في سنة 1880، وفي أول ذكرى سنوية لزواجها، ألفت الكاتبة الأمريكية (ساره أورني جيويت) قصيدة رومنسية لشريكها تقول في بعض منها: ”هل تتذكر، عزيزي، قبل سنة من تاريخ اليوم، عندما سلمنا بعضنا لبعض؟“، وأضافت: ”لن نخلف الوعود التي وعدنا بها بعضنا منذ سنة من الآن“.
غير أن الحقيقة أن (جويت) لم تكن تقصد في رسالتها زوجها، بل كانت تكتب لزوجتها المستقبلية وهي (آني أدامز فيلدز).
قبل قرن كامل من تشريع زواج المثلية في الولايات المتحدة، كانت (جيويت) و(آدامز) تعيشان مع بعض تحت ما عرف باسم ”زواج بوسطن“، وهي شراكة التزامية تربط بين امرأتين.
لم يكن ”زواج بوسطن“ يقتصر على (جيويت) و(آني) فقط، فخلال عدة سنوات سبقت نهاية القرن التاسع عشر، كان الزواج بين النساء أمراً شائعاً ومقبولاً بشكل نسبي من طرف المجتمع السائد آنذاك، فكانت هذه النسوة يتبادلن القبل، والعناق، ويتشاركن حياتهن.
على الرغم من أن المثلية كانت خطاً أحمر خلال القرن التاسع عشر، فإن علاقات الصداقة القوية والرومنسية بين النساء كانت أمراً شائعاً، وفي تلك الأزمنة كان المجتمع نفسه يحث النساء على البقاء في فضاء بعيد ومنفصل عن فضاء الرجال، فقد كانت الحياة خارج المنزل، والعمل، وجني المال تعتبر أموراً حكراً على مجتمع الرجال.

دفعت هذه الأيديولوجية بالنساء إلى عزلة عن العالم الخارجي، لكنها جعلت منهن يحتكن بشكل أكثر حميمية مع بعضهن البعض، حيث كان مقبولاً اجتماعياً آنذاك للنساء أن يتبادلن أموراً كالقبل، أو تشابك الأيدي، ذلك أنهن كن يُعتبَرن كائنات رقيقة، ومخلصة، وعديمة الرغبات.
لنأخذ على سبيل المثال الجامعات النسائية المشيدة حديثاً آنذاك؛ كانت الطالبات فيها تهدي بعضهن البعض باقات الورود والأزهار، وكن يتبادلن قصائد الحب الشعرية، وكن في نفس الوقت يعبرن عن حبهن لبعضهن بشكل علني، كما كان أمراً شائعاً جداً أن تعلن امرأة ما عن انجذابها نحو امرأة أخرى، فكان ذلك جزءاً لا يتجزأ من الحياة والثقافة الجامعية النسائية.
غير أن مجموعة من النساء في (نيو إنغلند) نقلت هذا المفهوم إلى أبعد من ذلك من خلال ”زواجهن من بعضهن البعض“، على الرغم من أنهن لم يكن يتزوجن بصفة قانونية ورسمية، غير أنهن كن يتشاركن نفس الشقق، ويعشن مع بعضهن ويدعمن بعضهن البعض على المدى الطويل. دفعت هذه النسوة بعيداً حدودَ ما اعتبره المجتمع مقبولاً للنساء القيام به، على غرار ارتياد الجامعات، والعثور على وظائف، والعيش خارج منازل أهاليهن.
لكنهن بما أنهن كن يقمن بذلك مع نساء أخريات، كانت نشاطاتهن تعتبر مقبولة اجتماعيا، وفي سنة 1885، قام المؤلف والروائي (هينري جايمس) باستكشاف ظاهرة ”زواج بوسطن“ في كتابه The Bostanians؛ الرواية التي تناولت موضوع هذه النساء المستقلات، وتضمنت علاقة بين شخصية (فيرينا تارنت) النسوية الناشطة، و(أوليف شانسلور) التي وقعت في سحر (فيرينا) القوية.
كوّنت الاثنتان علاقة شراكة وانتقلتا للعيش مع بعضهما البعض، لكن عندما قررت (فيرينا) الزواج من قريب (أوليف) انهارت العلاقة بين الاثنتين وتدهورت، ويعتقد أن هذه الرواية المشهورة ساعدت على تعميم مصطلح ومفهوم ”زواج بوسطن“ على الرغم من أن الكاتب (جايمس) لم يستخدم الجملة بهذا الشكل الصريح أبداً.

كانت زواجات بوسطن تمنح النساء من الطبقة الثرية المساواة والدعم والاستقلالية، هؤلاء النساء اللواتي كن عازماتٍ على الخروج من الفضاء المنزلي التقليدي الرتيب الذي رُسم لهن، كما وفرت لهن الحب الرومنسي على الرغم من أن كل علاقة كانت مختلفة عن الأخرى، كانت هذه النساء يشرن إلى بعضهن البعض كزوج وزوجة، وكن يتبادلن القبل والعناق، ويكتبن رسالات شغف وحب واشتياق عندما كن بعيدات عن بعضهن، كما كن يتشاركن نفس السرير كذلك.
غير أن كلاً مما سبق لم يُنظر له بعين المجتمع على أنه ذو طابع جنسي خلال القرن التاسع عشر، ذلك أن النساء كن يعتبرن خاليات من الرغبات الجسدية التي كانت حكراً على الرجال فقط.
هل كانت هذه النساء مثليات يمارسن الجنس المثلي بالمفهوم الحديث؟
على الرغم من أنه ليس باستطاعتنا العودة بالزمن إلى الوراء وتفحص ما كان يجري داخل غرف النوم التي جمعت بين النساء آنذاك، غير أنه من المؤكد أن النساء اللواتي جمعتهن علاقات صداقة رومنسية وما عرف بـ”زواجات بوسطن“ كن يمارسن علاقات حميمية مع بعضهن البعض.
بالنسبة لبعض النساء، كان زواج بوسطن عبارة عن واجهة لعلاقة تعتبر بمعايير القرن الواحد والعشرين علاقة مثلية، فتخبر المؤرخة (ستيفاني كونتز) Stephanie Coontz: ”كان بإمكان كل امرأتين تجمعهما علاقة حميمية آنذاك أن تعيشا مع بعضهما البعض دون إثارة أدنى الشكوك حيال علاقتهما، فكانت علاقتهما لا تتعدى مجرد انجذاب أنثوي في أعين المجتمع“، لكن بالنسبة للبعض، لم تكن العلاقات الجسدية تمثل جزءاً من المعادلة، بل أن زواج بوسطن بالنسبة لهن كان يمثل أمرا أكثر إغراءً: ألا وهو الاستقلالية.
في نهاية المطاف، وبشكل طبيعي اضمحلت هذه الممارسة التي جمعت النساء بعد أن صار المجتمع يحيط علماً بمفهوم المثلية بين النساء، ففي فجر القرن العشرين، أصبح شيوع مفهوم المثلية سبباً رئيسياً في تصنيف هذه العلاقات التي جمعت النساء، والتي كانت تعتبر في يوم من الأيام أمراً عاديا، إلى كونها انحرافاً خارجاً عن المألوف.

على الرغم من أن (جيويت) و(فيلدز) عاشتا مع بعضهما البعض لمدة عقدين كاملين من الزمن، غير أن ناشري المؤلفة (جيويت) بدوا كأنهم عدلوا على القصص التي تناولت العلاقة التي جمعتها بخليلتها، كما حذفوا بعض الأقسام من الرسائل التي كانتا تتبادلانها، في محاولة لمنع القراء من اعتبارهن مثليات.
استغرق الأمر مائة سنة كاملة للزواج المثلي أن يصبح مقبولا قانونيا ورسميا في الولايات المتحدة الأمريكية، لكن الالتزام والحب الذي جمع الشريكات المثليات خلال القرن التاسع عشر كان قويا لدرجة عاش واستمر حتى اليوم، مثل قصة الروائية الأمريكية (ويلا كاثر) ورفيقتها التي لازمتها طوال حياتها (إيديث لويس)، حيث عاشت هاتين الزوجتين كشريكات ملتزمات لبعضهن البعض لمدة تجاوزت أربعة عقود كاملة، وهما الآن مدفونتان مع بعضهما البعض في قبر واحد في مقبرة (نيو هامشاير)، فإن لم يكن هذا حباً، فما هو إذن؟