in

أنا حي.. لكن ها هي شهادة وفاتي! لماذا يزيف بعض الناس موتهم؟

الصحفي الروسي (بابشينكو) المناهض للنظام الحاكم في روسيا.

عندما كنت فتاً يافعاً أعيش في قريتنا، جلب أحد أقاربي عند عودته من الحقول في نهاية يوم عمله كراعٍ للماعز ثعلباً ”ميتاً“ قال أنه ضربه بعصاه الغليظة فقتله فوراً وحمله معه إلى القرية حيث رماه أمام منزله حالما وصل. كنت حينها هناك ألعب مع ابن قريبنا الراعي وكان مشهد الثعلب الميت بالنسبة لنا شيئاً مثيرا، فاقتربنا من ”الجثة“ في محاولة للتعرف على الثعلب عن قرب، لكن ما أن شعر الثعلب بأن ذلك الشخص الضخم صاحب العصا الغليظة لم يعد قريباً وبأن من يلهو حوله ليس سوى صبيين صغيرين، فتح عينيه فجأة وعض حذائي فيما كنت أحاول أن ألمسه بقدمي، ثم أفلتني وانطلق بسرعة فاراً من المكان باتجاه البرية مرة أخرى.

تعتبر خدعة ادعاء الموت واحدة من أقدم الخدع التي لجأ لها البشر والحيوان أيضاً للنجاة من الموت الفعلي، وحَفِل التاريخ البشري بأمثلة كثيرة على هذا الأمر خصوصاً في أوساط رجال العصابات أو السياسة، وجميعنا بلا شك شاهد الكثير من أفلام هوليوود التي تتحدث عن برنامج حماية الشهود الخاص بمكتب التحقيق الفيدرالي FBI، وتزوير موت فرد من عصابة ما مقابل شهادته ضد رفاقه أو معلومات حاسمة عن تنظيمه، وبعد إقناع الآخرين بأنه مات نجده يعيش في مكان بعيد وجميل في مشهد آخر.

بعيداً عن السينما وعالمها، وفي حادثة معاصرة حول هكذا نوع من الظواهر، وُجد الصحفي الروسي (آركادي بابشينكو) مؤخراً ”جثة هامدة“ مستلقية على وجهها على أرض شقته في مدينة (كييف) بأوكرانيا، وكان الدم ما يزال يسيل من قميصه، ثم ما لبث أن تم نقله سريعاً بسيارة إسعاف، وبعد ذلك أُعلن عن وفاته وتم تسليم جثته إلى المشرحة.

لكن تبين فيما بعد أن الفتحات الثلاث التي صنعتها الرصاصات في قميصه كانت مجرد خدعة، والدماء التي كانت تسيل منه لم تكون سوى دماء حيوان ”خنزير“. لقد كان (بابشينكو) حياً يرزق!

بعد يوم واحد من ”موته“ المزعوم ظهر (بابشينكو) في مؤتمر صحفي في (كييف) في غرفة أعدتها السلطات الأوكرانية حيث تجمع جمهور من الصحفيين منتظرين ليعرفوا مزيداً من التفاصيل عن جريمة القتل التي ذهب هو ضحيتها، طبعاً بادر (بابشينكو) إلى الاعتذار من زوجته والآخرين على ما جعلهم يمرون به من تجربة قاسية.

الصحفي الروسي (بابشينكو) المناهض للنظام الحاكم في روسيا
الصحفي الروسي (بابشينكو) المناهض للنظام الحاكم في روسيا.

تم تصميم تلك الخدعة أو الحيلة، التي أدت دور البطولة فيها قوات الأمن الأوكرانية، من أجل كشف خطة جريمة مفترضة عرض فيها مسؤولون في الكرملين (مسؤولون روس) مبلغ 40 ألف دولار على وسيط أوكراني لتنفيذ اغتيال (بابشينكو)، الذي قال بأن تلك التمثيلية كانت ضرورية ليتمكن من الحفاظ على حياته، ومنذ ذلك الحين وجهت العديد من المنظمات، ومن بينها لجنة حماية الصحفيين، الكثير من الأسئلة حول هذا التصرف المتطرف وإذا ما كان مبرراً أم لا.

بينما يبدو هذا الحادث مثالاً متطرفاً على الفكرة، إلا أن هناك حقيقة واحدة لا بد من الوقوف عندها: إنها ليست المرة الأولى حتماً التي يزور فيها شخص ما موته. في كتابها بعنوان «تمثيل دور الميت: رحلة في عالم الموت المزيف»؛ تتبعت (إليزابيث غرينوود) تاريخ الميتات المزيفة من الأزمنة الغابرة حتى يومنا هذا.

تجري الغالبية العظمى من هذه التمثيليات في الفترة المعاصرة بهدف خداع شركات التأمين، وتخبرنا (غرينوود)، التي تعمل حالياً على كتاب يروي قصصاً واقعية عن أشخاص يسعون خلف علاقات مع مساجين، أنها تعتقد بأن تمثيلية موت (بابشينكو) المزيفة نابعة عن أسباب أكثر شرعية وأكثر براءة من الكثير من الحالات التي صادفتها في حياتها، وتضيف: ”نتحدث عن الدوافع المختلفة التي تدفع الناس لتزييف أمر موتهم، وكم تبلغ صعوبة القيام بهذا الأمر والخروج منه“، كما تخبرنا أيضاً كيف حصلت هي بنفسها ذات مرة على شهادة وفاة خاصة بها من بعض المزورين في الفلبين، ضمن مواضيع أخرى أدلت بها لدى حوار أجرته مع مجلة (فوكس) أدارته معها الصحفية (هوب ريز)، هذا الحوار الذي نقلناه لكم أعزاءنا قراء موقعنا «دخلك بتعرف» في الأسطر التالية:

– (هوب ريز): إلى أي تاريخ يعود قيام الناس بتزوير موتهم؟ وهل هناك مرحلة ما أصبح فيها هذا الأمر شائعاً؟

(إليزابيث غرينوود): إن هذا الأمر قديم جداً، إحدى قصص تزييف الموت موجودة في التلمود، لذلك فإن هذا الأمر موجود في وعينا وحالتنا النفسية منذ زمن قديم جداً، لقد لاحظت بالفعل أنه عندما أصبح التأمين على الحياة شيئاً مهماً، وهو الأمر الذي بدأ يحدث منذ منتصف القرن التاسع عشر، بدأ الناس يرون فيه فرصة لتحقيق الربح. هناك كثير من الحالات التي ذكرت في مخططات قديمة جداً في أواخر القرن التاسع عشر حول الناس الذين قاموا بتزوير موتهم وموت أصدقائهم وأحبائهم لكي يحصلوا على قيمة بوليصة التأمين.

– ما هي الأسباب التي قدمها الناس في سياق تبرير تزييف موتهم؟

لم يكونوا دوماً يفكرون في الأمر بعقول إجرامية، كان أولئك الناس في أغلب الحالات قد تورطوا في مشاكل مادية أو قانونية وكانوا يرون في مسألة تزييف موتهم طوق النجاة من مشاكلهم العالقة  –من خلال أموال بوليصة التأمين، كان أولئك يحاولون أن يفلتوا من عقوبة السجن.

لقد سمعت الكثير من الروايات المتواترة عن حالات من الناس –نساء على سبيل المثال، ممن تعرضن للعنف المنزلي وكنَّ يحاولن إنقاذ حياتهن. لكن في الكثير من الحالات، لم يكن الأمر يستوجب تزييف موت المرء، كان يمكن حلّ المسألة باختفاء أو هروب سريع وسلس.

لقد قابلت في هذا الإطار خبيراً في الخصوصية يدعى (فرانك إيهرن) الذي ساعد أشخاصاً عل الاختفاء من خلال مهنته، والذي قال لي بأن الرجال الذين ينشدون مساعدته إنما يفعلون ذلك من أجل المال، فهم إما خسروا أموالا طائلة أو حصلوا عليها وأرادوا الاختفاء لهذا السبب، أما بالنسبة للنساء فقد كان السبب في معظم الحالات هو العنف، لقد كن يناضلن من أجل حياتهن.

– في الحالات التي قمتِ بدراستها، هل كانت هناك طريقة معروفة لتزييف الموت؟

كانت غالباً حوادث غرق أو سقوط في الماء من قارب صيد مثلا، وتكون هذه الحالات دوماً مثيرة للشكوك، خصوصاً إذا ما كانت الضحية المفترضة تعاني من مأزق مادي أو قانوني. في حالات الغرق يكاد يكون حتمياً أن تظهر الجثة عادة خلال الأيام الأولى بعد الغرق، لذلك إذا لم تظهر الجثة خلال فترة قصيرة يصبح الأمر مثيراً للشكوك في عيون رجال القانون.

– كيف يمكن للمرء أن يمحي كل تاريخه وماضيه في ظل وجود وسائل التعريف المتطورة التي بين أيدينا، مثل بطاقات الائتمان، ووجودنا الافتراضي على شبكات التواصل الاجتماعي والبيانات الوصفية لهواتفنا الذكية، أليس هذا أمراً صعباً جداً؟

إنه أمر غاية في الصعوبة، وأي وجود في مجال التكنولوجيا –مواقع التواصل الاجتماعي على سبيل المثال– يجب أن يصبح أمراً من الماضي وعليك أن تنساه، لذلك أعتقد بأن أفضل نصيحة سمعتها من الخبراء إذا أردت أن تختفي هي أن تحد بشكل حقيقي من استخدامك للوسائل التكنولوجية بقدر الإمكان. لست مضطراً أن تكون موجوداً على مواقع التواصل الاجتماعي، استخدام حواسب مقاهي الإنترنيت والمكتبات العامة.

– هل هناك طريقة أو مقياس ما لمعرفة كم تتكرر حوادث تزييف الموت؟ أعني أن بالنسبة لأولئك الذين نجحوا في هذا الأمر، نحن لن نعرف عنهم أبداً، أليس كذلك؟

حسنا، هذا صحيح تماماً، إنه لأمر صعب للغاية أن نعرف أو نحدد عدد الناس الذين نجحوا في تزييف موتهم لأنهم بنجاحهم في تنفيذ الأمر يعتبروا أمواتاً فكيف لنا أن نعرف إذا ما كانوا أحياء أم لا بعد اختفاءهم.

في مرات عديدة، التقيت مع محققين خاصين على مستوى رفيع وممن يعملون بعقود جانبية مع شركات التأمين بشكل رئيسي على التحقق من الوفيات المزورة من أجل الحصول على المال، وأخبروني بأن عشرات الحالات من هذا النوع تحدث سنوياً.

لقد أنشأت تنبيهاً على حسابي على غوغل بعنوان ”وفيات مزورة“ منذ 2011 عندما بدأت أبحث في هذا الأمر، وما زلت أتلقى بشكل مستمر كل بضعة أسابيع تنبيهاً واحدا على الأقل من كل أنحاء العالم، لذلك فإن هذا الأمر يحدث بشكل أكثر مع مرور الوقت وأكثر مما نتوقع.

– ماذا عن حالة تزييف موت الصحفي (بابشينكو)؟ هل تعرفين حالات مماثلة عن تزوير الموت من أجل لفت الانتباه لقضية ما أو لحماية شخص ما من أن يكون ضحية جريمة قتل أو اغتيال ”سياسي“؟

لا، لم أعرف حالة مماثلة من قبل، وهذا ما أحبه في هذه القضية، أعرف بأن هناك اختلافاً كبيراً في وجهات النظر حول ما إذا كان ما قام به ذلك الصحفي أمراً مفيداً أم لا على المدى الطويل بالنسبة للقضية التي يدافع عنها كصحفي. مع كل مصادر هذه الأخبار الكاذبة، يصبح الناس بموقف عدم تصديق ما يسمعونه، لقد أصبحوا لا يدرون ماذا يصدقون، لكن أعتقد بأنه إذا شعر بأن حياته في خطر وأن هناك تهديداً حقيقياً عليها؛ فإن ما قام به كان تمثيلا نابعا عن أسباب مقنعة وشرعية في نظري أكثر من معظم الحالات التي صادفتها في الواقع.

– لقد ذكرت في مقابلة سابقة بأن لتزييف الموت تأثيرا كبيرا على عائلة الشخص الذي ينفذه وأصدقائه:

ما لاحظته من الحديث مع أشخاص مروا بتلك التجربة أن خدعهم تلك لاقت الكثير من مشاعر الغضب من قبل عائلاتهم وذويهم، في بعض الحالات قد يتصالحون مع عائلاتهم، لكن في حالات أخرى فإنهم لا يفعلون. إنهم يرون في الأمر خطيئة لا يمكن غفرانها.

– ثقة العامة في وسائل الإعلام في أدنى مستوياتها في الفترة الحالية، هل يمكن أن تقدم قضية (باشينكو) سبباً لمزيد من التشكيك في مصداقية وسائل الإعلام؟

جل ما أستطيع فعله هو التعاطف مع الحالة النفسية التي مر بها (بابشينكو) سواء كان صحفياً أم لا، فقد دخل في حالة غريزية للمحافظة على حياته ولم يجد ربما أفضل من هذه الطريقة لينقذ بها نفسه، لذلك أعتقد بأن السؤال الأهم هو لماذا تسعى الحكومات لاغتيال الصحفيين؟ إن هذا لا يعزز الثقة لا بالحكومات ولا بأنظمة المعلومات أيضاً، لذلك أنا مترددة في لوم (بابشينكو) شخصياً لما حدث. إني أرى الأمر خياراً شخصياً اتخذه أكثر مما أراه موضوع انتقاد.

شهادات وفاة وجثث للبيع في السوق السوداء!

جثث للبيع
صورة: Dynamic Graphics/Getty Images

– (هوب ريز): لقد اهتممت أنت شخصياً بأن تزوري موتك حتى تتخلصي من قرض الطلاب وسافرت إلى الفلبين لتري كم كان سهلاً بالنسبة لك أن تحصلي على شهادة وفاة، وانتهى بك المطاف بالحصول على شهادة وفاة تقول أنك قتلت في حادث سيارة في (مانيلا) عاصمة الفلبين في الثاني من يونيو 2013. نحن مهتمون حقاً بأن نعرف ماهية تلك السوق السوداء، من الذي يقوم بهذا الأمر؟ وكم عدد الذين يسعون للحصول على مثل تلك الوثيقة؟

(إليزابيث غرينوود): لا أستطيع أن أخبرك متى بالضبط بدأت هذه السوق السوداء بالعمل فهذا الأمر موجود في الكثير من الدول حول العالم. إنها ليست سوقاً سوداء موجودة في مكان معين، إنها عادة مجموعة من الأشخاص إما موظفون حكوميون أو يعملون في مؤسسات حكومية يمكن أن تصدر هكذا شهادات منها.

يقوم هؤلاء بالاستيلاء على أوراق رسمية أو التراخيص أو وثائق أخرى يحتاجها الناس لهذا النوع من الجرائم، ثم يوزعونها حسب الحاجة والطلب عليها.

سمعت بموضوع سوق الفلبين للوثائق المزورة من عدد كبير من المحققين الذين تكلمت معهم، ويتغير موقع تلك الأماكن (حيث يتم الحصول على وثائق الوفاة المزيفة) وحجمها في العالم، وهي من المتوقع أن تتزايد في المكسيك والهند، لقد قرأت مقالاً في صحيفة Wall Street Journal منذ عام 1987 عندما بدأت أبحاثي، أجرى فيه المراسل الصحفي مقابلة مع محقق يعمل على حالات مثل تزوير الموت، والذي ذكر أنه في بعض دول جنوب شرق آسيا توجد أماكن يمكن للناس أن يحصلوا فيها على جثامين لناس متوفين يبقونها مجمدة حتى يأتي شخص ما يريد شراء الجثة ليقوم بحرقها على أنها جثته هو، وهذا ما أثار انتباهي بشكل عميق للموضوع الذي نتحدث فيه الآن.

– كيف حصلت بالضبط على شهادة الوفاة المزورة الخاصة بك؟ كيف وجدت الشخص الذي قام بتأمينها لك وكيف جرى الأمر؟

التقيت وكيلين محليين في الفلبين يعملان لصالح محققي جرائم الاحتيال، وكان لدى هذين علاقات في هذا الخصوص. وهما من قاما بمساعدتي.

– وكم كلفك الأمر من المال؟

لم أدفع المال مباشرة لمن قام بالتزوير، بل تم توصيل الشهادة للمكان الذي أقيم فيه التبادل مقابل 150 دولاراً أمريكياً.

– وهل تلك الشهادة صالحة في أي مكان في العالم؟

بما أني أمريكية الجنسية، كان يجب أن أسجلها في سفارة الولايات المتحدة في الفلبين أولاً، وعادة هذا هو الإجراء المعتاد في أي مكان.

– كيف شعرت بعد أن حصلت على شهادة الوفاة المزيفة؟

بدا الأمر جنونياً، ما عنيته بأني كصحفية خضت كل التجربة من أولها حتى آخرها، لكن عندما أصبحت الوثيقة بين يدي وبدأت أقرأ ما هو مكتوب فيها قلت في نفسي: ”لا… لا أريد أن أموت.“

– هل ما زلت تملكين تلك الشهادة المزيفة؟ هل قمت باستخراج وثيقة حقيقية تنفي ما ورد فيها أو تلغيها؟

أنا لم أسجلها بالأصل في السفارة الأمريكية، لذلك لم يكن هناك من داع لأن ألغيها، لكنها ما زالت بحوزتي، إنها في خزانة ملفاتي.

مقالات إعلانية