in

إيران: نموذج عن تنظيم الأسرة، تتحكم في بنيتها وهيكلتها مثلما تقتضيه الظروف الاقتصادية

هل يمكن اعتبار إيران مثالا يحتذى به في مجال الحد من الاكتظاظ السكاني في العالم؟

تاريخيا، كان لقوانين تنظيم الأسرة في إيران إيجابياتها وسلبياتها، وكانت أول سياسات الدولة المتعلقة بتنظيم الأسرة، التي تم إدراجها في سنة 1967 تحت حكم الشاه (رضا باهلافي)، تهدف إلى زيادة وتيرة نمو الاقتصاد وتحسين وضعية النساء في البلد.

قامت إيران بتحقيق ذلك من خلال التعديل على قوانين الطلاق، وتشجيع توظيف النساء وتضمينهن في عالم الشغل والأعمال، واعتبار تنظيم الأسرة وتحديد النسل حقاً يتمتع به كل إنسان.

لسوء الحظ، تم عكس هذه المبادرة الواعدة في سنة 1979 عند بداية الثورة الإسلامية التي دامت عقدا كاملا من الزمن، والتي قادها المسلمون الشيعة تحت راية القائد الديني آية الله الخميني. خلال هذه الفترة، تم اعتبار برامج تنظيم الأسرة جانباً آخر من الجوانب التي أثر بها الغرب في هذه الأمة الإسلامية، وكان ينظر إليه على أنه سياسة غير مناسبة لتقاليد البلد والأمة الإسلامية ولم تكن هناك أية فائدة ترجى منه، ومنه تم إلغاء قوانين تنظيم الأسرة جميعها.

شاه إيران والعائلة الملكية قبل انقلاب الثورة الإسلامية في البلد
شاه إيران والعائلة الملكية قبل انقلاب الثورة الإسلامية في البلد.

تم توجيه الأوامر إلى المسؤولين في قطاع الصحة في إيران بأن لا يقوموا بإجراء أية عمليات إجهاض، وخلال الحرب التي نشبت بين إيران والجارة العراق بين سنتي 1980 و1988، كان يُنظر إلى تعداد السكاني الكبير على أنه ميزة تتقدم بها على أعدائها.

وفقا لهذا المنظور، حث آية الله الخميني السكان على التناسل بوتيرة عالية من أجل دعم صفوف الجيش الإيراني الذي كان يسميه ”جنود الإسلام“، وكان يهدف من وراء مخططه هذا إلى الوصول إلى جيش يبلغ تعداده 20 مليون جندي.

أدت هذه المساعي إلى ارتفاع وتيرة نمو التعداد السكاني السنوية بحوالي 3 بالمائة، وتظهر بيانات هيئة الأمم المتحدة أن التعداد السكاني في إيران تضاعف خلال مدة عشرين سنة فقط، وذلك من 27 مليون نسمة سنة 1968 ليصل إلى 55 مليون نسمة سنة 1988.

خلال فترة إعادة الإعمار التي تلت الحرب الفارطة في أواخر الثمانينات الماضية، تعرض الاقتصاد المحلي الإيراني لحالة من الركود، وظهر نقص فادح في مناصب الشغل، وباتت المدن مكتظة وملوثة بشكل كبير، وأخيرا أصبح المسؤولون يرون في النمو الديمغرافي السريع في إيران على أنه عائق يقف أمام تطوير اقتصاد البلد.

بإدراكه للمشاكل التي صارت الأمة تواجهها، أعاد القائد الروحي آية الله الخميني فتح الحوار حول موضوع تحديد النسل، وبحلول شهر ديسمبر سنة 1989، أعادت إيران إنعاش برنامجها القديم لتنظيم الأسرة.

تمحورت أهدافها الرئيسية هذه المرة حول تشجيع النساء بعد الإنجاب على الانتظار من ثلاثة إلى أربعة سنوات على الأقل قبل التفكير في الحمل بمولود جديد، كما حاولت ثني النساء اللواتي كن أصغر من 18 سنة والنساء اللواتي كن أكبر من 35 سنة عن التفكير في الحمل أصلاً، وحددت حجم العائلة المثالي بثلاثة أبناء فقط.

في شهر مايو سنة 1993، قامت الحكومة الإيرانية بالمصادقة على قانون وطني لتنظيم الأسرة الذي شجع كثيرا الأزواج على إنجاب عدد أقل من الأبناء، وذلك من خلال تقليص مدة عطلة الأمومة والمزايا التي ترافقها بعد إنجاب الطفل الثالث. كما طلبت الحكومة من وزارة التعليم، ووزارة الثقافة والتعليم العالي، ووزارة الصحة والتعليم الطبي أن تقوم بإدراج معلومات مفصلة حول السكان والنمو الديمغرافي، وتنظيم الأسرة، وصحة الأم والطفل ضمن مواد المناهج الدراسية.

في الواقع، تم إعلام وزارة الثقافة الإسلامية والإرشاد بأن تسمح لوسائل الإعلام بنشر التوعية حول مشاكل النمو الديمغرافي السريع والانفجار السكاني وفوائد برامج تنظيم الأسرة، وأوكلت إلى «إذاعة جمهورية إيران الإسلامية» أن تنشر عبر أمواجها كل هذه المعلومات السالفة.

قامت الحكومة بتمويل هذه البرامج التعليمية، ومن سنة 1986 إلى سنة 2001، انخفضت نسبة الخصوبة في إيران —معدل عدد الأطفال الذين تنجبهم امرأة واحدة خلال حياتها— من 7 بالمائة إلى أقل من 3 بالمائة.

قدرت هيئة الأمم المتحدة آنذاك أن نسبة الخصوبة العامة في إيران ستنخفض لتصل إلى 2 بالمائة بحلول سنة 2010 وهو ما كان في واقع الأمر أقل من ذلك، إذ كانت نسبة الخصوبة في إيران في سنة 2010 لا تتعدى 1.67 بالمائة، ولو أن إيران لم تعد النظر في سياساتها على مستوى الانفجار السكاني ومضت في خطط آية الله الخميني في التشجيع على التناسل لَتَضاعف عدد سكانها بحلول سنة 2008، وكان ليصل إلى عتبة الـ100 مليون نسمة.

عائلات إيرانية تتنزه

من الأمور التي سهلت على إيران هذه النقلة النوعية في النمو السكاني هو الدعم الحكومي الكبير الذي حظيت به البرامج الآنفة الذكر، وكانت الحكومة الإيرانية خلال حكم الرئيس (محمد خاتمي) تتولى نسبة 80 بالمائة من تكاليف برنامج تنظيم الأسرة. كما تم تشييد شبكة صحية واسعة تتكون من عيادات متنقلة و15 ألف ”بيت رعاية صحية“ تمنح خدمات تنظيم الأسرة والخدمات الصحية الأخرى لثمانين بالمائة من سكان الأرياف في إيران.

تقريبا تم تأسيس جميع هذه المراكز الصحية بعد سنة 1990، ومنه عمدت الحكومة الإيرانية إلى جعل تنظيم الأسرة ضمن خدمات الرعاية الأساسية، مما أزال عن تحديد النسل والاجهاض سمة العار التي لطالما ارتبطت بالموضوع.

انضم كذلك القادة الدينيون في إيران إلى حملة الحث على تكوين أسر صغيرة التعداد، وكانوا يشيرون إلى هذا النوع من العائلات على أنه واجب اجتماعي يتولاه رب كل أسرة في جميع الخطب التي يلقونها في أيام الجمعة، كما قاموا حتى بإصدار الفتاوي التي تشجع استعمال جميع وسائل تحديد النسل، والتي تضمنت التعقيم [من العقم] الدائم لكل من الذكور والإناث —الذي تعتبر إيران الدولة المسلمة الوحيدة والأولى التي تشرعه آنذاك— وتحديد النسل، وحملت الحكومة على عاتقها مسؤولية توفير الواقيات الذكرية، وحبوب منع الحمل، وتكاليف عمليات التعقيم للرجال والنساء.

من بين مواطن قوة ترويج إيران لتنظيم الأسرة وتحديد النسل هو إجبار الرجال على الانخراط في برامجها، وكانت إيران الدولة الوحيدة في العالم آنذاك التي تتطلب من كل شخصين يرغبان في الزواج أن يحضرا صفوفا تعليمية حول وسائل تحديد النسل الحديثة قبل الحصول على رخصة الزواج، وهي الدولة الوحيدة في المنطقة التي رخصت الحكومة فيها لإنشاء مصانع إنتاج الواقيات الذكرية.

بالإضافة إلى ذلك، خلال السنوات الأربعة التي سبقت سنة 2003، خضع حوالي 220 ألف رجلاً إيرانياً لعملية قطع القناة الدافقة للمني، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أن الرجال في إيران يتخذون أدوارا كبيرة في برامج تنظيم الأسرة.

سهل كذلك انخفاض نسبة الأمية وتطور البنى التحتية للإعلام والاتصال في البلد في المضي قدما في مساعي تنظيم الأسرة، حيث ارتفعت نسبة الذكور المثقفين -العالمين بالقراءة والكتابة على الأقل- من 48 بالمائة في سنة 1970 إلى 84 بالمائة في سنة 2000، ومنه شارفت على التضاعف في خلال ثلاثين سنة.

ارتفعت الثقافة بين الإناث بوتيرة أسرع من الرجال، حيث انطلقت من أقل من 25 بالمائة في سنة 1970 لتصل إلى أكثر من 70 بالمائة في سنة 2003، وفي أثناء ذلك زادت نسبة ارتياد المدارس بشكل عام في إيران من 60 بالمائة إلى 90 بالمائة في نفس الفترة الزمنية.

بحلول سنة 1996، كان 70 بالمائة من المنازل المتواجدة في المناطق الريفية و93 بالمائة من المنازل في المناطق الحضرية تحوز على شاشات التلفاز، مما سمح بمعلومات برامج تنظيم الأسرة أن تنتشر خلال وسائل الإعلام وشاشات التلفزيون المحلية.

كواحدة من بين أكثر 17 بلدا في العالم يعاني من نقص فادح في الموارد المائية، ساعد قرار إيران في كبح النمو السكاني السريع في تخفيف الضغط عن الموارد المائية الشحيحة، التي زادت من تدهورها سنوات الجفاف التي مرت بها البلاد في الآونة الأخيرة. تشير التقديرات إلى أن 37 مليون شخص، أي أكثر من نصف سكان إيران، لا يحوزون على القدر الكافي من المياه، كما دفع نقص مياه السقي إلى رفع صادرات إيران من القمح لتصل إلى 6.5 مليون طن في سنة 2001، وهي بذلك تكون قد تجاوزت حجم صادرات اليابان أكبر مستورد تقليدي للقمح في العالم، التي قدرت بـ5.8 مليون طن.

أدت هذه النقلة النوعية في نسبة الخصوبة في إيران بها إلى الولوج إلى نظم رعاية صحية وبرامج تنظيم أسرية عالمية، وانخفاض دراماتيكي في نسبة الأمية بين النساء، غير أن هذا التحسن لم يدم طويلا، حيث في شهر أكتوبر من سنة 2006 بدأت بعض الأصوات تنادي بوقف سياسة تحديي النسل وتنظيم الأسرة التي كان شعارها آنذاك «طفلان إثنان كافيان»، والسبب الأكبر في ذلك هو الانخفاض الكبير في نسبة الخصوبة التي وصلت إليها إيران، والتي بدأت تظهر بوادر مشاكل كبيرة في نمو السكان، وفي نفس السنة دعا الرئيس الإيراني أحمدي نجاد إلى رفع عدد السكان البلد من 70 مليون نسمة إلى 120 مليوناً.

أحمدي نجاد الرئيس الإيراني السابق
أحمدي نجاد الرئيس الإيراني السابق

حيث قال في خطاب له وجهه لشعبه: ”أنا ضد مقولة أن طفلين اثنين كافيان، يملك بلدنا الكثير من الإمكانيات التي تكفي للكثير من الأطفال ليترعرعوا فيه… دول الغرب تعاني من المشاكل لأن نسبة نمو السكان لديها سلبية، إنهم قلقون ومتخوفون من زيادة عدد سكان بلدنا، وأننا بذلك سننتصر عليهم في المستقبل“.

ردت الانتقادات على هذا الخطاب من خلال الإشارة إلى أن إيران كانت تعاني من تضخم العملة وارتفاع نسبة البطالة في البلد التي قدرت بحوالي 11 بالمائة، وأن 120 مليون نسمة قد يعني نقصا فادحا في المياه العذبة مما سيعمل على ”حدّ خيارات التطور الزراعي المحلي والاقتصادي في البلد“، وأن بعض الدول ”تنتصر على دول أخرى لتفوقها في العلم والتكنولوجيا والدخل العام والفردي والعيش الرغيد والأمن والاستقرار“ وليس بعدد السكان فيها.

كما ذكّرت دعوة أحمدي نجاد إلى رفع وتيرة الإنجاب في البلد البعض بمطالب آية الله روح الله الخميني في سنة 1979 برفع عدد السكان في البلد من أجل دعم صفوف ”جنود الإسلام“، وهو ما تم عكسه في نهاية المطاف كاستجابة للمشاكل الاقتصادية الكبيرة التي نجمت عنه.

في الخامس عشر من يوليو سنة 2012، صرح القائد الأكبر الإمام الخمنائي أن سياسة تحديد النسل التي اعتمدتها إيران كان لها معنى منذ عشرين سنة في الماضي، وقال: ”لكن استمرارها في السنوات اللاحقة كان خاطئا … أظهرت الدراسات العلمية وأبحاث الخبراء أننا سنصبح دولة عجوزا وسنواجه انخفاضا كبيرا في نسبة السكان إن استمرينا في تطبيق سياسة تحديد النسل“.

«أطفال أكثر سعادة أكبر» من الشعارات الترويجية التي استعملت لإلغاء برامج تنظيم الأسرة وتحديد النسل.
«أطفال أكثر سعادة أكبر» من الشعارات الترويجية التي استعملت لإلغاء برامج تنظيم الأسرة وتحديد النسل.

قال كذلك نائب وزير الصحة الإيراني علي رضا ميسداغينية في تصريح له لوكالة (فارس نيوز) في التاسع والعشرين من يوليو من نفس السنة أن ”برامج تحديد النسل كانت تنتمي للماضي“، وأنه: ”لا يوجد هناك أي مخطط لإبقاء عدد الأطفال في الأسرة الواحدة عند حدود واحد أو اثنين. يجب على العائلات أن تقرر عدد أطفالها بنفسها. في ثقافتنا، كان إنجاب عدد كبير من الأولاد تقليدا متوارثا. في الماضي كانت العائلة الواحدة تنجب ستة أو سبعة أولاد… مازالت هذه الثقافة موجودة في المناطق الريفية، يجب علينا أن نعود إلى ثقافتنا الأصيلة“.

بحلول سنة 2014، تضمنت الإجراءات الحكومية الهادفة إلى عكس وتيرة الإنجاب المنخفضة كلا من: استبدال شعارات الصحة العمومية التي كانت تتضمن عبارات على شاكلة ”أطفال أقل، حياة أفضل“ مع ألواح إشهارية كبيرة تبرز عائلات كبيرة وسعيدة بجانب عائلات صغيرة العدد وحزينة، وكذا قطع التمويل والدعم عن الواقيات الذكرية وبرامج تنظيم الأسرة، وزيادة مدة ومزايا عطل الأمومة والأبوة، والتخطيط لتمرير قانون يجعل من عمليات قطع القناة الدافقة الجراحية — التي كانت تقام بالمجان إلى غاية سنة 2012 — جريمة يعاقب عليها القانون بالسجن لمدة تصل إلى خمسة سنوات مع دفع الدية.

غير أن الكثير من الخبراء مازالوا يرون أن دولة ”فتيّة“ وعاطلة عن الشغل ستكون لها عواقب وخيمة أكثر من دولة ”عجوز“.

مقالات إعلانية