in

الكتاب الأخضر الذي ساعد ملايين الأمريكيين الأفارقة في القرن العشرين

الكتاب الاخضر

بالنسبة لأي شخص يعيش في العصر الحديث اليوم، فمسألة السفر ضمن البلد نفسه غالباً ما تكون متعلقة بالمال فقط، فمهما كان الطريق طويلاً لا توجد مشكلة حقيقية بإيجاد فنادق ومطاعم على طول الطريق توفر المأوى والطعام ريثما يتم إكمال الرحلة، لكن الأمر لم يكن دائماً كذلك لعدة فئات من البشر في الواقع، فحتى ستينيات القرن العشرين في الولايات المتحدة كان السود (ذوو الأصول الأفريقية) وأي عرقية أخرى غير أوروبية يعانون الأمرين بسبب قوانين الفصل العنصري.

تاريخ مختصر جداً للفصل العنصري في الولايات المتحدة

خلال فترة الفصل العنصري ضمن الولايات المتحدة، كان منظر اللافتة التي تدل إلى المرافق الخاصة بالبيض والأخرى الخاصة بالملونين أمراً شائعاً للغاية ومعتاداً.
خلال فترة الفصل العنصري ضمن الولايات المتحدة، كان منظر اللافتة التي تدل إلى المرافق الخاصة بالبيض والأخرى الخاصة بالملونين أمراً شائعاً للغاية ومعتاداً.

ربما يعرف معظم الأشخاص قصة الحرب الأهلية الأمريكية التي جرت بين الجنوب والشمال منتصف القرن التاسع عشر، وانتهت بنصر الشمال وإنهاء العبودية في الولايات الجنوبية. بطبيعة الحال فالسكان البيض للولايات الجنوبية لم يكونوا راضين حقاً عن تحرير العبيد نظراً لكون الأمر ضاراً اقتصادياً لهم، وكانوا يخشون حصول العبيد السابقين على حقوق مساوية لهم تضيع تفوقهم الوهمي الذي نسجوه في مخيلتهم كونهم ”العرق الأعلى“.

بطبيعة الحال فالولايات الشمالية لم تكن مختلفة حقاً، فعلى الرغم من أنها كانت قد أنهت العبودية قبل الجنوب بسنوات وحتى أنها حاربت الجنوب لإنهاء العبودية، فالموقف تجاه العرقيات الأخرى لم يكن إيجابياً تماماً، ودائماً ما كانوا يعتبرونهم أشخاصاً أقل من نظرائهم ذوي الأصول الأوروبية، لذا فقد صدرت حزمة قوانين باسم ”قوانين Jim Crow“ تفرض فصل البيض عن الأعراق الأخرى (الأفارقة والآسيويون والشرق أوسطيون واللاتينيون وسواهم) في جميع المرافق العامة، والسماح للمؤسسات الخاصة برفض خدمة ”الملونين“.

بطبيعة الحال فقد كانت المرافق المخصصة للملونين أسوأ من نظيرتها الخاصة بالبيض، لكن المشكلة الأساسية لم تكن هنا، فمع كون معظم الأمريكيين بيضاً ويمتلكون جميع المرافق التجارية والخدمية وغيرها، فالعنصرية كانت تبدو واضحة للغاية في جميع مفاصل الحياة، فلون بشرتك هو ما يحدد كونك تستطيع الأكل في المطعم أو أنك ستخرج من هناك وآثار الضرب على جسمك، أو كونك تستطيع المبيت في فندق على الطريق أو أنك ستبيت في الخلاء مرغماً.

من أين أتت فكرة ”الكتاب الأخضر للسائقين الزنوج“؟

صورة لصحيفة تتحدث عن Green
الصورة لمقال من صحيفة قديمة يتحدث عن Green وكتابه.

كما ذكرنا سابقاً، فخلال النصف الأول من القرن العشرين كان التمييز العنصري في الولايات المتحدة واحداً من الأشياء المعتادة في الحياة اليومية لمعظم الأشخاص، وعندما تكون شخصاً ذا لون بشرة ما في مكان يعتبر هذا اللون دليلاً على كونك لا تستحق استخدام نفس المرافق وحتى الغسيل في نفس المغسلة فمن الطبيعي أن تبحث عن طريقة تساعدك على التعايش مع هكذا واقع سيء وظالم، وبالنسبة للأمريكي Victor Hugo Green كان لا بد من إيجاد طريقة تساعد أبناء جلدته على الحياة في مجتمع متحيز ضدهم.

مع ظهور السيارات وانتشارها مطلع القرن العشرين، كان الأفارقة الأمريكيون من أكثر الأشخاص الذين يحتاجون وسائط النقل الخاصة هذه، والسبب هنا ليس كون أعمالهم تتطلبها، بل كون المواصلات العامة أمراً سيئاً للغاية لهم، فذو الأصول الأفريقية يجب أن يتخلى عن مقعده حالاً في حال طلب منه ذلك، كما أنه لا يحق له الجلوس في المقدمة بينما البيض يجلسون خلفه. بالطبع قاد كون معظم ذي الأصول الأفريقية فقراء للغاية إلى عدد قليل من الأشخاص السود الذين يمتلكون سيارات، لكن من حصلوا على سيارات واجهوا مشكلة من نوع آخر.

بطبيعة الحال فالسيارة كانت البديل المثالي للمواصلات العامة حينها، لكن السيارة تحتاج للصيانة الدائمة والإصلاح حين تعطلها، كما أن الرحلات الطويلة باستخدامها كانت تتطلب التوقف المستمر في الفنادق الرخيصة والمطاعم الصغيرة على طول الطريق، ومع وجود العديد من الأماكن التي ترفض خدمة السود في الولايات المتحدة، كان من المنطقي محاولة أرشفة المحال التجارية والمطاعم والفنادق ومحلات الإصلاح التي تتعامل مع ذوي الأصول الأفريقية.

إصدار سنة 1940 الخاصة بالكتاب الأخضر والذي كان يباع بسعر $0.25
إصدار سنة 1940 الخاصة بالكتاب الأخضر والذي كان يباع بسعر $0.25

محتوى الكتاب وإصداراته

يعرف معظم الأشخاص ما يعرف باسم ”دليل الصفحات الصفراء“ الذي كان يتضمن معظم أنواع المحال التجارية والمؤسسات الصناعية، وبشكل عام يشكل الحل المثالي للخدمات والوصول لمقدم الخدمات الأفضل والأقرب إليك. بالطبع فالصفحات الصفراء قد بات من الماضي اليوم مع هيمنة الإنترنت على هذا المجال، لكن في مطلع القرن العشرين كان لا يزال فكرة جديدة وناجحة للغاية، مما جعل Green يستنسخها جزئياً بحيث يدرج الشركات والمؤسسات التي لا تمانع خدمة السود.

بدأ الأمر بجدولة وأرشفة المحال والشركات الموجودة ضمن ولاية نيويورك الأمريكية (التي كانت أقل عدائية بكثير تجاه الملونين كونها لطالما كانت مدينة مهاجرين)، وفي عام 1936 نشر الإصدار الأول من الكتاب ضمن نيويورك بسعر 25 سنتاً فقط (ربع دولار حينها، وقرابة 18 دولاراً بأسعار اليوم)، ومن هناك حقق نجاحاً كبيراً وانتشاراً واسعاً سرعان ما نقله للنشر في جميع أرجاء الولايات المتحدة بحلول الأعوام التالية.

واحد من آخر الإصدارات الخاصة بالكتاب الأخضر قبل أعوام قليلة فقط من توقف طباعته بشكل كامل.
واحد من آخر الإصدارات الخاصة بالكتاب الأخضر قبل أعوام قليلة فقط من توقف طباعته بشكل كامل.

بعد بداية النشر بمدة من الزمن ترك Green عمله في مكتب البريد، وبدأ بنشر وتوزيع الكتاب بشكل دائم برفقة طاقم عمل نما بشكل دائم، وبحلول عام 1949 كان الدليل قد بات مكوناً من أكثر من 80 صفحة واستمر بالنمو بشكل مستمر بعدها.

لاحقاً افتتح Green وكالة سفريات خاصة به، لكنه استمر بنشر الكتاب حتى وفاته عام 1961، حيث صدرت آخر نسخة من الكتاب عام 1966 لتنتهي بذلك مسيرة استمرت طوال 30 عاماً.

التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية للكتاب

عندما بدأ الكتاب بالظهور عام 1936، كان عدد السود الذين يمتلكون سيارات ويقودونها بانتظام قليلاً للغاية في الواقع، فعلى الرغم من كل المعاناة التي تشلكها وسائط النقل العامة، فما الغاية من امتلاك سيارة لا تستطيع إصلاحها أو استخدامها للسفر مثلاً، لكن الكتاب ساعد وبشكل كبير على ازدياد اعداد السود القادرين على استخدام السيارات بشكل حقيقي كونه قدم لهم خيارات تساعدهم على التعايش مع الواقع السيء والظالم لهم.

بالنسبة لملايين الأمريكيين من أصول أفريقية كان الكتاب عاملاً أساسياً بتسهيل الحياة إلى حد بعيد، ولا يمكن إنكار مساهمته في تقوية الحركة المطالبة بالحقوق المدنية خلال تلك الفترة
بالنسبة لملايين الأمريكيين من أصول أفريقية كان الكتاب عاملاً أساسياً بتسهيل الحياة إلى حد بعيد، ولا يمكن إنكار مساهمته في تقوية الحركة المطالبة بالحقوق المدنية خلال تلك الفترة

من الناحية الأخرى، فقد ساعد الكتاب على إرغام المؤسسات التي يديرها السود على رفع مستوى الخدمات التي تقدمها، ففي السابق كانت هذه المؤسسات تمتلك زبائناً دائمين لا يمتلكون أية خيارات أخرى سواها، مما يعني أنها تستطيع تقاضي السعر المعتاد للخدمات ولو كانت الجودة أدنى بكثير من المؤسسات الأخرى، فالزبائن هنا مرغمون على التعامل معها، لكن عندما بات عناك خيارات عديدة متاحة ومفهرسة تغير هذا الواقع بالطبع.

الناحية الأخيرة والأهم ربما للتأثير الذي نجح الكتاب بتحقيقه هي كون العديد من الشركات والمؤسسات التجارية باتت مدركة لكون السوق الخاص بالأشخاص السود كبيراً كفاية ومربحاً بحيث لا يمكن تجاهله، حيث بدأت العشرات من الشركات والمؤسسات التي يمتلكها البيض بالإعلان ضمن الكتاب الأخضر للحصول على المزيد من الزبائن من ذوي البشرة السمراء.

ساهمت هذه الأمور بشكل كبير بتقليل تأثير قوانين الفصل العنصري الموجودة حينها، كما ساعدت بشكل كبير على تقوية الحراك المدني في الولايات المتحدة، والذي نجح لاحقاً بإنهاء العمل بقوانين الفصل العنصري وفرض قوانين تحقق المساواة وتمنع التمييز أو رفض خدمة الأشخاص تبعاً لعرقهم.

مقالات إعلانية