in

كيف غيرت هذه العلب الحديدية المموّجة وجه العالم

ستتعرف في هذا المقال على تاريخ اختراع حاويات الشحن.. والتي بدونها ربما ما كنت لتحصل على ملابسك من بنغلاديش أو هاتفك من الصين أو الموز من كوستاريكا!

حاويات شحن

تقريبًا، معظم المقتنيات التي نشتريها مصدرها الخارج. مهما كان موقعك الجغرافي عزيزي القارئ، ومهما كان البلد الذي تعيش فيه، فمن المحتمل أن السواد الأعظم من المنتجات التي تستخدمها بصورة يومية مصنوعة خارج حدود بلدك، أو بلد إقامتك.

حتى على مستوى السوبرماركت ومحلات البقالة، من الشائع أن نرى بعض المواد الغذائية الطازجة المعروضة للبيع هناك، والتي كان مصدرها جانب آخر تماما من العالم.

قبل وقت ليس ببعيد، كان هذا الأمر مستحيلاً، حيث كان يجب إنتاج أو تصنيع كل شيء بالقرب من المستهلك، كما لم يكن شحن المنتجات الاستهلاكية وغيرها على مسافات طويلة تجارة مربحة، وكان الشحن على هذه المسافات وإلى خارج البلدان حكرًا على الأغراض الفاخرة والخاصة جدا.

الشحن قديمًا.
الشحن قديمًا. صورة Wendover Productions/Youtube

قليل جدا من المنتجات ما كان يتم إنتاجه بعيدا عن المستهلك ببضعة مئات الكيلومترات.

غير أن هذا كله تغير في يوم السادس والعشرين من أبريل سنة 1956، عندما غادرت سفينة الشحن Ideal-X، وهي عبارة عن ناقلة نفط من زمن الحرب العالمية الثانية تم تعديلها، ميناء (نيوآرك) في ولاية نيوجيرسي الأمريكية في أولى رحلاتها.

ما كان مميزًا جدا حيال هذه الرحلة هو أنها مثلت المرة الأولى في التاريخ التي تحمل فيها سفينة شحن بضائعها في حاويات حديدية مثلما نعرفها اليوم، بدلا من تعبئتها بشكل غير دقيق في مخازنها على متن السفينة.

قد يبدو هذا في الوهلة الأولى مفهوما بسيطا وغير مثير للاهتمام، لكنها كانت فكرة ثورية غيرت عالمنا إلى الأبد. قبل انطلاق سفينة الشحن Ideal-X في رحلتها التاريخية، كانت السلع تنقل إلى الميناء على متن شاحنات وكان يتم شحنها إلى السفن قطعة بقطعة، فكان يتم شحن الويسكي مثلا والأرز والمطارق وكل شيء مع بعضه البعض في مخازن السفينة، وكانت عملية الشحن برمتها تستغرق أكثر من أسبوع.

عملية الشحن اليدوي قبل اختراع حاويات الشحن.
عملية الشحن اليدوي قبل اختراع حاويات الشحن. صورة Wendover Productions/Youtube

يعود تاريخ تقنية الشحن هذه إلى عهد الفينيقيين، ويقال أن أجور عمال الموانئ كانت تقدر بـ20 دولارًا بالإضافة إلى كل ما كان بإمكانهم حمله معهم إلى منازلهم، ذلك أن السرقة كانت منتشرة بشكل رهيب.

كان يجب على هذا الأمر أن يتغير، وهنا جاء دور (مالكوم ماكلين)، وهو مالك لشركة نقل بضائع، الذي باع كل ما يملك واشترى سفينة وقام بتطوير نظام الشحن بالحاويات.

مالكوم ماكلين.
مالكوم ماكلين. صورة Wendover Productions/Youtube

ببساطة مطلقة، قام بتصميم علبة حديدية مموجة ثم صنع بضعة شاحنات وعدّل سفينته حتى تتمكن من حملها ونقلها. أدت هذه الفكرة الثورية إلى ربط المستهلك بالمصنّع مباشرة.

كان المصنعون يعبئون هذه العلب الضخمة بسلعهم ومنتوجاتهم، ثم لم تكن أي يد بشرية تلمسها حتى وصول الحاوية إلى وجهتها الأخيرة، التي قد تكون البائع، أو الموزع، أو المستهلك.

واحد من بين الجوانب المذهلة لهذا النظام هو أنه أصبح عالميًا، حيث يبدو أنه لا يمكننا الاتفاق على عملة واحدة، أو شكل مقبس موحد، أو حتى القيادة على جانب واحد من الطريق، لكننا اتفقنا على حجم وأبعاد حاوية الشحن، بحيث تتسع حاوية معبأة في مدينة (كانساس) الأمريكية على متن قطار ينقلها إلى الميناء، ثم تتسع على متن سفينة شحن تنقلها حتى الصين، وهناك تتسع على متن شاحنة تنقلها إلى روسيا.. حتى أنه بدأ تصميم بعض الطائرات الآن لتتمكن من حمل ونقل حاويات الشحن هذه. وبذلك لم تعد هنالك من حاجة إلى اللوجسيتيات، ولم تعد هناك من حاجة للحسابات الكثيرة، ولا حتى القلق والتخوف من أن فشل نقل الحاوية والتعامل معها في بلدان ما.

الشحن قديمًا.
الشحن قديمًا. صورة Wendover Productions/Youtube

لكن الطريقة الحقيقية التي غير بها هذا النظام عالمنا هي أنه جعل عملية الشحن سريعة جدا، فما كان يستغرق أزيد من أسبوع صار يتم إنجازه في غضون ساعات معدودة.

كما انخفضت كذلك تكاليف الشحن بشكل كبير بعد اعتماد هذا النظام الجديد، وصارت مدن بأكملها بارزة على الخريطة وذات أهمية كبيرة بفضل موانئها الجديدة والواسعة التي كانت ضرورية لمواكبة هذا الازدهار السريع في الشحن إلى الخارج.

ساعد هذا النظام الجديد كذلك على خلق الاقتصاد العالمي الذي نعرفه اليوم، وقد أصبح اليوم تصنيع عديد السلع على الجانب الآخر من العالم أقل تكلفة بفضل انخفاض تكلفة الشحن التي تكاد تكون معدومة.

كان الشحن بنظام الحاويات أكبر فاعل في تطوير الاقتصاد العالمي والتجارة الدولية وشبكاتها، حيث ساهم في خفض المدة التي تستغرقها سفينة الشحن من أوروبا إلى أستراليا مثلاً من 70 يومًا إلى 34 فقط، أي أكثر من النصف، وذلك حتى بدون زيادة سرعة السفن.

ما زلنا حتى يومنا هذا نشهد نتائج اعتماد نظام الشحن بالحاويات، فبين سنتي 1993 و2002، زادت المسافة التي تقطعها سفينة الشحن العادية بأكثر من 40 في المائة، أي أنها صارت تصل إلى أماكن أبعد أكثر فأكثر، مما يعني أن السلع صارت تُصنّع في أماكن أبعد أكثر فأكثر من السوق.

شحن السلع في السفن قبل اختراع حاويات الشحن.
شحن السلع في السفن قبل اختراع حاويات الشحن. صورة Wendover Productions/Youtube

وبما أن تكلفة الشحن في انخفاض مستمر، صارت الآن المزيد من السلع الرخيصة جدا تصنع في مناطق بعيدة وتشحن وتباع في مناطق أخرى أبعد.

غير أن الكثيرين يعتقدون أن نظام الشحن بالحاويات قد يكون آخر أعظم الابتكارات في مجال الشحن، ذلك أن سفن الشحن لا تستطيع زيادة سرعتها دون زيادة التكاليف، فمتوسط سرعة سفينة الشحن العادية هو 15 عقدة بحرية، ولا توجد أية بوادر تشير إلى أن هذه السرعة قد ترتفع في المستقبل القريب، لذا من أجل جعل الشحن أسرع وأقل تكلفة، يجب العثور على طرائق أخرى لتسريع العملية.

على الرغم من إجراء بعض التغييرات وإحداث بعض التطويرات على شاكلة أتمتة الموانئ وجعل السفن متخصصة في مجالات معينة دون غيرها، فإن أعظم ابتكار في مجال الشحن قد يكون أكبر تهديد لوجود البشرية على الأرض، ألا وهو الاحتباس الحراري.

فتح الاحتباس الحراري طرقًا بحرية جديدة للشحن، من بينها المسار الشمالي الشرقي للبلدان الإسكندنافية وروسيا الذي كان متجمداً، والذي صار بالإمكان الإبحار عبره في أشهر معينة من السنة.

المسار الشمالي الشرقي للبلدان الإسكندنافية وروسيا
مسار الشحن الشمالي الشرقي للبلدان الإسكندنافية وروسيا مبينًا باللون الأزرق. باللون الأحمر مسار الشحن القديم من آسيا إلى أوروبا، الذي يمر عبر مياه تعج بالقراصنة. صورة Wendover Productions/Youtube

في سنة 2009، أصبحت سفينة شحن ألمانية أول سفينة تجارية تبحر عبر هذا المسار، واليوم صارت تتخذه عدة سفن تجارية وسفن شحن كل سنة.

يساهم هذا المسار الجديد في تقليص المسافة بين أوروبا وآسيا بعدة أيام، كما يساهم في تجنب مياه البحر الأحمر وخليج عدن التي تعج بالقراصنة، مما يجعله يوفر مبلغ 300.000 دولار من تكاليف الوقود للسفينة الواحدة في الرحلة الواحدة.

وهكذا ساهمت علبة معدنية بأبعاد معينة في تغيير العالم كما نعرفه، والتي بدونها ربما ما كنا لنحصل على هواتفنا من الصين، أو ملابسنا من بنغلاديش، أو الموز من كوستاريكا، أو حتى القمح من أمريكا وروسيا من فلوريدا.

مقالات إعلانية