حتى مطلع القرن العشرين، كان هناك وسيلة أساسية متاحة للتواصل بين الأفراد عبر مسافات طويلة: البريد. حيث كانت الرسائل هي الطريقة الوحيدة للتواصل بعيد المدى بين الأشخاص العاديين، لكن كانت المشكلة الأساسية في الأمر هي أن البريد يحتاج لوقت طويل للغاية ليصل إلى وجهته، ومن ثم ستحتاج الردود لفترات طويلة للعودة بدورها.
في حال كانت المراسلات المطلوبة تتم في بلد صغير المساحة أو بين مدن متقاربة، فقد كان من الممكن إيصال البريد خلال ساعات أو أيام ربما في حال استخدمت الخيول للمهمة، لكن للبلدان ذات المساحات الشاسعة كالولايات المتحدة الأمريكية، فقد كان من الممكن أن يستغرق البريد أسابيع أو حتى أشهر ليصل إلى وجهته النهائية، وقد بقي الأمر كذلك حتى أتت السكك الحديدية.
في القرن التاسع عشر، بدأت القطارات والسكك الحديدية بالانتشار في بلدان أوروبا وأمريكا الشمالية، حيث أنها أسرع من الأحصنة ومن الممكن أن تقطع مسافات أطول مع أوقات راحة قصيرة أو معدومة حتى، وبالنتيجة سرعان ما تقلصت الأوقات اللازمة لإيصال الرسائل إلى أيام فقط، لكن حتى هذا لم يكن كافياً بالنسبة للبريد المستعجل والذي يجب أن يصل بأسرع وقت ممكن دون أي تأخير، لذا كان لا بد من إيجاد طريقة أسرع لإيصال البريد، وهذه الطريقة هي البريد الجوي بالطبع.
بداية البريد الجوي في الولايات المتحدة الأمريكية
بعدما حقق الأخوان رايت (Wright Brothers) حلم البشرية القديم بالطيران في السماء مع أول طائرة عام 1903، بدأ البحث الجدي حول صنع الطائرات ودراسة فوائدها وجدواها الاقتصادية والعملية، ومع تحسن تصاميم الطائرات خلال السنوات التالية، بات من الواضح أن الطائرات تمتلك ميزة هامة جداً على وسائل النقل الأخرى: الطائرات أسرع من القاطرات أو السيارات أو العربات بوضوح، كما أنها لا تحتاج إلى مسارات مصنعة خصيصاً ولا تعاني من تجاوز التضاريس الصعبة التي تتطلب الالتفاف وتغيير الطرق عادة.
في الواقع كانت أول رحلة منطاد تجاري في الولايات المتحدة تحمل معها رسائل تحتاج التوصيل عام 1897، ولاحقاً في عام 1911 تم توصيل أول رسائل محمولة على طائرة بطلب من خدمة البريد الأمريكي حينها، وبذلك بدأت خدمة البريد الجوي الأمريكي التي لا تزال مستمرة حتى اليوم.
كيف كان البريد الجوي الأمريكي يعمل في البداية؟
خلال بداياته، كان الطيران أمراً خطراً إلى حد بعيد، فقد كانت الطائرات اختراعاً جديداً نسبياً، وبالتالي فقد كان احتمال حدوث المشاكل والعيوب كبيراً للغاية، وعلى عكس السيارات أو القطارات التي تستطيع التوقف جانباً وإصلاح العطل والعودة للمسار، فالطائرات معلقة في الجو، والهبوط مع عطل خطر وفي مكان لا يتضمن مدرجاً للطائرات مشكلة كبيرة للغاية.
في السنوات الأولى للطيران كان الحفاظ على المسار أمراً صعباً للغاية في النهار، لكنه كان أصعب بمراحل وشبه مستحيل حتى في الليل، لذا كان الإجماع حينها هو أن الطيران ليلاً فكرة سيئة للغاية، ويجب أن يبقى الطيران محصوراً بالنهار عندما يسمح ضوء الشمس بتوجيه الطائرة.
في تلك الحقبة لم تكن الطائرات سريعة كفاية لقطع مسافات هائلة خلال نهار واحد حقاً، وبالأخص مع إدراك كون مدينتي نيويورك (على الساحل الشرقي) وسان فرانسيسكو (على الساحل الغربي) يبعدان عن بعضهما أكثر من 4600 كيلومتراً. لذا فقد كانت رحلة البريد عبر الولايات المتحدة تتم على دفعات ومراحل متتالية.
يبدأ الأمر بطائرة تقلع في الصباح الباكر، وتقضي أطول وقت ممكن في الهواء بينما النور لا يزال موجوداً، ومن ثم تهبط ليؤخذ البريد منها على متن قطار يسير ليلاً ليوصله إلى محطة تالية، وفي الصباح التالي يتم نقل البريد جواً من جديد، وبهذا يمكن اختصار رحلة القطار المعتادة والتي تحتاج 108 ساعات (أكثر بقليل من 4 أيام ونصف) إلى 79 ساعة فقط (ثلاثة أيام وربع).
المشكلة هنا أن توفير الوقت لم يكن كبيراً حقاً، وبالمقارنة مع المصاريف الكبيرة جداً لنقل البريد جواً بدلاً من النقل البري، بات البريد الجوي الأمريكي مهدداً بأن يفقد تمويله ويتم إلغاؤه أصلاً، لذا كان لا بد من إيجاد طريقة للسفر جواً في الليل دون القلق من تضييع الطريق.
الحل المبكر للسفر الجوي في الليل
اليوم يمكن للطائرات الحديثة أن تسافر ليلاً دون قلق كونها تعتمد على أنظمة تحديد الموقع العالمية عبر الأقمار الصناعية (GPS)، كما أنها تستطيع التواصل مع أبراج المراقبة في المطارات بحيث تدرك مكانها بشكل أفضل، لكن هذه التقنيات الحديثة لم تكن متاحة في مطلع القرن العشرين، لذا كان لا بد من حل بديل يتيح السفر الجوي خلال الليل باستخدام تقنيات أبسط بكثير من الآن في عالم لم يكن الرادار فيه متاحاً حتى.

كان الحل المبتكر للأمر هو تحديد طريق موحد للسفر بين نيويورك وسان فرانسيسكو في الولايات المتحدة، ومن ثم تعليم هذا الطريق بشكل منتظم بمعالم تتيح للطيارين إدراك كونهم على الطريق الصحيح ولم يبتعدوا كثيراً عن مسارهم المطلوب.
لهذه الغاية تم إنشاء صبات إسمنتية كبيرة الحجم على الأرض، حيث تم تشكيل هذه الأسس الإسمنتية على شكل أسهم تشير باتجاه الطريق المطلوب سلوكه، وفوق كل قاعدة إسمنتية بنيت أبراج معدنية بارتفاع 16 متراً، ولكل برج مصباح ضوئي شديد الإنارة بشكل مشابه لما يتم استخدامه في المنارات التي توضع على السواحل.

بهذه الطريقة كان من الممكن للطيارين الاستعانة بالأسهم الإسمنتية العملاقة لمعرفة طريقهم في النهار، وفي الليل يتم تشغيل الإنارة الكهربائية للأبراج، وبذلك يمكن للطيار تمييز الطريق بوضوح في ظلمة الليل، ومع وجود مدرج صغير بالقرب من بعض الأسهم الإسمنتية، كان الطيارون يستطيعون الهبوط بأمان أكثر في حال حصل طارئ ما ولم يتمكنوا من إكمال رحلتهم.
في البداية وزعت الأسهم الإسمنتية على طول المسار بين نيويورك وسان فرانسيسكو، حيث كانت توضع بأبعاد تقارب 16 كيلومتراً عن بعضها البعض، وفي المناطق الجبلية تتقارب الأسهم معاً، فيما تتباعد في السهول والمناطق المستوية من الطريق بين الساحلين.
مع الوقت تم توسيع شبكة الأسهم والمسارات الجوية في مختلف أرجاء الولايات المتحدة، وبسرعة نما عدد الأسهم من 284 موجودة على المسار بين نيويورك وسان فرانسيسكو إلى أكثر من 1500 سهماً إسمنتياً مع برج منير للتوجيه في مختلف أرجاء الولايات المتحدة.
نتيجة استخدام المسار المنار ليلاً، تم اختصار الوقت اللازم لإتمام المسار بين نيويورك وسان فرانسيسكو إلى 35 ساعة (أقل من يوم ونصف) فقط، مما جعل البريد الجوي أسرع بمراحل من القطارات، وبالتالي باتت تكلفته الأكبر مبررة بسرعته الواضحة.
في الواقع كانت فكرة استخدام الأسهم الإسمنتية المضيئة ناجحة كفاية ليتم التخطيط لوضع أسهم مشابهة على منصات عائمة فوق المسطحات المائية الكبرى مثل المحيط الأطلسي، بحيث يصبح السفر بين أوروبا وأمريكا الشمالية أكثر أماناً في الليل، لكن هذه المخططات لم تنجز قط بسبب الصعوبات اللوجستية لتنفيذها.
ماذا حل بكل الأسهم الإسمنتية والأبراج المضيئة لاحقاً؟
مع وجود أكثر من 1500 سهماً بالمجمل خلال فترة حاجتها، قد يبدو من الغريب اليوم أن هذه الأسهم ليست معروفة على نطاق واسع. لكن السبب في الأمر هو أن الغالبية العظمى من هذه الأسهم قد تمت إزالتها، ولم يعد هناك سوى بضعة عشرات منها فقط متوزعة في أماكن مختلفة وغير منتظمة على مساحة الولايات المتحدة الأمريكية.
السبب الأساسي في إزالة الأسهم والأبراج المضيئة من الولايات المتحدة هو الحرب العالمية الثانية، حيث انتبهت الحكومة الأمريكية إلى أن هذه المسارات المفيدة للطائرات التي تحمل البريد، قد تكون ضارة في حال استخدمتها طائرات الأعداء للتوجيه والاستدلال على المدن الأمريكية لقصفها خلال الحرب، ومع أن هذا التهديد لم يتحول إلى واقع كون الحرب بقيت بعيدة عن الأراضي الأمريكية، فقد كان التهديد كبيراً كفاية لإزالة الأسهم وتعطيل النظام حينها.
مع انتهاء الحرب العالمية القانية، كان مجال الطيران قد تطور بشكل كبير في الواقع، حيث باتت الطائرات أسرع بكثير من السابق، كما أن طرق التوجيه والخرائط الجوية وحتى الراديو والتواصل مع أبراج المراقبة باتت متاحة، وبالنتيجة بات إعادة إنشاء شبكة معقدة من الأسهم المضيئة فكرة سيئة وغير مجدية حقاً.
اليوم لم يبقى هناك العديد من الأسهم، لكن إن دخل إلى خرائط جوجل واستخدمت عرض الأقمار الصناعية من الممكن مشاهدة بعض هذه الأسهم في أماكن مثل: هنا وهنا وهنا.