in

قصة حياة الإمبراطورة (فرح بهلوي) المثيرة للجدل، والملهمة في آن واحد

هل كانت إمبراطورة إيران (فرح بهلوي) تمثل (ماري أنطوانيت) عصرها؟ أم كانت قائدة ذات تفكير تقدمي وبنّاء ونظرة مستقبلية لم يحسن تقديرها زمانُها؟

فرح بهلوي

بالنسبة للبعض؛ تمثل الإمبراطورة (فرح بهلوي) رمزا مأساوياً عن آخر فرص إيران في نيل الديمقراطية، وبالنسبة للبعض الآخر فهي تمثل أسوء مظاهر الإسراف والتغالي في نظام الشاه الإيراني، الذي تمت إزاحته من السلطة في ثورة 1979 الإسلامية، وبالنسبة لكل من يعرف قصتها، فإن حياة (فرح بهلوي) الآسرة والمذهلة تبقى أكثر من مجرد قصة ملهمة.

سنوات حياتها الأولى:

ولدت (فرح بهلوي) —اسم ميلادها (فرح ديبا)، في طهران في سنة 1938، وقد كانت الابنة الوحيد لـ(سهراب ديبا)، وهو ضابط في الجيش الإيراني الذي كان قد تخرج من أكاديمية عسكرية فرنسية، وزوجته (فريدة قطبي). كان من أسلاف عائلة (ديبا) سفراء، وجامعو فنون، وكانت تصنف ضمن أرقى عائلات بلاد فارس ونخبتها.

درست (فرح) في كلتا المدرستين الفرنسية والإيطالية في العاصمة الإيرانية، واستمتعت بحياة مريحة وعيشة جميلة، غير أن ما أثر على طفولتها الجميلة تلك هو وفاة والدها المفاجئة، الذي كانت مقرّبة منه جدا، وذلك عندما كانت تبلغ من العمر ثمانية سنوات.

قبل وفاته؛ كان (سهراب) قد غرس في نفس ابنته حب اللغة والثقافة الفرنسية، التي كانت شائعة كثيرا في إيران آنذاك، ومن جهة والدتها، ورثت (فرح) الميل للاستقلالية والتفكير التقدمي. رفضت والدتها (فريدة) حملها على ارتداء الحجاب، كما رفضت ”بيعها“ في زواج مرتب، وكانت دائما تحثها على الذهاب ودراسة الهندسة المعمارية في باريس في منحة دراسية.

صورة تظهر فيها (فرح ديبا) على أقصى اليسار مع مجموعة من الكشافة الإيرانيين في باريس سنة 1955. صورة: Wikimedia Commons
صورة تظهر فيها (فرح ديبا) على أقصى اليسار مع مجموعة من الكشافة الإيرانيين في باريس سنة 1955. صورة: Wikimedia Commons

كان زملاؤها في الدراسة يصفونها على أنها: ”مجتهدة“ كانت تدرس الليل بطوله ولم تكن تتغيب عن الصفوف الدراسية أبداً، وكانت (فرح) نادرا ما تأخذ عطلة من دراستها، وفي ربيع سنة 1959، اتخذت لنفسها عطلة من الدراسة من أجل أن تحضر حفل استقبال على مستوى السفارة الإيرانية على شرف الحاكم الشاه الإيراني: (محمد رضا بهلوي).

كانت الإشاعات التي تداولتها نخبة العائلات الإيرانية تفيد بأن الشاه كان يبحث عن زوجة جديدة بعد أن كان قد طلق زوجته السابقة حديثا، وذلك لعجزها عن منحه أولاداً، وكان اسم عائلة (ديبا) يتردد كثيراً في الأرجاء عن كونها المرشحة المحتملة للظفر بالشاه، وكان الشاه ليتذكر لاحقا ويقول: ”علمت بمجرد أن تقابلنا.. أنها كانت المرأة التي كنت أنتظرها طوال حياتي، كما كانت الملكة التي كانت مملكتي في حاجة لها“، وقبل مضي تلك السنة التي التقيا فيها، كان هذان الإثنان قد تزوجا.

(فرح بهلوي) والثورة البيضاء:

صورة لـ(فرح بهلوي) في حفلة خطوبتها الرسمية.
صورة لـ(فرح بهلوي) في حفلة خطوبتها الرسمية.

كان لـ(محمد رضا بهلوي) رؤى واسعة من أجل بلده، لقد حلم دائما ببناء إيران حديثة، التي ستدعمها بشكل واسع ثروتها الباطنية الكبيرة، والتي كانت لتصبح منارة للديمقراطية والحرية في الشرق الأوسط.

في أوائل ستينات القرن الماضي؛ أصدر الشاه ما عرف باسم «الثورة البيضاء»، وهي عبارة عن مخطط واسع شمل تعديلات اجتماعية واقتصادية تضمنت: زيادة حقوق النساء وتمكينهن في البلد، منها حق التصويت، وتعديلات فيما يخص ملكية الأراضي، وإدراج مقاسمة أرباح الشركات والمصانع مع موظفيها، وفتح أسهم للتداول لفائدة الشعب لدى المصانع والشركات الحكومية، وتأسيس «برنامج معرفة القراءة والكتابة» الذي كان يهدف لتدريس وتثقيف الفقراء في البلد.

بحلول زمن تتويج الشاه بصفة رسمية في سنة 1967؛ كانت إيران تتندرج ضمن أسرع اقتصادات العالم نمواً، كما نالت شهرة كونها عاصمة للسلام والاستقرار في الخليج الفارسي.

الشاه و(فرح بهلوي) في حفل زفافهما في ديسمبر سنة 1959. صورة: Mario De Biasi/Mondadori Portfolio/Getty Images
الشاه و(فرح بهلوي) في حفل زفافهما في ديسمبر سنة 1959. صورة: Mario De Biasi/Mondadori Portfolio/Getty Images

منذ البداية؛ جعل الشاه من الواضح لزوجته المستقبلية بأن دورها في حياته ومملكته لن يكون شكليا فقط مثلما تلخصت فيه أدوار الملكات من قبلها. كان جزء من المميزات التي جذبت الشاه نحو (فرح)، إلى جانب سحرها الطبيعي ولطفها، كان واقع أنها تلقت تعليما في الغرب وكانت مفكرة حرة.

كانت (فرح) فريدة من نوعها كذلك لكونها كانت تتعامل مع مشاكلها المالية كطالبة بنفسها، مما منحها نظرة واسعة عن المعاناة التي تعاني منها بعض القطاعات الفقيرة في الدولة.

أعلنت (فرح بهلوي) أنها كملكة، فهي ستكرّس نفسها لـ:”خدمة الشعب الإيراني“، ومعاً، أدخل هذا الزوجان الملكيان إيران في ”عصر ذهبي“.

أنجبت (فرح بهلوي) مع الشاه وريثاً شرعيا للعرش الفارسي في سنة 1960 بالإضافة إلى ثلاث أبناء آخرين. وكتعبير منه عن تفانيه الكامل في تمكين النساء ومنحهن حقوقهن كاملة في بلده؛ لم يعلن الشاه عن زوجته إمبراطورة لتحكم إلى جانبه فقط في سنة 1967، بل جعلها وصية على العرش لتحكم البلد في حالة وفاته حتى ييبلغ وريثه (رضا بهلوي الثاني) سن الرشد.

صورة تجمع الشاه وهو يرتدي الزي العسكري ويجلس على ركبتيه أمام ابنه المولود حديثا (رضا بهلوي الثاني) وزوجته (فرح ديبا) في ديسمبر 1960. صورة: Jack Garofalo/Paris Match/Getty Images
صورة تجمع الشاه وهو يرتدي الزي العسكري ويجلس على ركبتيه أمام ابنه المولود حديثا (رضا بهلوي الثاني) وزوجته (فرح ديبا) في ديسمبر 1960. صورة: Jack Garofalo/Paris Match/Getty Images

من جهتها؛ كانت (فرح) دائما تحث زوجها وتشجعه على مواصلة ثورته البيضاء من خلال دعمها للفنون، وبدلا من تركيز اهتمامها على اقتناء القطع الأثرية الإيرانية القديمة من المتاحف العالمية وإرجاعها للبلد؛ قررت (فرح) بدل ذلك الاستثمار في مجموعة من القطع الفنية الحديثة، وكشهادة على تفكيرها التقدمي والمستقبلي، تقف اليوم مجموعة كاملة من الفنون بقيمة ثلاثة مليارات دولار شاهدة على ذلك، تضم هذه المجموعة أعمال (رونوار)، و(غوغينز)، و(بولوكس)، و(ليشتينشتاين)، و(وارهول). وبفضل سحرها الآسر، وأسلوبها الفريد، ودعمها للفنون، لُقبت (فرح بهلوي) بـ”جاكي كينيدي الشرق الأوسط“.

في سنة 1976، سافر (آندي وارهول) إلى إيران من أجل إعداد واحد من أعظم بورتريهات الإمبراطورة وأكثرها شهرة. قال لاحقا (بوب كولاتشيلو)، وهو أحد أفراد طاقم (وارهول) الذي رافقه خلال رحلته إلى إيران: ”ذكرتني طهران الشمالية بـ(بيفرلي هيلز) كثيراً“.

(فرح بهلوي) والفنان المشهور (آندي وارهول) يتموضعان لالتقاط صورة مع بعضهما أمام بورتريه للإمبراطورة من إبداع نفس الفنان، في متحف طهران للفن المعاصر. صورة: Wikimedia Commons
(فرح بهلوي) والفنان المشهور (آندي وارهول) يتموضعان لالتقاط صورة مع بعضهما أمام بورتريه للإمبراطورة من إبداع نفس الفنان، في متحف طهران للفن المعاصر. صورة: Wikimedia Commons

غير أنه وللأسف الشديد، تماما مثل آل (كينيدي)، سرعان ما تبددت أحلام آل (بهلوي) في بناء دولة قوية ومزدهرة، فبعد أقل من ثلاث سنوات عن زيارة الفنان (وارهول) إلى إيران، كانت العاصمة الإيرانية لتتقهقر، وتتخذ مظهرا لا يشبه بأي شكل من الأشكال (بيفرلي هيلز).

الثورة الإيرانية ونهاية حقبة مجيدة:

الشاه وزوجته مع آل (كينيدي) في سنة 1962.
الشاه وزوجته مع آل (كينيدي) في سنة 1962.

على الرغم من أن إيران عاشت انفجارا اقتصاديا غير مسبوق بفضل احتياطي النفط الهائل الذي تزخر به، فإنه في سبعينات القرن الماضي وجدت الدولة نفسها بين المطرقة والسندان خلال الحرب الباردة، فقد كان نفس البترول الذي شكل نقطة قوة إيران وجعل منها دولة ثرية قد مثل مصدر إغراء لا يقاوم لكلا القوى الغربية والسوفييتية، التي حاولت كل منها ممارسة نفوذها على البلد.

مال الشاه ونخبة إيران إلى تفضيل الدول الغربية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وذلك بشكل أخص بعد فشل انتفاضة شيوعية تم تدبيرها في البلد، والتي أجبرت الشاه على مغادرته مؤقتاً في خمسينات القرن الماضي.

غير أن بعض عناصر المجتمع الإيراني استشاطوا غيضاً مما رأوه على أنه هجر لثقافتهم التقليدية وقيمهم الإسلامية التي نشأوا عليها. لقد بغضوا نفوذ الثقافة الغربية وتنامي سيطرتها على البلد يوما بعد يوم، خاصة بين نخبة المجتمع الإيراني، وكانوا ينظرون إلى التعديلات التي أدخلها الشاه على أنها محاولة لاجتثاث إرثهم التقليدي من جذوره نهائيا.

كان من أعلى الأصوات التي نادت بإزاحة الشاه عن السلطة والقضاء على حكمه في البلد هو رجل الدين روح الله الخميني، الذي تم نفيه في سنة 1964 خارج البلد، غير أنه بقي يزرع بذور الغضب في الشارع الإيراني عبر أمواج الراديو.

ومن جهة الشاه، وعلى الرغم من كل نواياه الطيبة في تحويل البلد إلى جنة على الأرض، فإنه كان في نفس الوقت ديكتاتورا يهوى السلطة حتى لو كان ذلك على حساب حياة شعبه، ولم يقم قمعه العنيف لمظاهرات الشعب سوى بتغذية دورة العنف في البلد.

متظاهرون مناهضون لحكم الشاه في إيران يقومون بتشويه صور الإمبراطورة.
متظاهرون مناهضون لحكم الشاه في إيران يقومون بتشويه صور الإمبراطورة.

بلغت الأمور ذروتها في سبتمبر من سنة 1978 عندما أطلق جنود الشاه النار على حشد من المتظاهرين مما أسفر عنه آلاف الضحايا، وسرعان ما تحولت المظاهرات إلى أعمال شغب واسعة، مع كون الخميني يغذي نيرانها باستمرار ودون كلل.

في النهاية، في ديسمبر 1978؛ بدأ الجنود ينشقون وانكسرت قبضة الشاه على السلطة. فرّت العائلة الملكية من البلد قبل طلب اللجوء أخيرا في الولايات المتحدة الأمريكية في سنة 1979.

توفي الشاه في مصر سنة 1980، وبقيت (فرح بهلوي) المنفية تعيش متنقلة بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، ولم تطأ أقدامها إيران منذ ذلك الحين.

(فرح بهلوي) في سنة 2016.
(فرح بهلوي) في سنة 2016.

إن الإرث الذي تركته (فرح بهلوي) مختلط نوعا ما، حيث يتذكر بعض الإيرانيين بنوع من الحنين زمن حكم آل (بهلوي) الذي يصفونه على أنه عصر ذهبي من الحرية والاستقلال، بينما ينظر آخرون إليها على أنها (ماري أنطوانيت) العصر، التي أغرقت بلدها في دوامة من الخراب بينما استمر الفقراء في المعاناة والأغنياء في تحصيل الثروات.

غير أن ما لا يمكن نفيه، هو أن الإمبراطورة تركت لبلدها هدية ذات قيمة كبيرة، وهي مجموعتها للفن الحديث التي تبلغ قيمتها اليوم ثلاثة مليارات دولار التي مازالت تعرض في المتاحف من وقت لآخر، باستثناء اللوحات الفنية التي يعتبرها النظام الحالي منافية لتعاليم الدين لما تظهره من تعري أو مثلية جنسية.

وبينما غادرت (فرح بهلوي) بلدها منذ زمن بعيد، تبقى تلك المجموعة الجميلة من الفنون لتذكر الجميع بزمن كانت فيه هناك.

مقالات إعلانية