in

العلاقة بين الإبداع والأمراض العقلية قد تكون أعقد مما نتصور

شيستر بينينغتون

أُصيب العالم مؤخراً بحزن شديد على إثر خبر انتحار نجم الروك ”كريس كورنيل“ والمغني الرئيسي في فرقة لينكين بارك ”شيستر بينينغتون“ بعد معاناة لسنوات طويلة مع الإكتئاب الشديد! كوميديون موسيقيون وكتاب وغيرهم من المبدعين عُرف عنهم أيضاً نظالهم مع الأمراض العقلية.

هذه ليست بأي حال من الأحوال ملاحظة جديدة، فقد قال أرسطو يوما: ”لم يوجد أبدا عبقري عظيم بدون خصلة من ’الجنون‘“.

مايكل ٱنجيلو، بيتهوفن، فان جوخ، إميلي ديكنسون، والكثير من الآخرين الذين غيروا مسار البشرية من خلال أعمالهم، عُرف عنهم أيضا صراعهم مع بعض العفاريت القوية بداخلهم.

لكن هذا لا يثبت أية صلة على أية حال من الأحوال بين الابداع والأمراض العقلية، فنحن كمجتمع يمكننا أن نجعل الفنان يبدو رومنسيا لمجرد أنه مجنون نوعا ما أو غير سوي عقليا! إذن، هل وجد العلم أخيرا أي صلة من هذا النوع؟ وإذا كان الأمر كذلك، ماذا يمكن لهذا الرابط أن يخبرنا بشأن هذه العلاقة؟

كان هناك نهجان تم اتباعهما للتحقيق في هذا الأمر، الأول هو إجراء مقابلات مع أشخاص مبدعين، والٱخر هو تحليل أعمالهم الشخصية.

كانت دراسة ”لينغ إيخباوم“ عام 1931 أول من خاض في هذا السؤال، إذ تمت مقابلة أكثر من 800 من العباقرة المعروفين في ذلك الوقت، وخلُصت الدراسة إلى أن أقلية صغيرة فقط من الذين اُجريت عليهم الدراسة كانت خالية من أي مشاكل تتعلق بالصحة العقلية، وقد عززت معظم الدراسات الحديثة هذا الاعتقاد.

نجم الروك كريس كورنيل
نجم الروك ”كريس كورنيل“ – صورة: Getty Images

إلى جانب المقابلات أو تحليل الأعمال الشخصية لمحاولة إيجاد مرض عقلي ما، هناك منهج ٱخر تجلى في كتابات فيرجينيا وولف، وهو البحث عن الإبداع عند أولئك الذين يعانون من أمراض عقلية، فقد أظهرت بعض الدراسات أن أولئك الذين هم على درجة عالية من الإبداع كانوا أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب، والفصام، والإضطراب ثنائي القطب.

وقد رُبط الإضطراب ثنائي القطب بشكل خاص مع الإبداع على مر الزمن، حيث وجدت إحدى الدراسات التي أجريت على حوالي 700000 من المراهقين السويديين من أجل اختبار مدى ذكائهم، أن أولئك الذين كانوا مبدعين بشكل استثنائي كانوا أكثر عرضة بأربعة أضعاف للإصابة بهذا الإضطراب!

وتتجسد هذه الحالة في مزاج المريض الذي يتحول بحدة من حالة سعادة شديدة إلى حالة اكتئاب شديد، كما وجد الباحثون أيضا علاقة قوية بين الكتّاب والفصام.

وجدت دراسة أجريت عام 2013، نشرت في مجلة البحوث النفسية أن الناس الذين امتهنوا الميادين العلمية أو الإبداعية كانوا أكثر عرضة للإصابة بالإضطراب ثنائي القطب أو أقرب إلى هذه الحالة، وخلص الباحثون هنا إلى أن: ”كون المرئ مؤلفا وكاتبا مرتبط على وجه التحديد بزيادة احتمال الإصابة بالفصام والاضطراب ثنائي القطب والاكتئاب، واضطرابات القلق وتعاطي المخدرات والانتحار“.

ديفيد فوستر والاس
ديفيد فوستر والاس: ”قد يكون الكتاب عرضة بشكل خاص للمرض العقلي“ – صورة: Getty Images

وصرح عالم النفس السريري ”كاي ريدفيلد جاميسون“ من جامعة ”جونز هوبكنز“ لصالح موقع ”Live science“ أن المصابين بثنائي القطب الذين قد مروا لتوهم بمرحلة اكتئاب، غالبا ما يشهدون زخما إبداعيا عاليا، وعندما يحدث هذا، يُظهر الفص الجبهي للدماغ الكثير من النشاط، على غرار ما يحدث عندما يركز شخص ما على السعي الإبداعي.

سبب آخر قد يكون الحجم الهائل من الأفكار التي تغمر عقل الشخص المصاب بثنائي القطب وهو في حالة هوس شديد، فإمتلاك قدر كبير من الأفكار في ٱن واحد قد يجعل المرئ يُفلح في الخروج بواحدة فريدة من نوعها.

وقال عميد كلية قانون الصحة العقلية في جامعة جنوب كاليفورنيا ”إلين ساكس“ أن الذين يعانون من اضطراب نفسي لديهم صفاء ذهني أقل، حيث يمكن للمرضى في هذه الحالة أن يعيشوا مع شكل من التنافر الإدراكي، أو أن تكون لديهم اثنان من الأفكار المتنافسة في العقل في ٱن واحد، مما يتيح لهم العثور على الكثير من الروابط التي يغفل عنها الٱخرون.

كما تساءل بعض الباحثين عما إذا كان هناك رابط وراثي بين الأمرين، وهو الأمر الذي أكده علماء الأعصاب في دراسة نشرت عام 2015 في مجلة Nature، حيث شملت هذه الدراسة بيانات حوالي 86000 آيسلنديا و35000 سويديا ودنماركيا، وقام فريق من الباحثين الدوليين بإجراء الدراسة بقيادة ”كاري ستيفانسون“، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة ”ديكود“، وهي شركة علم وراثة أيسلندية.

انتحار روبن ويليامز أصاب العالم بصدمة. لم يتوقع أحد أنه كان يعاني من الاكتئاب
انتحار روبن ويليامز أصاب العالم بصدمة. لم يتوقع أحد أنه كان يعاني من الاكتئاب – صورة: Getty Images

وقد وجد ستيفانسون وزملاؤه أن المبدعين من المختصين في الفنون، وأولئك الذين كانوا أعضاء في مجتمع الفنون كانت لديهم مستويات عالية من الـ”Polygenes“ تنذر بخطر الإصابة بالفصام والإضطراب ثنائي القطب، ويُذكر أن الـPolygene هو مجموعة من الجينات صغيرة جدا ولا يمكنها إحداث أي تأثير لوحدها، ولكنها بالتفاعل مع جينات أخرى يمكنها إحداث فوارق كبيرة ومتنوعة يمكن ملاحظتها.

ويشير بعض منتقدي هذا الطرح إلى أن الصلة في الدراسة الأيسلندية ضعيفة، إذ يقولون أنه على الرغم من أننا على دراية بالحالات الشهيرة للمبدعين الذين عانوا من الاضطرابات النفسية، لكن هذا ليس بالضرورة قاعدة ثابتة!

يعد أستاذ علم النفس ”ألبرت روثنبرغ“ في جامعة هارفارد واحدا من هؤلاء المنتقدين، في كتابه الذي صدر في عام 2014 بعنوان ”رحلة من عجب: التحقيق في الإبداع العلمي“، قابل روثنبرغ 45 من العلماء الحائزين على جائزة نوبل، ولم يجد أي ارتباط بين الإبداع والاضطرابات النفسية، حيث لم يكن أي من الحائزين على جائزة نوبل مريضا بأي شكل من الأشكال وثبت خلوهم التام من الأمراض العقلية والنفسية.

في مقابلة له مع صحيفة ”غارديان“ صرّح روثنبرغ: ”المشكلة هي أن معايير الإبداع ليست دائما ذات علاقة بالإبداع، فالانتماء إلى مجتمع فني، أو العمل في الفن أو الأدب، لا يثبت أن الشخص مبدع، ولكن الحقيقة هي أن العديد من الناس الذين يعانون من مرض عقلي يحاولون شغل الوظائف التي لها علاقة بالفن والأدب، ليس لأنهم جيدون فيها، ولكن لأنهم ينجذبون إليها، وهذا الأمر يمكن أن يحرف البيانات! تقريبا، تستخدم جميع المستشفيات العقلية العلاج بالفن، وعندما يخرج المرضى من هذه المصحات، ينجذب كثير منهم إلى الوضائف الفنية والمهام الفنية.“

على الرغم من أن العديد من الدراسات تشير إلى وجود اتصال ورابط بين الابداع والأمراض العقلية، الا أن الأمر لم يحسم بعد، وستكون هناك حاجة إلى مزيد من البحوث، وخاصة لإثبات ما إذا كانت هناك أسس جينية وراثية أم لا، فبالقول بأن هناك اتصال، هل يمكن أن يؤدي عزل الجينات أو الـPolygenes المسؤولة إلى علاج العبقرية الإبداعية من الإضطراب ثنائي القطب مثلا، وهل سيسمح هذا للمُصابين به بإدارة عبقريتهم بشكل أفضل أم أن ذلك سيقتل الابداع فيهم؟

وإذا فعلنا ذلك، هل سنقوم بسلب المجتمع التقدم أو الأعمال الفنية الرائعة؟ وإذا قام الفنان العبقري المُصاب بالإضطرابات النفسية، والذي ساهمت أعماله في تقدم البشرية، بالإنتحار لأنه لم يُعالج، بسبب حاجتنا لإبداعه، هل يعتبر الأطباء الذين تحفظوا على العلاج متواطئين؟ هل المجتمع هو المسؤول إذن؟ هذه هي الأسئلة الأخلاقية الشائكة التي قد يكون علينا أن نواجهها قريبا جداً!

مقالات إعلانية