمح بنشوء الكربون ليدعم الحياة الذكية، والأكوان التي لا تدعم ذلك غير مسموح لها بالنشوء.
يجب على الكون أن يسمح بنشوء الكربون ليدعم الحياة الذكية، والأكوان التي لا تدعم ذلك غير مسموح لها بالنشوء.

إذاً، استبدل العلم فكرة ”وجودنا كمراقبين يتطلب بأن تكون قوانين الكون تسمح بوجودنا“ بفكرة ”يجب على الكون أن يسمح بنشوء الكربون ليدعم الحياة الذكية، والأكوان التي لا تدعم ذلك غير مسموح لها بالنشوء.“ طرح بارو وتيبلر تفسيرات للنظريات البديلة لهذه النظرية أيضاً مثل:

  1. الكون كما هو موجود، كان قد صمم بهدف خلق المراقبين — البشر — واحتوائهم.
  2. المراقبين مهمين لنشأة الكون.
  3. تواجد أكوان متعددة ذات قوانين وثوابت طبيعية مختلفة عن بعضها البعض أساسي لتواجد كوننا.

النظر إلى ما هو مجهول في هذا الكون يخبرنا الكثير عن آلية عمله، ولكن إذا تمحورت الجهود العلمية حول دراسة الروابط التي تجمع بين الانسانية والدور الحقيقي للبشر في الكون كمجرد مراقبين، أو التركيز على المسببات الأساسية لوجود كوننا بهذه الطريقة المنظمة، فإننا سنحرم أنفسنا من فرصة الفهم الحقيقي للكون. فمن المهم الابتعاد عن التعمق في الانتروبية الخاطئة؛ حقيقة أننا هنا لا يمكنها أن تخبرنا لماذا الكون يعمل بهذا الشكل وليس بشكل آخر. لكن إذا أردنا التوصل إلى حسابات أدق للبارامترات في كوننا، فحقيقة وجودنا يمكن أن توجهنا إلى إجابات قد لا نتوصل إليها بأي وسيلة أخرى.

مقالات إعلانية