in

الأصولية والتنوير

لا يحدث التغيير في الأفكار والأمم حتى تمر بمراحلها الحرجة (لحظات الاصطدام بالواقع)، حين يعجز الفكر السائد عن تقديم أي شيء نافع، بل يصبح هو القائد إلى المناطق المظلمة والمجهولة، وفي هذه اللحظات فقط، يحين التغيير عن طريق أفراد يحملون من التضحية والشجاعة ما يكفي إلى أن يقدموا أرواحهم وطمأنينتهم من أجل أفكارهم.

هم أفراد ضاقوا ذرعاً بما يحصل حالياً من الفكر الديني الذي حوّل الظلم الاجتماعي والاستبداد والتخلف إلى شريعة، فأخذوا على عاتقهم مهمة النقد واستخلاص السلبيات من هذا الفكر وطرحوا البدائل، لقد رفضوا جملة وتفصيلاً الفكر الذي لا يتطابق مع الواقع فأفرز لنا الانحطاط والتخلف، ولا يتطابق مع العقل أيضا فجعل العقل الانساني في أحط المراتب.

هؤلاء الأفراد تعرضوا لأزمات حادة مع واقعهم أوصلتهم إلى ”نقطة حرجة“، نقطة حدية تفرض عليهم خيارين لا ثالث لهما: إما أن يفكروا أو أن ينتحروا. في محيط الفكر الإسلامي، ورغم اللحظات العسيرة التي يمر بها الإنسان العربي، إلا أن اللحظة الحرجة لم تحدث بعد، فالصراع بين العقل والنص، وبين الحقيقة والخرافة، وبين الأصولية والحداثة لا زال صراعاً خفيّاً حتى الآن.

رغم أن الواقع يقول إن الأصولية هي التي تسيطر على المشهد وحتى موازين القوى تصبّ في صالحها، ففي كل مرة يظهر مفكّر يحاول أن يكشف علاقة الفكر الديني بأوضاعنا المتخلفة، تتم محاربته وتهديد حريّته وحياته فيضطر إما الى ممارسة ”التقية“ أو الاستسلام، فلو وجد المفكّرون المسلمون الدعم من شعوبهم لما رأينا المجتمعات المسلمة تسكت عن سجن أو قتل مفكّر بشعار الدين.

يعاني الفكر الإسلامي من ”الجمود التاريخي“ الذي يقف في وجه الأسئلة الحقيقية وعملية المراجعة الجذرية، لكن ما سبب هذا الجمود؟ إنه بسبب التناقض المطلق بين تأويل النص والواقع، أي بين النص وكل التطورات العلمية والسياسية والفلسفية التي جاءت بها الأزمنة الحديثة. فالالتزام بحرفية النص يؤدي بالمسلم إما إلى إنكار منجزات الحداثة بل الحقد عليها وإعلان الحرب على العصر كما يفعل الظواهري وابن لادن، وإما إلى إنكار النص نفسه والشعور عندئذ بالإحساس الرهيب بالخطيئة والذنب.

هكذا يقع المسلم في تناقض قاتل لا مخرج منه، والحل لن يكون إلا بالتأويل العقلاني للنص والاعتراف بالشرطية التاريخية له، كما فعل المعتزلة فأراحوا أنفسهم واختصروا الطرق وقالوا بقدم القرآن وتاريخية بعض النصوص الدينية، وعدم صلاحية الكثير من الأثراء الفقهية التي تعادي مفاهيم الحريّة الشخصية والتي تكرّس الاستبداد السياسي.

لو عرف الفقهاء المسلمون أهمية الزمان والمكان في صياغتهم للفكر الديني الاسلامي لما حدث ما يحدث الأن، كان عليهم إجراء مقارنة بين الفكر الديني الذي صاغه المسلمون في القرن الأول هجري (والذي يجتهدون في الدفاع عنه) والظروف التي ظهر فيها، وبين الظروف الحالية التي نعيشها والتي لا يمكن مقارنتها بالماضي. وأن يعرفوا ما الذي تغيّر ولم يتغير.

لم يعرفوا أن الزمن قد تطوّر، وأن احتكارهم للدين لن يطول، لم يتوقعوا أن تحدث ثورة في عالم المعلومات ويصبح كل شيء متاح للمسلم. لم يتوقعوا أن يظهر من ينتقد هذا الفقه وهذا الفكر والموروث ويطالب بإخضاعه للتدقيق والتمحيص، ولم يتوقعوا أن يظهر مفكّرون ممّن يجادلونهم في صحة ”البخاري“ و”مسلم“، ومن يرفض أحاديثهما ويطالب بإنهاء سيطرة مصنّفات الأحاديث على الفقه الإسلامي.

الخروج من الفهم الحرفي للنصوص التشريعية والتي تعيد الدين إلى الوراء عكس جعله يسير إلى الأمام هو شرط لازم للتحديث والنهوض والتطور والحداثة، وهذا الخروج لا يأتي إلا بتحرير العقل، لأن الفهم الأصولي للدين باختصار يقف عقبة أمام الإنسان في القيام بدور الإبداع والنهوض بحجة البدعة. هذا الفهم الأصولي لديه موقف صلب من الحرية بأنواعها، وحرية الفكر بشكل خاص، فيراها شراً كلها وهذا طبيعي، لأن الأصولية التي نشأت في عصر الإمبراطوريات الإسلامية وبالتحديد في العصر العباسي الثاني، هي نتاج انغلاق الفقهاء على أنفسهم، حيث أصبح إعمال العقل والانفتاح على فكر غير المسلمين كفراً.

لقد عرفوا أن فلسفة الحرية عند المعتزلة متأثرة بالفلسفة اليونانية، وبما أن اليونانيين كفّار كفّروا المعتزلة وكفّروا الفلسفة معها، وكفّروا العقل والإجتهاد. لذا الأصولية لا تلتفت أبداً إلى العلم وإنما تحكم على الأخرين من خلال المعتقد، بل ومن خلال المذهب. فحتى غير المسلمين لم يسلموا من تكفير الأصولية لهم، والتاريخ الأوروبي شاهد كبير على ذلك ومثله التاريخ والواقع الإسلامي.

هناك العديد من الشواهد على تسلط الأصولية في أوروبا حتى في عصر التنوير، ففولتير كان يصدر كتبه دون أن يضع اسمه عليها، وكتابات هيجل في الدين لم تنشر إلا بعد موته، وكانط جاءه خطاب تهديد من الملك بعد صدور كتابه ”الدين في حدود مجرد العقل“ قال فيه: ”لقد لاحظ سموُّنا منذ زمن بمرارة وضجر الطريقة التي وفقَها أسرَفتم بفلسفتكم في تشويه واحتقار الثوابت الأساسية والرسمية للكتب المقدسة وللمسيحية، وبخاصة في كتابكم الدين في حدود مجرد العقل، وعليه فإننا نلزمكم بضرورة تقديم تبرير فعلكم هذا، وإن لم تفعلوا، فينبغي أن تنتظروا منا ما لا يعجبكم.“

الفكر الإسلامي اليوم يعيش سباتاً عميقاً منذ عصر الخليفة المتوكل إلى الآن، فهذا يعني سباتاً استمر لثمانية قرون، وفي عصره تم إغلاق باب الإجتهاد، وتكفير كل من يأتي برأي جديد في الفقه فـ”ما قرره الخلف لا يرفضه السلف“ هذا يعني أننا محكومون بالتقليد إلى يوم الدين وهذا أمر غير معقول. ثم دعمه فقهاء البلاط فقالوا إن الاجتهاد مناقض لخاتمية الشريعة وخلودها.

كثيراً ما يتشدق المفكرون الإسلاميون بأن للحضارة الإسلامية دوراً كبيراً في نهضة الحضارة الغربية وتقدمها الهائل اليوم، سواء من ناحية الطب أو الهندسة أو الفيزياء أو الكيمياء أو الأدب. وعند بحثي لأول مرة عن أولئك العرب والمسلمين الذين أثروا في نهضة الحضارة الغربية، تفاجئت بأن جلهم قد اتهموا بالزندقة والإلحاد والمروق من الدين الإسلامي وذلك من خلال كتاباتهم وأفكارهم.

فما هذا الضحك على عقول السذج من المسلمين من قبل هؤلاء المفكرين الإسلاميين؟ ولماذا لا تذكر الحقائق على علاتها لكي يدركها الناس؟ ولصالح من تضلل عقول العامة وينكل بها هذا التنكيل البعيد عن الحقيقة؟ فمن كفّر ابن سينا وابن رشد؟ إنه الغزالي في كتابه ”المنقذ من الضلال“ وأكد نفس المعلومات ابن كثير في (البداية والنهاية 12/43).

وقد أكد ابن عماد أن كتابه ”الشفاء“ اشتمل على فلسفة لا ينشرح لها قلب متدين (شذرات الذهب 237/3). وشيخ الإسلام ابن تيمية أكد أنه كان من الاسماعيلية الباطنية أو اليهود أو النصارى.

وماذا عن ابن رشد؟ لقد نفي إلى بلاد المغرب، ونكل به وأحرقت كتبه، وتوفي في مراكش عن 75 عاما ونقلت جثته إلى قرطبة، وبموته تفرق تلاميذه وأصدر المنصور يعقوب مرسوماً بتحريم الاشتغال بالفلسفة.

يحرّمون الفلسفة ثم يكذبون ويقولون لك أن الاسلام أمر بالعلم. المشكلة ليست في الإسلام إنما في كهنته، كلما ظهر عالم حقيقي ارتعبوا واشتكوا منه إلى سيدهم السلطان، وفي مقابل هذا التسلط الأصولي، كان الفلاسفة والعلماء يتوجهون بالتفكير إلى الدين كظاهرة، بدأ الأمر مع عصر النهضة، عن طريق التفكير والتعبير في سياقات لا دينية عن طريق الرجوع للآداب اليونانية والرومانية لكن دون الوقوع في اعتراض مع الدين.

في القرن السابع عشر تقدم الفكر خطوة جبارة مع ديكارت ونيوتن وكبلر وسبينوزا، والأخير هو فقط من توجه بالنقد للدين خصوصا في كتابه ”رسالة في اللاهوت والسياسة“، أما في القرن الثامن عشر (قرن التنوير) فقد وصل الصراع إلى ذروته، وأصبح الفلاسفة يفكرون بقدر أكبر من الجرأة والحرية، فقد طالبوا بإخضاع الدين ونصوصه إلى المنهج العلمي، مما أنتج تفكيكا للفهم الأصولي للدين وتحريرا للعقول منه.

هذا ما أطلق العنان للإنسان الأوروبي ليصبح على ما هو عليه اليوم، فنادراً ما تجده يتدخل في عقائد الناس، أو يدعوا إلى سجن من يخالفه في الفكر والعقيدة. ولن تجد كهنة المسيحية يمنعون الأطباء من تشريح الجثث لإجراء التجارب عليها مثلما كانوا يفعلون في القرون الوسطى، حيث كان علم التشريح كفراً عظيماً. ولن تجد قسيساً كاثوليكياً يعارض الطب أو العلم أو يهدد البروتستانت أو يكفّرهم علناً.

لم يحدث هذا التطور بعد في التجربة الإسلامية، ولن ينفك الإنسداد التاريخي إلا بحدوثه، ولن ينهض الإنسان المسلم إلا بالمرور بهذه التجربة. كما أن عزلة العالم العربي ساهمت أيضاً في الانحطاط و التخلف، بحيث كان العالم العربي في معزل تام عن ما يحدث في أوروبا، وكان العرب طيلة الاستعمار العثماني معزولين عزلاً تاماً داخل ستار حديدي أشبه بالستار الحديدي السوفيتي. لا يدرون ما يدور في أوروبا من تطورات سياسية وفكرية ودينية خطيرة في القرن الثامن والتاسع عشر، وهما عصرا التنوير الأوروبي. ولم يقرأ العرب فكر التنوير قراءة جادة وواعية ومتأملة إلا مؤخراً وخلال النصف الثاني من القرن العشرين، فلم يسمعوا عن الثورة الفرنسية، ولا عن أفكار روسو وجون لوك ولا غيرهم، فحتى العلماء المسلمين لا يعرفون عنهم شيئاً، فتارة يكفّرونهم وتارة يفتخرون بهم.

التنوير هو تخلّص الإنسان من اعتقاده بالقصور وعدم قدرته على استخدام فهمه دون قيادة الغير، وما يقود إلى التنوير والإصلاح هو فهم الدين بما يتوافق مع العقل الحاضر، ولا يتناقض معه. فالتنوير لا يتطلب شيئاً آخر غير الحرية وبالضبط تلك الحرية الأقل ضرراً بين كل ما يندرج تحت هذا اللفظ، أي حرية الاستعمال العمومي للعقل في كل الميادين، ونحن الآن نعيش في عصر العقل، وإنجازات العقل وتحقيقاته تحيط بنا من كل جانب.

التنوير هو نقد الواقع وإبراز جوانبه الإيجابية والسلبية والعمل على تنمية ما هو إيجابي وتجاوز ما هو سلبي، وهو بث المعرفة العقلية في الواقع المعرفي والعلمي والفلسفي، وفي مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، حتى تصير تلك المعرفة متمكنة من الفكر وممارسة الأفراد والجماعات التي ترتبط بمجال بث المعرفة العقلية، وهذا لا يأتي إلا بممارسة النقد البناء والعلمي بهدف جعل الواقع مستجيباً للحاجة إلى التطور في جميع المجالات.

المشكلة هي أن العالم الإسلامي لم يشهد مرحلة التنوير حتى الآن، على عكس ما حصل في أوروبا، ولذلك فإن الصدام سيستمر بين التنوير والأصولية ولمدة طويلة، فالمنظومة الفكرية غائبة والأوضاع الأمنية الحالية ليست مواتية إطلاقاً ليبوح المفكر بأفكاره، فما بالك أن يخرج على الجميع ويهاجم الموروث.

سيظل هذا الصدام مستمراً مادام نظام القيم العليا أو المرجعيات مختلفا أو متناقضاً، وفي كلا الحالتين سيظل مستمراً مادام الانسان المسلم يشكّل استثناءاً في موضوع الحرية بجميع أنواعها، وسيطول لأن في جهة العالم الاسلامي تسيطر المرجعية الدينية السلفية الأصولية، أما جهة الغرب فتسيطر المرجعية الفلسفية والسياسية الحديثة على المشهد. والتي فصلت اللاهوت الديني عن السياسة. ومن جهة العالم الإسلامي، لا يزال هذا الفصل مستحيلاً حتى الآن، ولهذا السبب لازالت الحركات الأصولية تتمتع بشعبية كبيرة في العالم الإسلامي.

مقالات إعلانية