في عام 1831، بدأ (تشارلز داروين) رحلته على سفينة (HMS Beagle) ليجوب فيها العالم ويزور أراضٍ جديدة، ويدرس أنواعاً غريبةً من النباتات والحيوانات. عندما انتهت رحلته وعاد عام 1836، بدأ صياغة ما أصبح لاحقاً النظرية الأكثر شهرة وقبولاً في المجتمع العلمي عن أصل الحياة على الأرض.
وأتى أساس إدراك (داروين) للتطور من زيارته لجزر غلاباغوس، وهي عبارة عن أرخبيل معزول للغاية، لدرجة أن بات موطناً لحياة برية فريدة ومتنوعة.
هناك العديد من المناطق المعزولة الأخرى حيث تطورت الحياة بشكل مختلف عما نراه عادة، وسنتناول في هذا المقال بعضاً من هذه المناطق.
1. بين الشارعين 63 و76 في مدينة نيويورك، اكتشف العلماء نوعاً جديداً من النمل لا يوجد في أي منطقة أخرى على كوكب الأرض. نيويورك هي موطن لـ ”نمل مانهاتن“ وأنواع فريدة من حشرة الحريشة (أم أربعة وأربعين) ونحل العرق والفأر أبيض القدمين

وفقاً لـ (روب دن)، أستاذ علم الأحياء في جامعة ولاية كارولينا الشمالية، فإن نمل مانهاتن هو واحدٌ من أقرباء نمل الذرة. وعلى الرغم من أن هذا النوع من النمل يشبه أنواعاً من أوروبا، إلا أن العلماء لم يتمكنوا من مطابقته مع أي نوع أوروبي، بل ولم يجدوا أي تطابق مع بقية أنواع النمل المعروفة في العالم، والتي يبلغ عددها حوالي 13 ألف نوع. فنمل مانهاتن تطور بشكل منعزل في تلك ”الغابة الخرسانية“ وتكيف مع العيش في البيئة الأكثر جفافاً ودفئاً في المدينة.
ويرى العلماء أن هناك عاملاً آخراً ساعد في تطور هذا النوع من النمل، وهو النظام الغذائي الذي يعتمد على بقايا أطعمة البشر الغنية بشراب الذرة عالي الفركتوز. وحسب العلماء، فهذا النظام الغذائي هو سبب ارتفاع مستويات الكربون في جسم هذا النوع من النمل.
وإن ”نمل مانهاتن“ ليس النوع الوحيد الذي تتفرد به مدينة نيويورك. ففي عام 2002، اكتشف العلماء نوعاً جديداً من حشرة الحريشة (أم أربعة وأربعين) والتي تستوطن حديقة سنترال بارك. وفي عام 2010، اكتشف العلماء أنواعاً جديدة من نحل العرق في حديقة بروسبكت في نيويورك. ووجد علماء يعملون على دراسة الفئران بيضاء الأقدام وهو نوع من القوارض المتوطنة في أمريكا الشمالية، أن هذا النوع من الفئران في المدينة مختلف وراثياً بشكل كلي عن نظرائه في البلاد.
ويرى (جيسون مونشي ساوث)، أستاذ في كلية باروخ في مدينة نيويورك، ”أن كل حديقة في مدينة نيويورك تحوي أنواعاً فريدة وراثياً، لأنها معزولة تماماً وتتغير مع مرور الوقت“.
2. تشكل جبال الهملايا المنطقة الانتقالية بين العالمين الجغرافيين الحيويين (الهند-مالايا) و(بالياركتيك)، وتعد منطقة متنوعة بيولوجياً للغاية، فهي موطن 3160 نوع من النباتات و147 نوع من الحيوانات

يختلف المناخ هناك في جبال الهملايا، فهناك الاستوائي في المرتفعات المنخفضة، وكلما ارتفعنا أصبح الطقس متجمداً وغطت الثلوج الأرجاء على مدار السنة.
وكما يختلف الطقس على جبال الهملايا، تختلف أيضاً النباتات والحيوانات التي تستوطن أماكن مختلفة من سلسلة الجبال تلك. فتستوطن هذه السلسلة من الجبال أنواع فريدة من الحيوانات كـ(سيرو الهملايا) و(طهر الهملايا) و(الطاكن) و(أيل الهملايا المسكي) و(غورال الهملايا) وغيرها من الأنواع التي تستفرد بها هذه المنطقة، والتي بات العديد منها مهدداً بالانقراض بسبب الاستغلال المفرط لها وفقدان المسكن وتغير المناخ.
3. تعد بحيرة تنجانيقا من البحيرات الأفريقية العذبة والكبيرة والعميقة، والتي تحوي تنوعاً بيولوجياً يضاهي مثيلاته في المحيطات. تعد هذه البحيرة موطن 300 نوع من الأسماك والزواحف والرخويات والقشريات التي لا يمكن العثور عليها في أي مكان آخر في هذا العالم

تشكلت هذه البحيرة منذ حوالي 10 ملايين سنة مضت، وكان ذلك نتيجة لتشكل صدع بسبب ابتعاد الأقسام الفرعية الوسطى والشرقية للصفائح التكتونية الأفريقية عن بعضها. ونظراً لعمقها المذهل (بمتوسط 1470 متراً إلى 4820 كأقصى عمق) ولقدمها الذي يعود لملايين السنين، أتيحت للحياة في هذه البحيرة التطور وتكوين كم كبير من الأنواع الفريدة. إنها تشبه المحيطات إلى حد كبير، لكن بمياه عذبة.

تشتهر البحيرة بغناها بأنواع مختلفة من الأسماك، وخصوصاً سمك (السيكلد الملون)، والتي تحوي البحيرة 250 نوعاً منه. بالإضافة لكوبرا المياه الحلقية المهددة بالانقراض التي تتواجد فقط في هذه البحيرة. كما ويمكن العثور على أنواع أخرى من حيوانات المياه العذبة التي لا توجد في مكان آخر غير هذه البحيرة، كالقواقع وسرطان البحر والجمبري والعلقات والاسفنج وقنديل البحر.
4. خارج بلدة كرومويل في نيوزلاندا، هناك مزرعة استوطن فيها نوع نادر من الخنفساء تسمى خنفساء (كرومويل شافل) واسمها العلمي Prodontria lewisii وهذا النوع لا يوجد في أي بقعة في العالم سوى في هذه المزرعة التي تبلغ مساحتها 81 هكتار وأصبحت محمية طبيعية لها

كان الموطن الطبيعي لهذه الخنفساء في منطقة صغيرة من الكثبان الرملية المنخفضة على جانبي نهر كرومويل. يعيش هذا النوع من الخنافس، التي تتميز بحجمها الكبير ولونها البني القريب من الأحمر، تحت الأرض كيرقات لمدة عام تتغذى خلاله على جذور النباتات. وعندما تبلغ، تظهر في ليالي الربيع والصيف الرطبة. امتد موطنها على مسافة 500 هكتار، لكن تم تدميره بعد بناء سد (كلايد) وتشكيل بحيرة دونستان.
جُمع العديد من هذه الخنافس ونُقلت في سبعينيات القرن الماضي إلى منطقة تبلغ مساحتها 81 هكتار، وعُزلت واعتبرت محمية طبيعية عام 1979. وفي عام 1983، تم إعلان المنطقة محمية طبيعية لهذا النوع من الخنافس.
على الرغم من ذلك، تستخدم خنافس (كرومويل شافل) نسبة 12% فقط من مساحة هذه الأرض، ويهدد حياتها العديد من المفترسات التي تم إدخالها للمحمية كالبوم الصغير والقنافذ وأبو مقص الأوروبي (Forficula auricularia) والعناكب ذات الظهر الأحمر.
5. تتمتع مدغشقر بحياة برية فريدة من نوعها، لدرجة أن أكثر من 90% من هذا الأنواع تستوطن المنطقة بسبب عزلتها عن الكتل الأرضية الأخرى لأكثر من 88 مليون سنة

منذ أكثر من 135 مليون سنة، عندما بدأت قارة غندوانا بالتفكك وانفصلت مساحات من اليابسة في مدغشقر والهند والقارة القطبية الجنوبية عن تلك التي في أفريقيا وأمريكا الجنوبية. في وقت لاحق، منذ 88 مليون سنة مضت، انفصلت مدغشقر عن الهند. ونتج عن هذه العزلة وفرة في الحياة النباتية والحيوانية تختلف بشكل كبير عن تلك التي في القارات المجاورة لدرجة أن بعض علماء البيئة يعتبرونها ”القارة الثامنة“.
حتى عام 2012، حوت مدغشقر 200 نوع من الثدييات، كما تضم 103 نوع ونوع فرعي من حيوان (الليمور)، منها (السيفاكا الحريرية) أو Propithecus candidus الأكثر غرابة، وهي التي تتميز بفرو أبيض حريري طويل. لكن بعد استيطان البشر للمنطقة انقرض ما لا يقل عن 17 نوع من (الليمور).
نوع آخر من الثدييات تنفرد به مدغشقر هو حيوان (الفوسا) أو Cryptoprocta ferox وهو آكل لحوم يشبه القطط. كما ستجد كافة أنواع الحلزونات في مدغشقر، حيث يوجد 651 نوع منها. كما تضم الجزيرة أنواعاً كثيرة من الفراشات والعناكب واليعاسيب وحشرة السكارابيدا وحشرة شبكيات الأجنحة.
6. كهف (موفيل) الذي اكتشفه بالصدفة عمال رومانيون سنة 1986، ومرّ عليه 5.5 مليون عام من العزلة، جعلته يفتقر بحدة للأوكسجين. فتطورت فيه مخلوقات بيضاء عديمة العيون تتغذى على البكتيريا المنتجة للكبريت

يحوي الهواء داخل كهف (موفيل) بين 7% إلى 10% من الأوكسجين مقارنة ب 21% من الأوكسجين للغلاف الجوي الخارجي. في حين تبلغ مستويات ثنائي أكسيد الكربون داخل الكهف مائة ضعف مستوياته في الهواء خارجه. كما أن الهواء والماء داخل الكهف يحويان نسباً عالية من الميثان، بالإضافة إلى كبريتيد الهيدروجين والأمونيا، بينما كانت درجة الحرارة داخل الكهف 25 درجة مئوية على مدار ملايين السنين. وهذا ما جعل الحيوانات تتطور وتتكيف مع هذه الظروف السامة.
ومن بين الأنواع الـ48 التي تم العثور عليها داخل الكهف، هناك 33 نوعاً منها يعتبر هذا الكهف موطنَه الأصلي. وما تم العثور عليه داخل الكهف يشمل أنواعاً مختلفة من العناكب والعلقات وعقارب الماء وقمل الخشب ومئويات الأرجل. ونظراً لظلام الكهف فإن العديد من هذه المخلوقات تولد بلا عيون، لكنها تكون مجهزة بأجهزة استشعار وهوائيات، ويكون جسد معظمها عديم اللون أو شفاف.
7. تعتبر محمية الزهور في الكيب في جنوب أفريقيا أصغر المناطق الجغرافية النباتية الستة، وتمتاز بتنوع كبير للنباتات فيها. فهي تضم 9000 نوع، 69% تعتبر المحمية موطنها الأصلي

معظم المنطقة مغطاة بشجيرات (الفنبوس)، وهي نوع من الشجيرات التي تنمو على الرمال البور والحمضية. وباعتبارها منطقة غير استوائية، فإن هذه المنطقة هي الأكثر تنوعاً نباتياً. وكما أنها المنطقة الوحيدة في جنوب أفريقيا التي ستجد فيها 12 عائلة نباتية و160 جنساً نباتياً.
8. بغض النظر عن كونها البحيرة الأضخم والأكثر عمقاً في العالم، تعد بحيرة بايكال موطناً لما يقل عن 2500 نوع من الحيوانات التي لا يمكن العثور على 80% منها في أي مكان آخر على الأرض خارج هذه البحيرة

تعتبر فقمة بحيرة بايكال من أحد الأنواع الثلاثة من فقمات المياه العذبة في العالم، والتي تتواجد فقط في هذه البحيرة. وعلى الرغم من أن البحيرة تحوي 65 نوعاً من الأسماك فقط، لكن أكثر من نصف هذه الأنواع تعتبر البحيرة موطنها الأصلي، كسمك (أومل) مثلاً، والمعروف باسم السمك الأبيض.
وعند ذكر بحيرة بايكال علينا ذكر أنواع اللافقاريات التي لا تحصى في البحيرة، والتي تشكل ما نسبته 80% إلى 90% من الكتلة الحيوية في البحيرة. هذا إن لم نأتي على ذكر مئات الأنواع من القشريات والقواقع والديدان المائية والاسفنج، والتي تشكل البحيرة موطنها الأصلي.
وما يميز بحيرة بايكال، على عكس معظم البحيرات العميقة الأخرى، أن مياهها ليست طبقية (أي ليست مقسمة لطبقات نتيجة اختلاف الخصائص من ملوحة وأكسجة وكثافة ودرجة حرارة، وهو ما يؤدي لتشكل حواجز تمنع امتزاج مياه تلك الطبقات وبالتالي نقص في الأكسجة في الطبقات العميقة) وعلى عكس معظم البحيرات، فإن مياه البحيرة غنية بالأوكسجين حتى في أعماقها.
وتحوي البحيرة على 23% من مجموع المياه العذبة في العالم، وتعتبر مياه البحيرة الأكثر وضوحاً بين بحيرات العالم، فيمكنك الرؤية حتى عمق 30 و40 متراً في الشتاء، و8 أمتار في الصيف.
9. هناك بحيرة في إحدى جزر جمهورية بالاو، معزولة عن البحر منذ فترة طويلة، لدرجة أن قناديل البحر فيها تطورت بلا أي مجسات تقريباً. حيث باتت قناديل البحر الذهبية هذه أليفة لا تلسع ولا تؤذي أحداً، والسياح يسبحون بالقرب منها في هذه البحيرة من دون خوف

بناء على الترسب والعمق، يُعتقد أن عمر بحيرة قنديل البحر هذه حوالي 12000 عام، فعندما تسببت نهاية العصر الجليدي في ارتفاع منسوب مياه البحر، تم ملء هذه البحيرة.
تعتبر البحيرة موطناً لنوعين من قناديل البحر، قنديل البحر القمري وقنديل البحر الذهبي. وبالنسبة لقنديل البحر الذهبي، فيُعتبر من أقرب أقارب قنديل البحر المرقط الموجود في إحدى البحيرات القريبة، لكنه يختلف عنه من ناحية التشكل ووظائف الأعضاء والسلوك.
وأدت التغيرات التطورية لقناديل البحر في هذه البحيرة لفقدانها للبقع وتغير في لونها، وقصر طول مجساتها. وعلى الرغم من أن كلاً من قنديل البحر الذهبي والقمري يملكان خلايا لاذعة، إلا أنها ليست قوية بما يكفي لإحداث أي ضرر.
10. بسبب انعزالها الشديد، تتمتع جزيرة سقطرى اليمنية بحياة نباتية لا يمكن العثور عليها في أي مكان آخر في العالم. ودائما ما توصف بأنها المكان الأكثر غرابة على وجه الأرض، وتعتبر جوهرة التنوع البيولوجي في بحر العرب

تعتبر جزيرة سقطرى أكبر جزر الأرخبيل اليمني (95% من مساحة الأرخبيل) المكون من 6 جزر تقع في المحيط الهندي قرابة سواحل القرن الأفريقي وبالقرب من خليج عدن.
ووفقاً لمسح أجراه علماء الأحياء التابعين للأمم المتحدة في التسعينيات، فهناك 700 نوع من النباتات والحيوانات تُعتبر الجزيرة موطنهم الأصلي. حيث أدت كل من الحرارة والرطوبة والجفاف التي تتميز بها الجزيرة بنشوء أنواع جديدة وفريدة من النباتات، كشجرة ”دم الأخوين“ والتي تعرف ايضا باسم ”دم التنين“ ذات الشكل الغريب الذي يشبه المظلة، وسميت بهذا الاسم لأن نسغها ذا لون أحمر كالدم.
وتضم الجزيرة أنواعاً مختلفة من الألوة كـ (الصبار السقطري) و(الرمان السقطري) و(لبان سقطرى) و(شجرة الخيار العملاقة)، وتحوي الجزيرة أيضاً أنواعاً عديدة من الثدييات والطيور المستوطنة، والعديد منها مهدد بالانقراض بسبب القطط التي تم إدخالها إلى النظام البيئي هناك.