in

دخلك بتعرف أداة كشف الزلازل التي اخترعها الصينيون قديماً، والتي مازالت تثير دهشة وحيرة العلماء اليوم

كاشف الزلازل الصيني القديم

كان (تشانغ هينغ) عالم رياضيات، وفلكيّاً، ومخترعاً، وشاعراً، وجغرافيّاً، وفيلسوفاً، والقائمة تطول، لكن لعل أهم إنجازاته تجلت في كونه قد قدم للبشريّة أول كاشفٍ دقيقٍ عن الزلازل الذي أطلق عليه اسم Houfeng Didong Yi، ويترجم إلى ”دوّارة الزلازل“ (نسبة إلى دوارة الرياح التي تستخدم في تحديد اتجاه الرياح)، ومن الممكن أن تكون هذه التسمية قد أتت نتيجة اعتقاد (هينغ) أن الرياح والهواء هما المسببان الرئيسيان لحدوث أي زلزال، فيما نطلق نحن اليوم على اختراعه اسم (سيسموسكوب) Seismoscope، وقد صمم (هينغ) هذا الجهاز عام 132م في الوقت الذي كان يعمل فيه لدى عائلة (هان) الحاكمة.

طابع بريد صيني يحمل صورة (تشانغ هينغ)
طابع بريد صيني يحمل صورة (تشانغ هينغ)

يقوم (السيسموسكوب) بإلتقاط اهتزازات الزلازل على بعد مئات الكيلومترات، وتتضمن طريقة عمل الجهاز بشكلٍ عام وجود رقّاص (بندول) أو أيةِ أداة مشابهة ذات توازنٍ دقيق تُعلّق لتتحرك بوجود أقل اهتزاز. قد يبدو من السذاجة أن يعتقد المرء بأن أداة كهذه لم تكن قد وجدت من قبل، لكن في الحقيقة ما يميّز اختراع (هينغ) ويجعله مهماً هو مدى حساسيّة الجهاز الذي اخترعه، بالإضافة لقدرته على تحديد جهة المكان الذي حدث به الزلزال.

هكذا يبدو كاشف الزلازل الذي اخترعه (هينغ) من الداخل
هكذا يبدو كاشف الزلازل الذي اخترعه (هينغ) من الداخل.

يبدو اختراع (هينغ) كجرة نبيذ ضخمة، بقطرٍ يصل إلى حوالي المترين، وهي مصنوعة من البرونز ويتوضّع على السطح الخارجي لها ثمانية رؤوس تنانين تتمركز في الجزء العلوي ويُشير كلّ تنّين إلى إحدى الجهات الثمانية الرئيسة، ويقابل كل رأس تنّين ضفدع مفتوح الفم ورأسه متجهٌ نحو الأعلى. وفيما يخص محتوى الجرة فالأمر الأكيد هو احتوائها على رقاص، أما في طريقة عمل هذا الرقاص فلا أحد يعلم بالضبط الطريقة، وإنما قد وضعت بضعة تكهنات، فيرى البعض أن بداخل تلك الجرة العجيبة ميكانيكية تشبه في طريقة عملها ميكانيكية عمل النواس البسيط.

بتجاهل جهلنا لكيفيّة عمل الرقّاص فإن هذه الأداة تعمل كالتالي: حينما يحدث زلزال في مكانٍ ما (مهما كانت شدة الزلزال ضعيفة) يتحرك الرّقاص (بشكل ما) ليضرب كرةً حديدية ما تلبث أن تسقط من فم التنين إلى فم الضفدع، ويشير المكان الذي تسقط فيه الكرة إلى الاتجاه الذي أتت منه اهتزازات الزلازل، كما يصدر ارتطام الكرة بالنحاس صوتاً قويّاً ينبه الشخص الذي يعمل مراقباً إلى وقوع الزلزال. الأمر المثير للعجب الذي لم نستطع فهمه حتى الآن هو كيفية وصول (هينغ) إلى تلك الدقة، وكيف أنّ الرقاص يقوم بإيقاع كرةٍ واحدة دون الأخريات وباتجاه معيّن.

نسخة عن السيسموسكوب الذي اخترعه (هينغ) وهي موجودة في مركز (شابوت) للفضاء والعلوم في أوكلاند-كاليفورنيا
نسخة عن السيسموسكوب الذي اخترعه (هينغ) وهي موجودة في مركز (شابوت) للفضاء والعلوم في أوكلاند-كاليفورنيا.

واجه اختراع (هينغ) العديد من الانتقادات والشكوك، لكن ما لبثت أن تبخرت جميعها في الهواء، إذ حدث في إحدى الأيام بعد عدة سنين من اختراع الجهاز، وبعد أن تراكم الغبار عليه، أن سقطت كرة أخيراً، لكن ولأن أحداً لم يشعر بالاهتزازات فقد كتب ناقدوه أن لا فائدة تُرجى من هذا الاختراع. لم يلبث أن مضت بضعة أيامٍ حتى وصل رسولٌ إلى العاصمة الصينيّة لينقل للناس خبر حدوث زلزال ضرب بقوة هائلة منطقة على بعد بضعة آلاف من الأميال، وبالاتجاه المطابق تماماً لذاك الذي حدده جهاز (هينغ).

توالت القرون وتمت خلالها صناعة العديد من النسخ الناجحة لاختراع (هينغ)، لكن لسوء الحظ لم يصل أي منها إلينا سليماً، وهكذا تحدّث كتابٌ معاصرون عن أن ما يحدث بداخل ذاك الإناء هو لغزٌ حقيقي.

كاشف الزلازل الصيني القديم

حاول الناس خلال القرنين التاسع عشر والعشرين أن يصنعوا نسخاً فعالة وناجحة عن جهاز (هينغ) لكن لم يحدث أن وصل أحدٌ إلى تلك الدقة التي وصف الجهاز الأصلي بأنه قد تمتع بها. وقد استمرت النسخ السيئة بالظهور حتى عام 2005م حينما أعلنت مجموعة من علماء الزلازل وعلماء الآثار بأنها قد نجحت في صناعة نسخةٍ تعمل، وكان ذلك ضمن الأكاديميّة العلميّة الصينيّة.

في الحقيقة لا يمكن وصف نسخة عام 2005م بالنسخة المطابقة، حيث أنها لم تتضمن سوى كرةٍ واحدة عوضاً عن ثمانية كرات، وقد تمت موازنة هذه الكرة على قاعدة رقيقة للغاية متموضعة في منتصف الأداة، كما ثُبّت أعلى الكرة وبشكل ملامسٍ لها نواس منفصل يعمل على دفع الكرة في إحدى القنوات الثمانية لتخرج من فم أحد التنانين وتدخل في فم الضفدع، وهكذا نجد أن هذه الأداة تعمل لمرة واحدة ونتيجة لحركة النواس الذي يدفع الكرة الوحيدة الموجودة.

لقد بقي المبدأ الأساسي الذي استخدمه (هينغ) في أداته هذه، التي يصل عمرها إلى 1800 عامٍ تقريباً، مبدأً ثابتاً وقد استمر العالم في استخدام كاشفات الزلازل التي تعمل وفق مبدأ النواس البسيط حتى القرن التاسع عشر. يستعمل علماء الزلازل في وقتنا هذا تقنياتٍ حديثة يعمل جهاز الاستشعار فيها وفق مبدأ فصل الكتل التي تشبه إلى حدٍ ما طريقة عمل النواس لكنها تُثَبّت باستخدام قوةٍ إلكترونيّة عوضاً عن ميكانيكيّة الرافعات والرقاصات، كما أن هنالك أدواتٍ أخرى تقليدية لكنها تستخدم النوابض المرنة عوضاً عن الرقاصات.

تصميم كاشف الزلازل الصيني القديم

استطاع فريق من الباحثين أن يثبت بين عامي 2016م و2017م إمكانيّة اكتشاف وجود الزلازل عن طريق استخدام كوابل الاتصالات البحرية المغمورة العادية من خلال قياس التقلبات في نبضات الضوء المنقولة الناجمة عن الحدث الزلزالي، وعلى عكس مقاييس الزلازل الموجودة في نقطة واحدة، والتي تقيس مجموعة واحدة فقط من الموجات الزلزالية، تتعرض الألياف البصرية لاضطرابات الزلازل على طولها بالكامل مما يسمح للباحثين باستخراج معلومات قيّمة حول الزلزال، وهو الأمر الذي لا يكون ممكناً مع مقياس الزلازل العادي.

مع ذلك، يعد تثبيت أجهزة قياس الزلازل في قاع المحيط أمرًا صعبًا ومكلفًا للغاية، لكن الخبر الجيد هو أنه يوجد بالفعل آلاف الكيلومترات من الكوابل البحرية التي تحمل بيانات الإنترنت والصوت في جميع أنحاء العالم، ومن الممكن جداً استخدام هذه البنية التحتية الحالية، وهكذا قد يكون من الممكن تنفيذ شبكة زلزاليّة عالمية بتكلفة قليلة جدًا.

خريطة تمثل كيفية وضع كاشفات الزلازل عبر كوابل الألياف البصرية المغمورة تحت البحار

مقالات إعلانية