in

دخلك بتعرف تصاميم فرانك لويد رايت التي كانت ستجعل من بغداد مدينة عظيمة

فرانك لويد رايت وتصاميمه للعراق.

عاشت أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية خلال نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين فترة انتعشت فيها الحركات الثقافية والفنية والعمرانية، حملت معها أشكال وتصورات ومنطلقات مختلفة، مهدت لما يسمى بالحداثة العمرانية من خلال أعمال (فرانك لويد رايت)، بصفته واحداً من مؤسسيها رفقة (والتر كروبيوس) و(مس فان دي رو) و(لامويزيه).. وغيرهم.

من بين هؤلاء، كان للمعماري (فرانك لويد رايت) قصة مع الشرق، ومع العراق على وجه الخصوص.

فرانك لويد رايت جني في مصباح معماري

فرانك لويد رايت.
فرانك لويد رايت. صورة: Wikimedia Commons

يعتبر (لويد رايت) واحداً من أهم معماريي القرن العشرين ومؤسساً للعمارة الحديثة والعمارة العضوية. بعد شهر واحد فقط من احتفاله بعيد ميلاده التسعين، تمت دعوة (لويد رايت) من قبل الملك فيصل الثاني، ملك العراق آنذاك، بغرض بناء دار للأوبرا في وسط بغداد.

(لويد رايت) الذي اعتذر حينها عن تصميم دار للأوبرا في مدينة نيويورك، ما كان يعد حلماً بعيد المنال لأي معماري على قيد الحياة، وقد عرف عنه انتقاده الشديد لعدم اهتمام بلدية نيويورك بالذوق المعماري الرصين، وعدم مراعاتها للجوانب الإنسانية في عمارة المدينة.

لتقوم بعدها قيامة الصحف الأمريكية بعناوين عريضة ما مفاده: ”لقد تلبس الجني فرانك لويد رايت“، ولعل أهم تعليق ظهر كان في صحيفة واشنطن بوست تحت عنوان «جني في مصباح معماري»، ليشتهر بعدها بلقب ”جني بغداد“.

رايت والرحلة الى بغداد

وصل (رايت) إلى العراق في منتصف عام 1957 رفقة زوجته وصهره (وليام زولي)، حيث كان في انتظاره عدد من الشخصيات أهمها المعماري الإيراني نظام أميري أحد طلابه السابقين، مع المعماري العراقي جودت الأيوبي، ونزل في فندق الخيام الذي يجاور سينما الخيام المفتتحة حديثاً حينها.

تجول (رايت) في أنحاء بغداد وزار معالمها، وقابل العديد من الشخصيات المعمارية والفنية ليكلف أيضاً بتصميم البناء المركزي للرق والبريد كما كان يطلق عليها حينها.

الملك العراقي فيصل الثاني.
الملك العراقي فيصل الثاني. صورة: archives.nyc

حضي (رايت) بلقائين مع الملك فيصل الثاني، الأول كان لقاءً للتعارف دار فيه الحديث حول الحضارة العراقية حيث كانت ثقافة (رايت) البصرية متأثرة بالفن الفارسي، وقد أشار إلى إعجابه بالعديد مما يحسب على الفن الفارسي الشيء الذي لم يلقى أصداءً جيدة لدى الملك.

وبعد حديث طويل أعرب (رايت) عن عدم صلاحية المكان المقترح لدار الأوبرا، واقترح بدلاً عنه جزيرة أم الخنازير (الأعراس) حالياً، والتي رآها من كوّة الطائرة قبيل هبوطها، مكان ينسجم ومنطق (رايت) في العمارة العضوية، ليفاجأ برد الملك ”الجزيرة لك يا سيد رايت“، فيعلق على ذلك فيما بعد متهكماً بقوله: ”قد من يكون الجيد بعض الشيء غياب الديمقراطية في العراق، فلست بحاجة إلى موافقات من المجالس واللجان، مجرد حركة من يد الملك والجزيرة لك“، قال ذلك مع إيمانه العميق بالديمقراطية طبعاً. أما اللقاء الثاني فكان لشكر الملك.

غادر (رايت) بإذن لبناء دار أوبرا ودمجها في تطوير موقع واسع وسط نهر دجلة. –منطقة غير مأهولة يعتقد رايت أنها كانت موقع جنة عدن–، ليضع بعدها مخططات على ضوء مقولة وردت في محاضرة ألقاها في جمعية المهندسين العراقيين: ”إذا أردتم المعاصرة، فعليكم دخولها عبر تاريخكم المجيد“، فإن العمارة في نظره ليست فقط جدرانًا ومبانٍ، إنما ذلك الاتساق والتكامل مع الفضاء التي تبنى فيه، وأن ذلك هو حس الحياة الداخلي الذي هو أساس العمارة العضوية، فالمباني هي التعبير المادي للحياة التي يعيشها الإنسان، لا يمكن فصل العمارة عن الشعب إذ أنهما متلازمان معا مع نمو وتطور العالم.

ذلك النوع من العمارة التي يحتاجه العراق والشرق حيث التراث الزاخر والأفكار الروحانية العظيمة، التي آن الأوان للإفادة منها في هذا المجال، وكان هاجسه ربط الحاضر بالماضي، وكان يستدرك دائماً في معارض حديثه بقوله: ”إنها لمن المفارقة أن أكون أنا عميد الحداثة كما يلقبونني، أن أرجع الى أصل الحضارة لكي أثبت ما تؤول اليه الآن“.

مصادر (رايت) المعرفية كانت تعتمد على رؤية أسطورية للحضارة في العراق، فقد كان مفتونًا بقصص ألف ليلة وليلة، مثله مثل العديد من أطفال عصره، حتى أنه سمى أحد فصول سيرته الذاتية بعلاء الدين.

تصاميم رايت لبغدادٍ أكثر عظمة

رؤية (رايت) للتصاميم التي أبدعها كانت متأتيةً من المفهوم الذي تحدثنا عنه سابقاً: المحافظة على روح الإرث الحضاري الشرقي الموجود في العراق بحسب اعتقاده، ما يعني احترامه لماضي هذا البلد، وفي ذات الوقت مسايرة التكنولوجيا المعاصرة ومفاهيمها الحديثة.

يقول رايت: ”الآن، في الوقت الحاضر، تصادف أنني أقوم بإنشاء مركز ثقافي في ذات المكان الذي اختُرعت فيه الحضارة –هذا هو العراق. قبل تدمير العراق كانت هناك مدينة دائرية جميلة بناها هارون الرشيد ولكنها دمرت بعد أن زحف إليها المغول من الشمال، وما حدث الآن أن هذه المدينة اكتشفت النفط، وأصبح لديهم مبالغ طائلة من المال يمكنهم بها إعادة مدينة هارون الرشيد إلى النور. إلا أنه من غير المحتمل أن يفعلوا ذلك لأن الكثير من المعماريين الغربيين موجودون هناك لا يريدون سوى بناء ناطحات السحاب في كل مكان، ولسوف يواجهون ذات الدمار الذي تتخبط فيه المدن الغربية الكبيرة. لذا يبدو لي أنه من الواجب أن أحاول لفت انتباههم إلى مدى حماقة الانضمام إلى هذا الموكب الغربي“.

وقد تم تحديد مبلغ قدره مليون ونصف دولار كميزانية، ليضع (رايت) مخططاته ضمنها، والجدير بالذكر أن مثل هذا المبلغ كان ليعد ثروة ضخمة في ذاك الزمن تُمكن هذا الأخير من تحقيق أفكار هائلة في تصاميمه.

حدد (رايت) برنامجه التصميمي بما يلي: دار أوبرا، وحدائق، ومواقف سيارات، ومتاحف، ومجمعات أسواق، وعلى الجانب الآخر من دجلة جامعة بغداد، بالإضافة الى دائرة البريد.

شارع الملك فيصل الثاني

انطلق (رايت) بتصاميمه للموقع من المحور الرئيسي لهذا التصميم والذي كان الشارع والممشى المركزي والذي سماه شارع الملك فيصل.

ربط (رايت) الجزيرة بجسرين الأول واطئ وباتجاه القبلة يصل الجزيرة بالكرخ فوق الجزء الضيق من فرع دجلة، والذي ينتهي بحدائق وممشى وشارع الملك فيصل. وشارع عمودي آخر يربط بين تمثال هارون الرشيد في الشمال ودار الأوبرا في الجنوب، وعلى ذلك الشارع صمم رايت متحفًا وقاعة للفنون وأسواق.

الأكشاك التجارية على شارع الملك فيصل الثاني.
الأكشاك التجارية على شارع الملك فيصل الثاني. صورة: franklloydwright

الجسر الآخر يعبر الجزء الواسع من نهر دجلة ويربط الجزيرة بالجادرية (الجزء الشرقي من بغداد)، والذي كان موقع جامعة بغداد، وقد أسند (رايت) إلى هذا المسار عدداً من الأكشاك، فكانت دار الأوبرا تشكل الجانب الجنوبي للجزيرة فيما كان تمثال هارون الرشيد يشكل الجانب الشمالي منها.

حدائق جنة عدن

اعتمد رايت الحدائق كمظهر أساسي في تصميمه، ليوحي بسمة الجزيرة كونها جنة عدن، مؤكداً على ذلك بتمثالين لآدم وحواء تحت نافورة تشكل قبة من الماء، ورفد الحدائق ببساتين من الأشجار الحمضية، فيما زود الشوار والممشى الرئيسي بصفوف من الأشجار الصحراوية (سرو أو نخيل)، بالإضافة إلى نصب لشخصيات مهمة من التاريخ العراقي شكلت محيط الحديقة.

أما المناطق المركزية التي تعتبر محوراً للرؤية فقد تم تكريسها بوساطة النوافير. كانت جميعها مساندة لمشهدية دار الأوبرا.

الزقورات

وهي عبارة عن معابد قديمة، مدرجة بما يشبه المصاطب، كانت شائعة في بلاد الرافدين وسوريا. استعمل (رايت) هذا المفهوم لعدة غايات رمزية ووظيفية، ذلك لأن لهذه الزقورات وظائف منها حماية الناس من الفيضانات والغرق، وكانت ساحة للتجمع والتفاعل الاجتماعي والتجاري والفني.

دار الأوبرا

تصميم دار الأوبيرا.
تصميم دار الأوبيرا. صورة: franklloydwright

جعل (رايت) دار الأوبرا في النهاية الجنوبية من الجزيرة، وأهم مبنى فيها، ومحور ارتكاز الرؤية فيها، وبذلك حمل المبنى وظيفة أكبر من الاعتيادية، مكان للفرقة السيمفونية التي كان مزمعًا تشكيلها من قبل العائلة المالكة. كانت الدار تتسع من خلال تصميم مرن الى 1600 مشاهد يمكن توسيعها بحيث تستوعب 7000، وتصميم شبه دائري يتوضع المشاهدون فيه خلال العرض على شكل هلال.

وضع (رايت) المبنى على تلة محاطًا ببركة محاطة بدورها بحدائق يصلها طريق صاعد من قاعدة التلال.

قوس دار الأوبرا

أهم ما يميز المبنى من الداخل قوس كبير يحيط بخشبة المسرح ويصل إلى البركة خارج المبنى. وصفه أحد نقاد العمارة (وندل كول) بأكبر أثر معماري صنعه (رايت) خلال حياته. الفكرة من وراء هذا القوس تصوير أحد مشاهد قصص ألف ليلية وليلة ليقوم بربط المبنى بالثقافة المحلية.

تمثال علاء الدين

يبرز أعلى المبنى تمثال لعلاء الدين، يحمل مصباحه السحري، كما يحمل سيفاً.

المتحف والمعرض الفني

صمم (رايت) بنائين على الطريق الواصل بين دار الأوبرا وتمثال هارون الرشيد.

المتحف

تصميم المتحف.
تصميم المتحف. صورة: franklloydwright

كان الغرض منه احتواء اللقى الأثرية والتماثيل التاريخية، زود مدخل المتحف بتماثيل لثورين مجنحين كما كان معهوداً في القصور الأشورية.

المعرض الفني

المعرض الفني.
المعرض الفني. صورة: franklloydwright

بغرض احتواء الأعمال الفنية، وتكريماً لحضارة سومر ولإرسا وبابل وكان مدخله دائري الشكل ومكشوف يفضي الى القاعات المغلقة. زود المدخل بجملة من الأعمدة تنتهي بدوائر تشكل جميعها دائرة مسقوفة تفضي إلى قاعة مغلقة بحوض ماء غطس.

تمثال هارون الرشيد

تمثال هارون الرشيد بأبعاد تمثال الحرية.
تمثال هارون الرشيد بأبعاد تمثال الحرية. صورة: franklloydwright

صمم (رايت) نُصبًا لهارون الرشيد، لأن عصره كان يتميز بازدهار العلوم والمعرفة، بحجم مقارب لتمثال الحرية في الولايات المتحدة (300 قدم)، فقد كان يرى أن لبغداد قيمة معنوية لا تقل عن نيويورك. ليحل في شمال الجزيرة ويرى من مسافات بعيدة، واقترح تشييده من الخرسانة وستره بصفائح الحديد المذهبة، ويتموضع على مدرج تنحت على سطوحه قوافل للجمال مشيراً إلى بغداد بوصفها منهى طرق التجارة العالمية قديما كخط الحرير وطريق والتوابل وغيرها.

جامعة بغداد

في الحقيقة لم تكن الجامعة إحدى مهام (رايت) لكنه قدم تصميماً متكاملًا لها، وحدد مكانها في الجادرية قبالة جزيرة عدن إلى الجهة الغربية من ضفة النهر، حيث تم ربطها بالجزيرة بجسر عالٍ. حدد (رايت) الحرم بمجموعة من الكتل الترابية الدائرية Curriculum، وأضاف الطرق ومواقف السيارات، وحدد مساحة للمشاة أضيفت إليها نوافير وحدائق، وزود الحرم الجامعي بالأستوديوهات وأبراج التلفزيون والإذاعة العالية، وأعطى لقاعدة الجامعة شكل الزقورة لكن بشكل دائري كما كانت شائعة على زمن الخليفة المنصور في القرن الثامن الميلادي.

البزار (السوق العربي المفتوح)

على الطريق الواصل بين الجسر الكبير وشارع الملك فيصل، وضع (رايت) تصميماً لعدد من الأكشاك على شكل قباب تشكل سوقاً مفتوحاً، يتم الاستفادة من هذه القباب لتخزين المواد بعد نهاية يوم العمل.

مركز البريد

تصميم مركز البريد.
تصميم مركز البريد. صورة: franklloydwright

أثناء وجوده في بغداد، أُسند إلى (رايت) مهمة وضع تصميم جديد لبناء البريد المركزي في منطقة السنك، في تصميمه جعل (رايت) هذا المبنى صديقاً للبيئة ونموذجًا للعمارة المستدامة التي لم تكن معروفة بعد في العالم، فقد كان البناء اقتصاديًا غير مكلف، بأعمدة حديدية وسقف من الخرسانة، وحديقة السقف المقترحة ذات الأرضيات الترابية المهيأة لزراعة الظّليات.

كان المبنى مؤلفًا من ثلاث طوابق ومشرفين (بهو صغير كالشرفة، عبارة عن أرضية وسطية تبنى بين الطوابق الرئيسية). وسط المبنى على شكل صحن البيت العربي الإسلامي، يحتوي على نافورة ترى من الشارع العام.

مصير جنة عدن وباقي التصاميم

تم اغتيال فيصل الثاني في 14 يوليو من عام 1958، وتوفي (رايت) في العام التالي. حكمت الحكومة الثورية على خطط (رايت) بأنها ”باذخة ومكلفة“، ولأجل ذلك فقد رميت المخططات والرسومات فوق سطح وزارة الإعمار ولم ترى النور أبداً.

يقترح بعض دارسي المنطقة أنه يجب على الولايات المتحدة تمويل واحد من مباني (رايت). مبررين اقتراحهم أنه عندما يتعلق الأمر ببناء حُسنِ النّية مع الآخرين، فقد يكون الأثر المادي هو الخيار الأفضل في بعض الأحيان.

مقالات إعلانية