in

دخلك بتعرف (روجر بابسون) الرجل الذي حارب الجاذبية!

روجر بابسون

على مر العصور، تعلم البشر كيفية التعايش مع الجاذبية على الرغم من سلبياتها العديدة، متقبلينها على أنها واقع فيزيائي يحكم الكون، لكن هذا لم يكن حال (روجر بابسون)، رجل الأعمال والاقتصادي الأمريكي الناجح الذي لم يكن من النوع الذي يتقبل الأشياء بسهولة.

وُلد (روجر) في سنة 1875 في (غلوشستر) بـ(ماساشوستس) وارتاد معهد ماشاسوستس التكنولوجي MIT، وبعد وقت وجيز من نيله شهادة مهندس؛ قام بتأسيس شركة لتحليل وإدارة الاستثمارات وتأمينها، وخلال عقد من الزمن أصبح (بابسون) مليونيرا فاحش الثراء، وعن طريق عدد من الاستثمارات الرابحة تمكن كذلك من مضاعفة ثروته وأصبح في ريادة عصره في مجال الاقتصاد والاستثمار.

ألّف (بابسون) أكثر من أربعين كتابا حول الاقتصاد والمشاكل الاجتماعية، بالإضافة إلى مئات من المقالات التي نشرت في المجلات والأعمدة على صفحات الجرائد، وتعتبر جامعة (بابسون) التي أنشأها واحدة من أرقى الجامعات المقاولاتية في الولايات المتحدة الأمريكية اليوم.

قاعة ملتقى الجاذبية لدى مؤسسة أبحاث الجاذبية التي أسسها (روجر بابسون)
قاعة ملتقى الجاذبية لدى مؤسسة أبحاث الجاذبية التي أسسها (روجر بابسون)

يُرجع (بابسون) نجاحه في مجال الاستثمارات والأسواق المالية إلى المبادئ الفيزيائية التي تعلمها عن السير (إسحق نيوتن) وقوانين الجاذبية وكذا قانون الفعل ورد الفعل، وكان يؤمن أن قوانين نيوتن لم تحكم حركة الأجسام السماوية والأرضية فقط بل حتى الديناميكيات التي تحرّك وتوجه الأسواق المالية أيضا، حيث كان دائما يقول: ”لابد لكل ما ارتفع أن يهوي ويسقط في نهاية المطاف“، و”ستسقط أسواق المالية وتنهار بفعل وزنها نفسه“، وهو بهذه العبارة الأخيرة كان قد تكهن بانهيار الأسواق المالية، وهي التكهنات التي تحققت بالفعل بعد شهر فقط عندما انهارت الأسواق المالية في شهر أكتوبر سنة 1929 الشهير، وكان بذلك (بابسون) واحدا من القلة القلائل الذين تنبأوا بهذا الانهيار والكساد الاقتصادي العظيم الذي تبعه.

بدأ هوس (بابسون) بالجاذبية منذ طفولته في مقالة له بعنوان ”الجاذبية، عدونا الأول“، يسرد (بابسون) حادثة غرق شقيقته التي ألقى اللوم فيها على قوة الجاذبية، فكتب: ”لم تكن ّ[أي شقيقته] قادرة على مقاومة الجاذبية التي أحاطت بها واحتجزتها مثل تنين وسحبتها إلى القاع، وهناك قبعت مختنقة وهلكت بسبب نقص الأكسجين“، كما كتب كذلك في نفس المقالة: ”بشكل متدرج أدركت أن ’السيدة الجاذبية‘ لم تكن مسؤولة فقط عن ملايين الوفيات كل سنة، بل كانت مسؤولة كذلك عن ملايين الحوادث“، واستطرد شارحا: ”ترتبط العظام المحطَّمة والعديد من المشاكل الصحية المعوية وغيرها من المشاكل الباطنية مباشرة بعدم قدرة البشر على محاربة الجاذبية في أوقات حاسمة وحرجة“.

وازداد حقده وعداوته الضارية مع قوة الجاذبية، القوة الأساسية في الكون، عندما فقد حفيده في سنة 1947 الذي هلك غرقاً هو الآخر، وبعد سنة من هذه الحادثة أسس (روجر بابسون) ”مؤسسة أبحاث الجاذبية“ من أجل استكشاف كل الأفكار التي من شأنها المساعدة على التحكم في قوة الجاذبية وحتى هزيمتها.

في تلك الحقبة من الزمن، كانت نظرية الجاذبية مهملة بشكل واسع، وقليل من الباحثين من أخذها بالدراسة والتحليل وأعارها قدر الاهتمام الذي تستحقه، ومنه كانت نية (بابسون) من وراء إنشاء هذه المؤسسة تحفيز الاهتمام في مجال دراسة الجاذبية، ومن أجل تحقيق ذلك كانت المؤسسة تنظم مسابقات تأليف بحوث ومقالات في مجال أبحاث الجاذبية، وكانت أفضل الأبحاث التي تتناول أفضل الأفكار تُكافَأ بجوائز مالية سخية.

أفصح (بابسون) عن نواياه بوضوح عندما أعلن عن كونه كان يبحث عن اقتراحات لبناء أجهزة مضادة للجاذبية، وعوازل جزئية، أو أية مواد من شأنها عكس أو امتصاص قوة الجاذبية، غير أن استجابة المجتمع العلمي بعد معرفة هذه النوايا كانت فاترة جدا، لذا قام (جورج رايدوت)، مساعد (بابسون) المقرّب، بنصحه بأن يغير صيغة تصريحاته حتى لا تبدو المؤسسة وكأنها تحاول محاربة الجاذبية بل أنها تحاول بدل ذلك فهمها.

ومنذ ذلك الحين ومؤسسة أبحاث الجاذبية تكافئ وتجازي المقالات العلمية التي يؤلفها الباحثون والعلماء في مجال الجاذبية إلى يومنا هذا.

استقطبت مسابقة المقالات العلمية السنوية التقليدية التي تنظمها المؤسسة كوكبة من ألمع العقول خلال القرن الفارط، من بينهم (ستيفن هاوكينغ) الذي فاز بالجائزة السنوية لسنة 1971، والرياضياتي الشهير (روجر بينروز) الذي فاز بها سنة 1975، والفيزيائي الفلكي والمرشح لجائزة نوبل (جورج سموت) الذي فاز بها سنة 1993، كما تحصل خمسة باحثين على الأقل من الفائزين بجائزة مؤسسة أبحاث الجاذبية السنوية على جائزة نوبل في الفيزياء في وقت لاحق من حياتهم.

نصب حجري تذكاري تبرعت به مؤسسة أبحاث الجاذبية لفائدة جامعة (تامبا) الأمريكية.
نصب حجري تذكاري تبرعت به مؤسسة أبحاث الجاذبية لفائدة جامعة (تامبا) الأمريكية – صورة: WalterPro من فليكر

في ستينات القرن الماضي، وهبت مؤسسة أبحاث الجاذبية منحاً مالية ونصباً حجرية تذكارية لفائدة 13 جامعة أمريكية، ونُقش على واجهات النصب الحجرية التذكارية أقوال محفزة متنوعة على غرار: ”إن هذا الحجر من أجل تذكير الطلبة بالنعم والفوائد المتوقعة من اكتشاف أداة شبه عازلة بهدف استخدام الجاذبية كقوة حرة وخفض حوادث الطائرات“، و”إن هذا الحجر من أجل تذكير الطلبة بالنعم المنتظرة بعد أن يحدد العلم ماهية الجاذبية، وطريقة عملها، وكيف يمكن التحكم بها“.

ولأن المؤسسة شرطت أن لا يتم استخدام المنح المالية سوى في الأبحاث المضادة للجاذبية، بقيت كل تلك الأموال قابعة غير مستعملة لمدة عقود من الزمن لأن الكثير من المعاهد المستفيدة منها لم تتمكن من العثور على طريقة فعالة لإنفاقها، وفي نهاية المطاف، انتهى الأمر بالكثير من تلك المعاهد والجامعات باستعمال أموال المنح في مساعي أخرى مغايرة تماما لما كان (روجر بابسون) ليوافق عليه، على غرار بناء وتشييد ملحقات وتوسيع الجامعات وإضافة قاعات وحجرات دراسة إضافية.

صرح حجري تذكاري ”ضد الجاذبية“ تم وهبه لجامعة (توفتس) الأمريكية من طرف مؤسسة أبحاث الجاذبية.
صرح حجري تذكاري ”ضد الجاذبية“ تم وهبه لجامعة (توفتس) الأمريكية من طرف مؤسسة أبحاث الجاذبية – صورة: Jacob Barss-Bailey من فليكر

غير أن جامعة (توفتس) في (ميدفورد) استعملت أموال المنح استعمالا جيدا، حيث وجهتها لتمويل معهد (توفتس) لأبحاث الفلك حيث ”يعمل باحثون على التحقيق والعمل على عدد واسع من المواضيع المتعلقة بالفيزياء النظرية وعلم الفلك“.

كتب (أليكسندر فالنكين) مدير المعهد قائلا: ”لم يتوقع أحد أن علماء الفلك في جامعة (توفتس) سيعملون على الأبحاث المضادة للجاذبية، لكن ذلك كان ما توجهوا إلى فعله بالضبط“، وأضاف: ”تتركز معظم الأبحاث التي تجري في المعهد على ’الفراغ الكاذب‘ وجاذبيته التنافرية وهو ما يعتبر دون شك بحثا في مجال ’الأبحاث المضادة للجاذبية‘، لذا أعتقد شخصيا أن السيد (بابسون) ما كان ليجد استعمالا أفضل لأموال المنح“.

اليوم، عندما يتخرج طالب من معهد علوم الفلك في جامعة (توفتس) بشهادة الدكتوراه، يتم إجراء مراسيم احتفالية صغيرة أمام النصب التذكاري الحجري الخاص بمؤسسة أبحاث الجاذبية الذي تبرعت به للجامعة، حيث ينحني الطالب المتخرج حديثا على ركبته ويقوم البروفيسور المشرف على رسالة تخرجه بإسقاط تفاحة على رأسه أملا في أن يلهمه ذلك بأن يحذو حذو السير (إسحق نيوتن).

صورة تبرز مراسيم حفل تخرج الدكاترة من معهد علوم الفلك في جامعة (توفتس) أمام النصب التذكاري الحجري الخاص بمؤسسة أبحاث الجاذبية.
صورة تبرز مراسيم حفل تخرج الدكاترة من معهد علوم الفلك في جامعة (توفتس) أمام النصب التذكاري الحجري الخاص بمؤسسة أبحاث الجاذبية.
حجر تذكاري في مؤسسة أبحاث الجاذبية نقش عليه: "إبق بعيدا عن الديون"
حجر تذكاري في مؤسسة أبحاث الجاذبية نقش عليه: ”إبق بعيدا عن الديون“

مقالات إعلانية