in

تعرّف على نيلسون مانديلا وكيف حارب نظام الأبارتيد العنصري في دولة شكّل فيها البيض أقلية حاكمة

وٌلد (نيلسون مانديلا) في 18 يوليو سنة 1918 في ما كان يُعرف سابقا باتحاد جنوب أفريقيا، وهو دولة تابعة للإمبراطورية البريطانية. كان معظم سكان الدولة من الأفارقة السود، لكن البيض، والذين يشكلون أقلية، هيمنوا على مقاليد الحكم في البلاد، فسيطروا على الأراضي والثروات والحكومة، وهي الحكومة القمعية ذاتها التي عملت بنظام الفصل العنصري الذي سيصبح اسمه لاحقاً الأبارتيد.

على مدار السنوات الـ95 التالية، سيسهم (نيسلون مانديلا) في الإطاحة بهذا النظام الاجتماعي الوحشي في جنوب أفريقيا، وسيبدأ عهد الديموقراطية. خلال مسيرة حياته، قاوم (مانديلا) الأسر واستطاع البروز بصفة قائد شعبي خلّص جنوب أفريقيا من نظام الأبارتيد ونقلها إلى فترة من المصالحة وحكم الأغلبية الديموقراطية.

حياته المبكرة

صورة من عام 1953 لـ مانديلا على سطح أحد المنازل. صورة: Herbert Shore, Ahmed Kathrada Foundation

كان اسم (مانديلا) الحقيقي هو (دوليهلاهلا داليفونغا مانديلا)، وهو الاسم الذي أطلقه والده عليه، حيث كان والده زعيم قبيلة (تمبو)، إحدى فروع شعب الهوسا الذي يشكل ثاني أكبر مجموعة ثقافية في جنوب أفريقيا. لكن والد (مانديلا) تحدى أحد الوزراء البريطانيين ما أدى إلى سحب الزعامة منه، وكذلك صودرت أرضه.

في اليوم الأول من أيام (مانديلا) في المدرسة الابتدائية، تعرّض الرجل شخصيًا للعنصرية، فكانت المدرسة تفصل بين السود والبيض، كما فقد (نيلسون مانديلا) اسمه الحقيقي وجُرّد من هويته عندما أعطى المدرس كلّ طالب اسماً إنجليزياً، وكان هذا الأمر شائعاً في جنوب إفريقيا، إذ لم يستطع البيض –أو لم يرغبوا في أحيانٍ أخرى– نطق الأسماء الأفريقية بشكلها الصحيح، بل اعتبروا أن تلك الأسماء غير متحضرة وغير راقية. هذا ما أورده (مانديلا) شخصياً في كتاب سيرته الذاتية ”طريق طويل إلى الحرية“.

إن لون بشرة (مانديلا) جعله في أدنى رتبة اجتماعية في البلاد التي تعمل بنظام الفصل العنصري، لكن نسبه الملكي السابق ومعارفه أمنا له الوصول إلى الجامعة الوحيدة في البلاد المخصصة للسود، وهي جامعة فورت هير. وهناك، تحوّل (مانديلا) إلى ناشط فُطرد من الجامعة لمشاركته في احتجاجات طلابية ضد سياسة التمييز.

عاد (مانديلا) إلى قريته الصغيرة في كيب الشرقية، ليفاجأ بعائلته التي أرادت تزويجه زواجاً مرتباً عقاباً له على ترك الدراسة. فاضطر (مانديلا) إلى الهرب شمالاً نحو سويتو عام 1941، وسويتو هي أكبر مدينة للسود في جنوب أفريقيا في تلك الفترة.

الأبارتيد ونشاطه السياسي

كان (مانديلا) من بين المناهضين لحكم الأبارتيد والذين حُكم عليهم بالخيانة. صورة: AFP

في سويتو، درس (مانديلا) الحقوق في جامعة ويتس وبدأ ممارسة مهنة المحاماة، فأسس أول مكتب للمحاماة للأفارقة في البلاد. التحق أيضًا بالمجلس الوطني الأفريقي، وهو جماعة طالبت بالحقوق المدنية للسود في جنوب أفريقيا. في عام 1948، كان الفصل العنصري واضحاً في جنوب أفريقيا، لكنه تحوّل في ذلك العام إلى قانون رسمي للدولة بعدما تبنى الحزب الحاكم نظام الأبارتيد. وفق السياسة الجديدة، كان على السود في جنوب أفريقيا حمل الأوراق التعريفية الخاصة بهم طوال الوقت، والتي كانت إلزامية في حال أرادوا دخول أماكن مخصصة للبيض.

اضطروا أيضًا للعيش في مناطق صممت خصيصاً للسود ومُنعوا من الزواج بأشخاص ملونين أو بيض (مُنعوا من الزيجات المختلطة)، ولم يكن لهم الحق في الاقتراع.

في البداية، لجأ (مانديلا) ورفاقه في المجلس الوطني إلى تكتيكات لا عنفية، مثل الإضرابات والمظاهرات المناوئة للأبارتيد. في عام 1952، ساهم (مانديلا) في تأجيج الغضب الشعبي عندما صار زعيم حملة المجابهة، والتي شجعت السود على خرق القوانين العنصرية. اعتُقل أكثر من 8000 شخص، من بينهم (مانديلا)، لخرقهم الحظر الليلي (لم يكن مسموحاً تجول السود في الليل بدون رخص) وعدم حمل أوراق التعريف الخاصة بهم وجرائم أخرى بالطبع.

استطاعت حملة المجابهة الإطاحة بأجندات ومساعي المجلس الوطني، وكذلك شخصية (مانديلا) الذي أصبح المحرض الرئيس بنظر الشعب للسود كي يحصلوا على حقوقهم. قضى (مانديلا) فترة سجنه، واستمر بعدها بترأس الاحتجاجات ضد الحكومة. في عام 1956، اتُهم (مانديلا) و155 شخصاً بتهمة الخيانة. جرت تبرئته من التهمة عام 1961، لكنه عاش متخفياً بعد المحاكمة لمدة 17 شهراً.

مع مرور الوقت، بدأ (مانديلا) بالاعتقاد أن المقاومة المسلحة هي السبيل الوحيد لإنهاء حكم الأبارتيد. في عام 1962، غادر الرجل البلاد لفترة قصيرة كي يتلقى تدريباً عسكرياً ويحصل على الدعم الكافي لقضيته، لكنه اعتقل وأُدين بعد عودته إلى البلاد بفترة قصيرة، والسبب هو أنه سافر من جنوب أفريقيا بدون حصوله على إذن. وبعدما زُج به في السجن، اكتشفت الشرطة وثائق مرتبطة بمخططات (مانديلا) لبدء حرب عصابات، فاتهموه مع رفاقه بالتخطيط لعمليات تخريبية.

علم (مانديلا) ومن كان معه في هذه القضية بأنهم على وشك تلقي حكم الإعدام. لذا حوّلوا جلسات محاكمتهم إلى إعلان عام انتقدوا فيه صراعهم ضد الأبارتيد والنظام القانوني الذي يقمع السود في جنوب أفريقيا. عندما جاء دور (مانديلا) للحديث من أجل الدفاع عن نفسه ضد التهم، ألقى خطاباً مدته 4 ساعات.

قال فيه: ”ما يشهده الأفارقة من غياب الكرامة الإنسانية هو نتيجة مباشرة لسياسة تفوّق البيض، إن صراعنا هو صراع وطني، صراع من أجل الشعب الأفريقي، صراع استلهمناه من معاناتنا وتجاربنا. إنه صراع من أجل حقنا في العيش“. دافع (مانديلا) عن فكرته في خلق مجتمع حر، وقال: ”لو اضطررت إلى ذلك، فأنا جاهز للموت في سبيل هذا المجتمع المثالي“.

سنوات سجنه

صورة: Associated Press

لم يتم إعدام (مانديلا)، لكن في عام 1964، حُكم عليه بالسجن المؤبد. سُمح له بزيارة شخص واحد فقط لمدة 30 دقيقة كل سنة، وبإمكانه إرسال وتلقي رسالتين فقط في السنة. حُكم عليه بالعمل في مقلع للحجر الكلسي، ومع مرور الوقت، استطاع كسب احترام سجانة وزملائه في السجن أيضاً. سُمح له في النهاية بمغادرة السجن مقابل تخلي المجلس الوطني عن أعمال العنف، فرفض ذلك.

سُجن (نيلسون مانديلا) لـ 27 عاماً، وأصبح واحداً من أشهر سياسي العالم المساجين. مُنعت أقواله في جنوب أفريقيا، لكنه كان أشهر رجل في البلاد كلها. طالب مناصروه بإطلاق سراحه، ووصلت أنباء سجنه إلى شتى أنحاء العالم.

في ستينيات القرن الماضي، بدأت بعض الدول الأعضاء في الأمم المتحدة تطالب بتطبيق عقوبات على جنوب أفريقيا، وتزايدت تلك المطالب في العقد التالي. في نهاية المطاف، أصبحت جنوب أفريقيا دولة منبوذة عالمياً، وفي عام 1990، ورداً على الضغوط الدولية وخطر الحرب الأهلية، وعد رئيس جنوب أفريقيا (فريدريك وليم دي كليرك)، آخر رئيس أبيض لجنوب أفريقيا، بإنهاء نظام الفصل العنصري، وأطلق سراح (مانديلا).

لم ينتهِ العمل بالنظام فور إطلاق سراح (مانديلا)، بل تفاوض الأخير مع (دي كليرك) من أجل وضع دستور جديد للبلاد يسمح بحكم الأغلبية. انتهى نظام الفصل العنصري عام 1991، وفي عام 1994، حاز المجلس الوطني –الذي أصبح حزباً سياسياً– على 62% من أصوات الناخبين في انتخابات ديموقراطية سلمية. أصبح (مانديلا) رئيس جنوب أفريقيا، ثم نال بالمشاركة مع (دي كليرك) جائزة نوبل للسلام.

قيادة البلاد في عصر ما بعد الأبارتيد

نيلسون مانديلا ورئيس جنوب أفريقيا آنذاك دي كليرك في صورة لهما عام 1990. صورة: Denis Farrell/AP

شغل (مانديلا) منصب الرئيس لـ 5 سنوات، أنجز خلالها عدة أمور، منها مفوضية المصالحة والحقيقة، والتي صُممت لتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان ومساعدة الضحايا والمذنبين على التصالح مع بعضهما. لم تأتي النتائج مثلما خُطط لها في البداية، لكن المفوضية استطاعت تحقيق العدالة التصالحية –وهي عملية تركز على الإصلاح بدلاً من العقاب، وهو أمر مثالي في دولة عانت لقرون من الزمن وفيها جراح لم تلتأم بعد.

في المقابل، لم يكن إرث (مانديلا) ناصع البياض بنظر البعض، بل انتقده كثير من المحللين واعتبروه رئيسًا غير فعال، تحديداً في المجال الاقتصادي وتولي مسألة العنف عندما كان رئيساً.

بعدما غادر مكتبه عام 1999، أمضى (مانديلا) باقي حياته يعمل على إنهاء الفقر ورفع مستوى الوعي بمرض الإيدز. توفي (نيلسون مانديلا) عام 2013 بعدما عاش لـ 95 سنة.

في 18 يونيو من كل سنة، يذكر سكان جنوب أفريقيا زعيمهم وبطلهم الحقوقي في يوم خاص له، وهذا اليوم أيضًا عطلة رسمية في الأمم المتحدة تكريساً لخدماته وتضحياته التي قدمها، وتذكيراً لنا أن عمل (مانديلا) وسعيه لتحقيق العدالة لم ينتهيا بعد.

كتب (نيلسون مانديلا) في سيرته الذاتية: ”أن تكون حراً لا يعني أنك متحرر من القيود، بل يعني أن تعيش بطريقة تحترم وتحسّن فيها حرية الآخرين“.

مقالات إعلانية