in

رسالة متأخّرة 150 عاماً إلى فرويد

فرويد

عزيزي فرويد ”الإنسان“

أحبّكَ وأحترمك، وكم زادت مساحةُ العدم برحيلك، وما أكتبه لك إنّما لتقديري لما قدّمته للإنسانيّة من خلال مدرسة التّحليل النّفسي، وعدد من الأبحاث الّتي صارت حجر الأساس لعلم النّفس الحديث.

يؤسفني أنّ من كتب ”موسى والتّوحيد“، ذاكَ الّذي يؤمن بالإنسان وبقدراته وبعقله، وبأنّ الرّبّ إنّما في داخل كلٍّ منّا، أن يدوس وجوده بهذه البساطة، وينتقل من الفرديّ إلى الجمعي، صدّقني هذا لا يختلف كثيراً عن فكرة ”نكون ثمّ نوجد“!

عزيزي فرويد

كيف يمكن للإنسان اللّامحدود فيك أن يحجّم دوافع الإنسان جميعها، مخاوفه، أحزانه واضطراباته النّفسيّة بالمساحة بين رجليه…!

كم أتمنّى لو كنتَ حيّاً، لأقول لك:

لا يمرُّ نهارٌ لا تتساءل فيه أنثى ماذا لو تكون رجلاً، ولكنّ ذلك يا عزيزي لا علاقةَ له بعقدة القضيب كما تقول، بل لأنّ الذّكورة كثيراً ما تجعل الأمرَ أسهل، وخاصّة في المجتمعات المريضة، الّتي تحاصرُ المرأة بالتّابوهات حتّى تعجز عن التّنفّس، وغريزة الإنسان بالتّوق للحرّية تجعله يتخيّل نفسهُ بالشّكل الأقرب لتحقيق هذه الرّغبة.

وألومكَ يا عزيزي لومَ الإنسان لأخيه، فأنتَ الّذي قد انتقدَ الدّين لأنّه وضع حدّاً لدماغِ الإنسان، وقعتَ في نفسِ أخطائه، حاولتَ اختصارَ الإنسانيّة ببحثٍ يجعلُ البشرَ عبارةً عن آدم بعقدةِ خصاء، وحوّاء بعقدة القضيب.

لا أخفيك سرّاً بأنّ الكثير من العظماء خالفوك الرّأي، هرمان هسّة قال بأنّهُ إنّما في كلٍّ منّا تنطوي البشريّة جميعاً، وبأنّنا بما نكتشفهُ في أنفسنا نصنع اختلافاتنا، وهذا ما يجعلُ كلّ إنسانٍ علماً نفسيّاً بأكمله…

وأوشو قال:

”لا تستطيعُ أن تتبّعَ خطاكَ في حياةِ الآخر ولا خطاهُ فيك“

وتلامذتكَ يا عزيزي، خرجوا من عباءتك، وذهبوا إلى البعد الاجتماعي والأنثروبولوجي كمؤثّرٍ مهمّ في الحياة النّفسيّة، حتّى أنّ ايريك فروم قال عنك في كتابه ”مهمّة فرويد”: ”فرويد ناطقٌ كبيرٌ باسم الجنس، لكنّه متزمّتٌ نموذجي، ونظريّاته عن النّساء ليست سوى عقلناتٍ ساذجةٍ لأحكامٍ ذكوريّة، وخاصّةً لأولئك الرّجال الّذين يلجؤون للسّيطرة لإخفاء خوفهم من النّساء“

لذلكَ أقول لكَ بأنّكَ حينما حاولتَ أن تسقطَ مسيرةَ حياتكَ وعصابكَ الشّخصيّ الّذي مردّه طفولتكَ المدلّلة وارتباطك بأمّك على الجميع فقد فشلت، لأنّ ما كتبتهُ.كفيلٌ فقط ليخيّبَ أملَ امرأةٍ عظيمة، ويحدثَ عند غيرها ممّن يؤمنون بك عقداً نفسيّة شبيهة بما كتبت.

العقد إذاً مكتسبة، بحسب المجتمع، أبويٌّ أم أمومي، فأنا لا أعتقدُ بأنّه في المجتمعات الأموميّة كانت المرأة تتمنّى أن تكون رجلاً، مثلما اليوم لا يتمنّى الرّجلُ أن يكون أنثى في مجتمعاتنا الأبوية.

وفقاً للويس مورغان وانجلس فإنّ المرأة عند جميع القبائل في طور الوحشيّة وفي الطّورين الأدنى والأوسط وجزئيّاً في الطّور الأعلى من البربريّة لم تكن تتمتّع بالحرّيّة وحسب، بل تشغل أيضاً مركزاً مشرّفاً جدّا، ولها سطوةٌ في العائلة والعشيرة.

ويوضّح انجلس في كتابه ”أصل العائلة“ أسباب تحوّل المجتمع من أمومي إلى بطريركي, وهذه الأسباب ترتكز على قاعدة اقتصاديّة, فمع تحوّل المجتمع من الصّيد إلى الرّعي و الزّراعة ثمّ الإنتاج في الطّور الأعلى من البربريّة، وبعد ظهور الملكيّة الخاصّة و تنامي الثّروات، الّتي كانت من جهة تعطي الزّوج مكانة أهم من مكانة الزّوجة، ومن جهة أخرى تولّد السّعي إلى الاستفادة من هذا المركز لصالح الأولاد عن طريق تغيير نظام الوراثة التقليدي و التّخلي عن حبل النّسل النّسائي، ممّا أدّى عبر التّطوّر التّاريخي وحتّى ظهور المجتمعات الرّأسماليّة المتطوّرة، إلى استلام الرّجل لدفّة القيادة وحرمان الأنثى من مركزها المشرّف، فاستذلّت وغدت عبدة رغائب زوجها، وأمست أداةً بسيطةً لإنتاج الأولاد لدرجةِ أنّ كلمة أسرة ”family“ الحاليّة مشتقة من الكلمة الرّومانيّة ”familia“ والّتي كانت تطلق على المنظومة الاجتماعية التي يكون رئيسها سيّداً على المرأة و الأولاد وعدد معين من العبيد، وبحكم السّلطة الأبوية الرومانية فقد كان أيضاً يملك حقّ الحياة و الموت على جميع هؤلاء الأشخاص كل هذا انغرس في الّلاوعي الجمعي للبشريّة، وخلق النّتائج الّتي نعيشها اليوم، وإذا كان الفن دليلاً حيّاً على هذا الّلاوعي الجمعي فإنّ ميثولوجيا العهد البطولي الإغريقي خير مثال.

تتعلّق رغبةُ الأنثى في أن تكون أحياناً ذكراً، بـ ”مجهودٍ أقل“ وأنتَ الذي ذكرتَ المجهود والرّغبة في كتابكَ ”تفسير الأحلام“!..

وتذكرُ الدّكتورة نوال السّعداوي في كتابها ”المرأة و الجنس“ بأنّ الأبحاث النفسية يا عزيزي (بحسب نيومان) أثبتت أنّ في داخل كل إنسان شعور أمومي وشعور أبوي، ولكن كلّاً من الجنسين يفصح عن الجانب الذي يحدّده المجتمع ويخفي الجانب الآخر كامناً في اللاشعور، وتظهر ميول كلٍّ من الجنسين بشكل واضح في الصغر، حيث نرى الفتاة تقلّد أخاها وهذا ما فسّرتَه بأنه غيرة من امتلاكه للعضو الذكري، ولكن في الحقيقة إنّما هو اظهار فطري لميول طبيعيّة، حيث يصعب رؤية ميول الذكر الأنثوية وذلك لأن المجتمع يميّز الذّكر فيصعب عليه التنازل عن امتيازاته الاجتماعية لإظهار ميوله الأنثوية، أما الأنثى فهذا يشجعها على إظهار ميولها الفطرية.

عزيزي فرويد…

أحياناً أتساءلُ ماذا لو كنتُ رجلاً، ولكنّي أتساءلُ أيضاً كم من الأشياء ستفوتني، أحبُّ جسدي، أحبُ الإنوثة المفرطة في داخلي، وأكثرُ ما أحبّهُ رجلٌ بجانبي، يحبُّني ويمنحني السّلام، ناقصٌ بدوني، وناقصةٌ أنا بدونه.

لفرويد الإنسان…

الإنسانيّة أوسع بكثير من شكل أعضائكَ التّناسليّة أو أعضائي التناسليّة

والإنسان وجِدَ، ثمَّ كان.

هذا ما فاتكَ، وهو النقطة العدمية في كعب أخيل..!

مقالات إعلانية