in

تسع وتسعون وضعية

تسع وستون وضعية
صورة لـErik Ravelo

”بلاد الله واسعة“… عبارة كانت جدتي تكررها دوماً، حتى في سياقاتٍ كثيرة لا تناسبها؛ ”أين رحلت عائلة جارنا ابو محمد؟“ الإجابة معروفة ”بلاد الله واسعة!“

سألتها مرة عن جنسية زوجة خالي الأجنبية فردّت ”أنا داري من وين جابها! بلاد الله واسعة!“، وعندما اختفت قطتي وبحثت عنها فزعاً لأيام وأيام، قالت لي ”انت خايف عليها؟ بلاد الله واسعة!“

والاغرب من كل هذا أنها عادت في أحد المرات من السوق مبتهجة، لأنها صادفت صديقة من طفولتها كانت قد رحلت مع عائلتها إلى الأردن منذ عقود، وأنهت حديثها بـ”سبحان الله ما أصغر الدنيا!“

بتُّ حينها أعلم أن ”الدنيا“ بالنسبة لجدتي هي المحيط الجغرافي المعتاد والمألوف والمعروف لديها، أما ”بلاد الله الواسعة“ فهي كل ما دون ذلك.

عاد صديقي ”جيمي“ من السفر —وقد كان جمال قبله— من أحد بلاد الله الواسعة في أوروبا، وأحضر لي هدية على سبيل المزاح، كتاب ”كماسوترا“ يحتوي على وضعيات جنسية كثيرة مع شرح يسير أسفل الصور عن طريقة تنفيذها وقال ضاحكاً ”بلكن تزوّجت يا مصدّي“.

في اليوم التالي، انفقت ثلاث ساعات متواصلة في تصفّح الكتاب، لا لأنها أثارتني وشجّعت بي رغبة ضائعة بالزواج، بل لأن أمراً آخر أثار اهتمامي، لقد كان الكتاب بالنسبة لي يصلح كدليل مفصّل لطبيعة العلاقات بين البشر في هذا الجزء من العالم والمسمى —اعتباطاً بالوطن العربي، فقط إذا غيّرنا الشروحات أسفل الصور، وفعلاً بدأت بفعل ذلك، وبالرغم أنني لا أرى العلاقة الجنسية عبارة عن طرف فاعل وآخر مفعول به، إلا أن ذلك بدى واقعياً للغاية في هذا السياق.

أولاً: القطّة

ينتمي إلى هذه الوضعية التقليدية شريحة لا يستهان بحجمها من هذه الشعوب، فالمفعول بهم في هذه الوضعية هم —عادةً الموظفون والعمّال ومن لف لفيفهم، وهم من ذهبوا بكامل إرادتهم للمضاجعة، وقد يبدو أن الحال يعجبهم، لكن حقيقة الأمر أنهم يصطنعون ذلك لارضاء الفاعل، أملاً بالانتقال الى وضعية الفاعل يوماً ما.

أما الفاعل في هذه الوضعية فهم بكل بساطة أرباب العمل وأصحاب رؤوس الأموال ومن لف لفيفهم، وهؤلاء ايضاً —في أحيان اخرى، قد يتحوّلوا إلى مفعول بهم في وضعياتٍ أخرى، حسب ما تقتضيه مصالحهم.

ثانياً: الشلال

أما وضعية الشلال، فهي وضعية الحالمين من المفعول بهم في وضعية القطّة، هم الأكثر جبناً على الأطلاق، حتى أحلامهم جبانة؛ فهؤلاء يحلمون بأن يلقوا بمضاجيعهم أرضاً دون القضاء عليهم، ولكن ليرتقوا فوقهم بعد أن يجهزوا عليهم، وذلك أملا بالحصول على جزء من حقوقهم بعيداً عن اختفاء مضاجعيهم نهائيا، وذلك لضمان بقاء التدفقات النقدية بشكل شهري.

الجدير بالذكر أن كثيراً من افراد شعوب المنطقة يعتقدون أنهم انتقلوا إلى هذه الوضعية، كالمنظرين والصحفيين والمصلحين الاجتماعيين والمؤثرين ومن يعملون في مجال التنمية البشرية وغيرهم… لكنهم لا يعلمون أنها وضعية من نسج خيالهم ولا وجود لها، ولا يمكن بأي حال أن يمتلك من اعتاد على أن يكون مفعولاً به القدرات البدنية التي تتطلبها هذه الوضعية كفاعل ومفعول به في آنٍ معاً.

ثالثاً: واحد لأعلى

كثير من مواطني هذه البلاد ينتمون إلى هذه الشريحة، حتى من الفاعلين في القطة مثلا أو حتى المفعول بهم في كل الوضعيات، وهذه الوضعية هي وضعية المتملّقين والوصوليين بامتياز، وبينما يبدو المنتمين لهذه الوضعية كفاعلين، إلا أنهم —بطريقة ما مفعول بهم، وتحتاج هذه الوضعية إلى لسان طويل ويفضّل أن يكون مرن ومدبب وقادر بشكل مثير للعجب على اللعق إلى مالا نهاية، حتى أكثر البشر قرفاً على وجه البسيطة!

رابعاً: راعية البقر

ينتمي إلى هذه الوضعيّة، شريحة المتحزّبين والمستفيدين من السلطات والمقربين من أصحاب النفوذ والألقاب وصانعي القرار، ومنهم بطبيعة الحال رجال دين وإعلاميين وأكاديميين وبلطجية وغيرهم، وقد احتاج هؤلاء لمدة لا يستهان بها من القيام بوضعية ”واحد لأعلى“ حتى يصلوا إلى ”راعية البقر“.

المنتمين لهذه المجموعة لا يعلمون أنهم مفعول بهم وحسب، بل هم سعداء وفخورون بذلك ويدافعون باستبسال عن الفاعلين بهم حتى آخر رمق! يحتاج المنتمين إلى هذه الوضعية أن يكونوا وضيعين وسفلة إلى حد يصعب تقديره!

خامساً: الكرسي الساخن

وهؤلاء أيضاً مثل المنتمين إلى راعية البقر، ولكن مع اختلاف بسيط ولكنه حاسم؛ فهؤلاء متحزّبين ومستفيدين من السلطات ومقربين من أصحاب النفوذ والألقاب وصانعي القرار، وسعداء بكونهم مفعول بهم ولكنهم يصطنعون أمام الجميع أنهم أصحاب مثل عليا وحماة البلاد من المفاسد ويجاهرون بعدم رضاهم عن الفاعلين بهم، وينكرون أنهم مفعول بهم.

ولكن هؤلاء الأغبياء مكشوفون للجميع، فمحاولة عدم النظر بعيني من يضاجعك، لا يعني أبداً أنه لا تتم مضاجعتك! هؤلاء هم الأقذر على الاطلاق!

سادساً: وريث العرش

وهم من سلالة ”واحد لأعلى“ ولكنهم يعتمدون على حدسهم، فيلعقون أشخاصاً من المتوقّع —مستقبلاً أن يصبحوا فاعلين في إحدى الوضعيات الهامة.

غالباً ما ينتهي الأمر بمثل هؤلاء بالانتقال إلى وضعية ”واحد لاعلى“ أو غيرها بعد اكتشافهم أن حدسهم لم يكن في المكان المناسب وبعد خيبة أمل من طول اللعق بلا طائل، ولكنهم على الأقل اكتسبوا خبرة لا بأس بها في اللعق، وما الحياة إلا تعلّم من التجارب.

أحياناً يكتشف هؤلاء الحمقى أنهم كانوا لفترة طويلة يتملقون من هم أصلا لاعقين في وضعية ”واحد لأعلى“ والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

سابعاً: المكواة

وهؤلاء المساكين، مفعولٌ بهم، حاولوا بشتى الطرق الهروب من دائرة الدعارة تلك ولكن فضح أمرهم ووقعوا بين يدي مضاجعيهم مرة أخرى، وبالتالي وجدوا أنفسهم بهذه الوضعية!

في الواقع، الكثير من الوضعيات مشابهة لهذه الحالة حيث تتفاوت شدة الفاعل بالانتقام حسب شدة نوايا المفعول بهم عندما قبض عليهم… ومنها على سبيل الذكر لا الحصر: وضعية الزبدة المخفوقة ووضعية العربة اليدوية ووضعية التنّين واقفاً وغيرها.

ثامناً: الحضور إلى الحمام

والمنتمين لهذه الوضعية هم من كانوا بوضعية الكرسي الساخن، ولكن مضاجعيهم ملوا من طول لسانهم ووضعوا مرآة أمامهم حتى يروا بأعينهم أنهم تتم مضاجعتهم، والغرض من هذه الوضعية هو فضحهم أمام الجميع للتخلّص منهم.

تاسعاً: تسعة وستون

تعتبر هذه الوضعية أكثر الوضعيات انتشاراً وتداولاً بين مختلف أنواع الفاعلين فقط، وهي الوضعية التي استمدت طبيعتها من المقولة الشهيرة ”حكّلي بحكّلك“، وهي الوضعية التي تظهر عند وجود مصالح متبادلة بين الفاعلين في مختلف الوضعيات وعلى أساسها تقوم.

عاشراً: الصديق الوفي؛ أشهر وضعية في العالم العربي

بعد ما ذكر أعلاه لا بد من الإشارة إلى هذه الوضعية، والتي ينتمي لها كل من مواطني البلاد من أكبرهم فعلا إلى أكثرهم مفعولا به! وهي الوضعية التي يتلقاها كل السكان سواء من احتلالات أو دول عظمى، والجميع هنا يحاول إنكار هذه الحقيقة، إلا أن آلام الشرج أشد من أن تخفى ولا مهرب من استخدام مراهم بين الفينة والأخرى لمداراتها، وهذه عادة وظيفة الخطب الحماسية ومثلها من أدوات أخرى كالشعارات الرنانة والأيدلوجيات الكاذبة والحركات القومية التافهة!

كنت اليوم في زيارة عند قبر جدتي، بعد زيارة فاشلة لأحد سفارات ”بلاد الله الواسعة“ أملاً بالهرب من هذه المدعرة بعدما تعبت من هذا التكرار اللانهائي.

أخبرت جدتي أنني أشعر بالاحباط من كل تلك الطلبات المرفوضة من عشرات السفارات، وأخبرتها أيضاً أنها كانت على خطأ، وأن هناك احتمالان لا ثالث لهما: إما أن الله قد تخلى عن بلاده الواسعة أو أنها باتت ضيّقة حتى كادت تطبق على صدري!

مقالات إعلانية