in

ما هو السبب وراء امتلاكنا لحواجب العينين؟ علماء الطبيعة والتطور يحاولون الإجابة

بالنظر إلى صور ومجسمات بعض أقرباء أسلاف البشر القدماء مثل (النيادرتال) أو (الهومو إيريكتوس)، فأول ما سيشد انتباهك بكل تأكيد هو أنها كانت تملك فوق أعينها صفة مميزة وبارزة، وهي قوس حاجبية غليظة وبارزة نحو الخارج تعتلي مقلتي الأعين، وهي الخاصية التي زالت واختفت عند الإنسان الحديث الذي طور بدلها قوسا حاجبية سلسة مسطحة أكثر وأقل حجما وبروزا، لا يتعدى حجمها حجم شعر الحاجبين الذي أصبح خفيفا هو الآخر.

لطالما تساءل العلماء على مر السنوات: لماذا طور أقرباء أسلافنا من البشر القدماء أقواسا حاجبية غليظة وبارزة بهذا الشكل؟ ولماذا زالت عندنا ولم نعد نتميز بها؟

على مر السنوات اقترح العلماء الكثير من الحلول والفرضيات للإجابة على هذه التساؤلات، من بينها فرضية أن تلك الأقواس كانت عبارة عن إضافة تطورية لسدل نوع من الظلال على العينين وحمايتها من أشعة شمس السافانا الحارقة، أو أنها ساعدت على حماية العينين من مياه الأمطار المتساقطة، أو حتى حمايتها من التعرض للصدمات أثناء القتال سواء فيما بينها أو مع حيوانات أخرى.

جمجمة إنسان حديث مقارنة مع جمجمة (هومينين) قديمة، بإمكانك ملاحظة بروز عظم القوس الحاجبية على مستوى جمجمة الـ(هومينين).
جمجمة إنسان حديث مقارنة مع جمجمة (هومينين) قديمة، بإمكانك ملاحظة بروز عظم القوس الحاجبية على مستوى جمجمة الـ(هومينين).

اقترح باحثون آخرون أنها كانت تساعد على الإبقاء على الشعر والعرق بعيدا عن أعين أسلافنا ”الصيادين الجامعين“ الذين كانوا يمضون الساعات الطوال في مراقبة فرائسهم، كما قد تكون، وفقا لباحثين آخرين، ساعدت على تخفيف ضغط آلية مضغ الطعام على الجمجمة وعظام الوجه، خاصة باعتبار أن الطعام آنذاك كان نيئا وأقسى من طعامنا اليوم وغنيا أكثر بالألياف، أو أنها قد تكون مجرد حشوة لملء فراغ كان موجودا بين الدماغ وعظام الوجه.

الوظيفة الآلية المحتملة:

في دراسة حديثة نُشرت على مجلة علم البيئة الطبيعية والتطور Nature Ecology & Evolution، قرر باحثون في جامعة (يورك) دراسة الوظيفة الآلية أو الوظيفة الميكانيكية المحتملة للقوس الحاجبية باستعمال برنامج تكنولوجي متطور جدا يعرض نموذجا رقميا لجمجمة أحفورة يعتقد أن عمرها يتراوح بين 125 ألفا و300 ألف سنة تعود لجنس منقرض يعرف باسم الـ(هومو هيدلبيرجينسيس)، الذي تطور في وقت ما قبل 300 ألف إلى 600 ألف سنة مضت فيما يعرف اليوم بـ(زامبيا) في أفريقيا.

الـ(هومو هيدلبيرجينسيس)
الـ(هومو هيدلبيرجينسيس) – صورة: Smithsonian Institution

يقول رئيس فريق البحث (بول أوهيغينز): ”لقد بدأنا تجربتنا هذه بمقاربة هندسية تقنية“، ومن أجل اختبار فرضية أن تكون تلك الأقواس الحاجبية البارزة عبارة عن حشوة لملء الفراغ بين الدماغ ومقلتي الأعين، عمل (أوهيغينز) وزميله (ريكاردو ميغال غودينيو) على تقليص حجمها في النموذج الرقمي وملاحظة ما إذا كان هذا سيشكل أي فرق يذكر على الربط بين مدارات العينين والجهة العلوية من الجمجمة، لكن المفاجأة كانت في أن تقليص حجمها لم يشكل أي فرق يذكر.

ومنه شطبت فرضية ملء الفراغ بين الوجه والدماغ من الاحتمالات الوظيفية للقوس الحاجبية، لكنها قد تكون هناك لسبب آخر.

بالعودة إلى ستينات القرن الماضي، اقترح بعض الباحثين أن القوس الحاجبية قد تكون وُجدت من أجل خفض الضغط الذي تمارسه عملية مضغ الطعام النيئ والقاسي على عظام الوجه والجمجمة لدى الهومينين القدماء، ومنه تساءل العلماء عما إذا كان تقليص بروزها على مستوى النموذج الرقمي سيؤثر على طريقة المضغ أو الضغط الذي تمارسه العملية؟

لكن الجواب كان سلبيا للمرة الثانية، حيث يبدو أن إزالة القوس الحاجبية برمتها من النموذج لم يُحدث إلا تغييرا طفيفا جدا على مستوى القوى الآلية للمضغ يكاد لا يذكر، حيث قال (أوهيغينز) في ذلك: ”لقد مثل ذلك مفاجأة كبيرة بالنسبة لنا“، وأضاف: ”لقد توقعنا أن تشكل إزالتها فرقا كبيرا في آلية وقوة وكذا ضغط عملية المضغ والعض في النموذج“.

تركت هذه النتائج الباحثين في حيرة من أمرهم، فعلى ما يبدو لا يمكن حل هذا الغموض باستعمال علم الهندسة والتكنولوجيا لوحدهما.

توجه (أوهيغينز) بعدها إلى البحث عن أفكار أخرى قد تفسر الأقواس الحاجبية البارزة، وفي أثناء ذلك سمع عن دراسة أجراها أحد الباحثين السابقين يدعى (غروفر كرانتز) الذي كان مختصا في علم الأنثروبولوجيا وكان مهتما بشكل خاص بوظيفة الأقواس الحاجبية، ولشدة هوسه بمعرفة حقيقتها والغاية من تطورها لدى أقرباء أسلاف الإنسان القديم، وضع (غروفر) أقواسا حاجبية مماثلة اصطناعية وارتداها على وجهه كما لو كانت تخصه، واكتشف أنها لم تكن ناجعة في الإبقاء على الشعر والعرق بعيدا عن الأعين، لكنه اكتشف كذلك أنها كانت تخدم غرضا آخرا.

جمجمة نيادرتال
جمجمة نيادرتال – صورة: Stephane De Sakutin/Getty Images

يقول (أوهيغينز): ”بينما كان (غروفر كرانتز) يتمشى في شوارع مظلمة ليلا، كان الناس يقطعون الطريق ويغيرون اتجاهاتهم من أجل تجنبه وتفاديه“، ومنه اقترح (كرانتز) أن الأقواس الحاجبية قد تكون علامة فيزيولوجية على العدائية التي تهدف إلى إخافة الكائنات الأخرى، ويتابع (أوهيغينز): ”جعلنا هذا نفكر جديا في أنه قد يكون السبب الذي جعلها تتطور لدى أسلافنا في المقام الأول، أي من أجل أن تبعث بإشارة للآخرين توحي بالسيطرة والهيمنة“.

وتقريبا في نفس الوقت الذي كان (أوهيغينز) يتأمل فيه وظيفة القوس الحاجبية، كانت بناته المراهقات ينتفن شعر حواجبهن، وهو الهوس الذي كان يشدّهن، والذي حدث به إحدى زميلاته العالمة في علم الآثار (بيني سبايكينز).

بالحديث عن ذلك الموضوع، وضحت له (بيني) أن الحواجب مهمة للغاية في عملية التواصل بين البشر، فنحن نستعملها لبعث إشارات غير شفوية للآخرين نعبر من خلالها عن مزاجنا وما يختلج في داخلنا من مشاعر وحوافز واهتمامات، وأعقبت بالشرح أن إحدى الدراسات أثبتت أن الأشخاص الذين حقنوا حواجبهم بحشوات الـ(بوتوكس) انخفضت القوة التعبيرية لملامحهم وقل تواصلهم مع الآخرين، كما انخفضت قدرة الآخرين على فهم مشاعرهم أو مشاركتهم عواطفهم من التعاطف معهم أو ما شابه.

جعلت هذه المعلومات (أوهيغينز) و(غودينيو) يفكران: ”ماذا لو كان تطور الأقواس الحاجبية واختفاؤها على علاقة بإشارات التواصل الاجتماعية أكثر من كونها هياكل آلية حركية؟“، ومنه افترض هو وزميله (غودينيو) مع (سبايكينز) أن انخفاض بروز القوس الحاجبية وزوالها في نهاية المطاف سمح للإنسان الحديث بتطوير وسائل اتصال أكثر فصاحة استمر استعمالها إلى يومنا هذا، وربما سمحت حواجبنا لنا بدخول بُعد تواصلي آخر جديد كليا مكننا من استعمال جباهنا التي أصبحت سوية ومسطحة أكثر.

صورة: DepositPhotos

بدون وجود قوس حاجبية، أصبحت عضلات أوجهنا تستطيع تحريك حواجبنا نحو الأعلى والأسفل في حركات توحي بالكثير من التلميحات العاطفية، وبملاحظة عالم الحيوان، نجد أن بعضها مما يملك قوسا حاجبية تشبه التي كان يملكها أقرباء أسلاف البشر قديما -على غرار الشيمبانزي- لا تملك القدرة على تحريكها بنفس الرشاقة والنوعية التي نستطيع نحن تحريكها بها، ومنه قد يكون أسلافنا عانوا من نفس المشكلة التواصلية قبل زوال القوس الجبهية.

تعتقد (سبايكينز) وزملاؤها أن هذا التغير في هيكل الوجه قد منح الإنسان الحديث ميزة تطورية من خلال توفير أداة تعبيرية أقوى مكنته من التواصل بشكل أفضل مع جيرانه، فتقول بذلك: ”تجعلك ملاحظة الحيوانات الأخرى ومقارنة قدرتنا على التعبير والتواصل بواسطة حواجبنا معها تعرف جيدا أنك لا تعلم كل الحركات المعبرة والفصيحة التي نقوم بها باستعمال حواجبنا بمعدل يومي، وقد ساهمت هذه الوسيلة التعبيرية المطورة حديثا لدى الإنسان في جعلنا متفردين بكوننا بشرا“.

لكن لم يوافق معظم مجتمع العلماء وأهل الاختصاص على هذه الفرضية الحديثة، فقد أظهرت بعض الأبحاث على أنه على الرغم من كون الشيمبانزي مثلا تفتقر لحواجب مرنة وسلسة على غرار تلك التي نملكها إلا أنها ثبت استعانتها بعدد متنوع من الإشارات التواصلية غير الصوتية، التي كانت تستعملها بصورة متكررة جدا خاصة بين أفراد الأسرة الواحدة، وتقول (ميلاني تشانغ)، وهي عالمة أنثروبولوجيا في جامعة (بورتلاند) الحكومية والتي لم تشارك في هذه الدراسة: ”أجد أنه من غير الصائب ربط تعابير الوجه وعمليات التواصل غير اللفظية أو الصوتية بالحواجب والجباه المسطحة ربطا حصريا“، وجاء ردها هذا على قول الباحثين في الدراسة السابقة أن زوال القوس الحاجبية غير ملامح الوجه وصارت الجبهة أكثر تسطحا مما سمح للحواجب بالتحرك بحرية أكثر.

غير أن إثبات الارتباط والعلاقة بين تحولنا إلى استعمال تعابير وجهية أكثر فصاحة واختفاء القوس الحاجبية لن يكون بالأمر الهين، ذلك أنه لم يعد يوجد أي نوع من أسلاف الإنسان القديم حيّا حتى نتمكن من ملاحظته وملاحظة الكيفية التي يتواصل بها مع غيره بواسطة قوسه الحاجبية البارزة، وحتى لو كان الإنسان القديم مايزال موجودا ما كان باستطاعتنا ملاحظة التطور وهو يحصل أمامنا لأنه أمر مستحيل بكل بساطة.

تضيف (سبايكينز) أنه من الصعب جدا كذلك معرفة ما إذا كان زوال واختفاء القوس الحاجبية هو ما سمح لنا بتطوير تعابير وملامح وجه تواصلية أكثر فصاحة، أم أن حاجتنا لمثل هذا النوع من القدرة التواصلية هي ما جعلت القوس الحاجبية تختفي من وجوهنا تدريجيا، وشبهت الأمر بنفس معضلة البيضة والدجاجة وما إذا كانت الدجاجة سابقة للبيضة أم البيضة سابقة للدجاجة، ومنه، وبدون آلة العودة بالزمن إلى الوراء، لربما لن يتمكن الباحثون من حل هذه المعضلة بشكل نهائي وحاسم.

وكان كذلك عالم الحفريات الإسباني (ماركوس باستير) قد حذر من أنه على الرغم من كون نتائج هذه الدراسة الحديثة ملفتة جدا إلا أننا يجب أن نتقبلها بنوع من التحفظ، وكان قد دعم نقده هذا ببعض من الأدلة الملموسة من بينها أن جمجمة النموذج الرقمي الذي استعمل في الدراسة كان يفتقر لإحدى عظام الفك، وهو العظم الذي استبدله الباحثون بواحد يعود إلى النياندرتال الذي على الرغم من كونه جنسا قريبا إلى الـ(هومو هيدلبرجينسيس) صاحب الجمجمة، إلا أنه يبقى بعيدا عنه في نفس الوقت، وقد يكون هذا الأمر قد أثر بشكل أخص على نتائج أبحاث الضغط الذي تمارسه عملية المضغ على عظام الوجه والجمجمة، وأعقب (ماركوس باستير) نقده بقوله: ”مع ذلك فتحت لنا هذه الدراسة آفاقا جديدة وحماسية ستساعدنا كثيرا في أبحاثنا المستقبلية“.

مقالات إعلانية