in

عندما كادت أمريكا الشمالية تنقسم إلى قسمين

من قارة أمريكا الشمالية

قبل مليار سنة من الآن، لم تحدث الكثير من الأحداث حول العالم، يطلق الكثير من علماء الجيولوجيا على هذه الحقبة اسم ”المليار الممل“، لأنه عندما يتعلق الأمر بتطور الحياة وتغير الظروف على كوكبنا، لم يحدث الكثير من هذا الشيء خلال مليار سنة كاملة.

هذا عدا عن حدث واحد في (لورينسيا)، وهي القارة القديمة التي أصبحت الآن أمريكا الشمالية، حيث كانت هذه القارة مشغولة جدا محاولة تقسيم نفسها إلى نصفين.

ولو أن القارة نجحت في الانقسام، لأصبح ما يعرف الآن باسم بحيرة Superior محيطًا جديدًا. بدل ذلك، تُركنا مع ندبة عملاقة تمتد عبر الأرض يطلق عليها اسم صدع منتصف القارة، وقصة مثيرة حول الطريقة التي تغيرت بها الأرض، وما كان ليحدث.

بالنظر إلى الخريطة، لا يبدو واضحا أن ما يعرف الآن باسم أمريكا الشمالية كاد ينقسم إلى نصفين في الماضي. حتى أن العلماء لم يدركوا حدوث أي شيء ووجود أي شيء مريب إلى غاية أربعينيات القرن الماضي، عندما كان علماء الجيوفيزياء يحاولون وضع خريطة لقوة الجاذبية عبر الولايات المتحدة الأمريكية.

نحن نسلّم بأن الجاذبية هي نفسها في مختلف أنحاء العالم، غير أنها مختلفة بشكل طفيف من مكان إلى آخر، والأمر راجع إلى عدة عوامل أهمها هو كثافة الصخور تحت الأرض.

يوجد لدى الصخور عالية الكثافة الكثير من الكتلة، لذا فهي تملك جاذبية أقوى بشكل طفيف عن بقية الصخور. وهذا ليس بالأمر الذي يمكنك حتى ملاحظته، غير أن علماء الجيوفيزياء قادرون على قياسه باستخدام أداة حساسة للغاية يطلق عليها اسم ”مقياس الجاذبية الأرضية“، وهي أداة بإمكانها منحهم لمحة عما يوجد تحت الأرض.

إن قياس قوة الجاذبية ممارسة شائعة، وتأتي الخرائط الناتجة عنها نافعة على وجه الخصوص عندما يتعلق الأمر بالبحث عن النفط أو الغاز أو المعادن الباطنية.

عندما ظهرت أولى خرائط الجاذبية الدقيقة عن أمريكا الشمالية لاحظ العلماء أمرًا غريبًا: وجدوا منطقة واسعة تتضمن على جاذبية قوية تمتد من (أونتاريو) إلى (كنساس)، وقد كانت المنطقة تحتوي على بعض الصخور ذات الكثافة العالية، فأطلقوا على هذه المنطقة التي تتوسط أمريكا الشمالية اسم ”منتصف القارة عالي الجاذبية“.

أدرك العلماء أن الأمر متعلق بالصخور التي كانوا على علم بوجودها مسبقًا، وهي صخور بركانية ذات كثافة عالية تتواجد حول بحيرة Superior. سرعان ما أدركوا كذلك أن هذه الصخور كانت في الواقع تمتد تحت الأرض عبر الولايات المتحدة الأمريكية.

في الواقع، مع المزيد من البحث اكتشف العلماء أن الصخور كانت تمتد من (أوكلاهوما) حتى بحيرة Superior، ثم من هذه الأخيرة جنوبًا حتى (ألاباما).

بحيرة Superior في الخريطة، في أمريكا الشمالية.
بحيرة Superior على الخريطة، في أمريكا الشمالية.

ما هي هذه الصخور؟

اكتشف العلماء أن هذه الصخور كانت صخور بازلت فيضانات قديمة عمرها 1.1 مليار سنة. تتشكل صخور بازلت الفيضانات عندما يرتفع قسم كبير من الحمم عبر قشرة الأرض ويثور، فيحدث فيضانًا من الماغما عبر الأرض، وفي نهاية المطاف، تبرد الحمم البركانية وتتحول إلى صخور قاتمة عالية الكثافة التي تدعى بالبازلت.

في هذه الحالة، يقدر العلماء أن حوالي 2 مليون كيلومتر مكعب من الحمم البركانية كانت مسؤولة عن نشأة صخور بازلت الفيضانات هذه، وهو ما يطرح سؤالا مهما للغاية:

ما الذي حدث في أمريكا الشمالية قبل مليار سنة من الآن؟

منذ خمسينيات القرن الماضي وعلماء الجيولوجيا يعتقدون بأن هذه التشكيلة الصخرية الغريبة هي عبارة عن صدع. والصدع هو ذلك المكان الذي تصبح فيه الصفائح التكتونية التي تشكل سطح الأرض رقيقة وتبدأ في الانقسام إلى قسمين، غير أن حتى هذا التفسير أثار من الأسئلة أكثر مما أعطى إجابات، على سبيل المثال: لماذا بدأ هذا الصدع في المقام الأول؟ ولماذا توقف في نهاية المطاف؟

بعد كل شيء، عندما يبدأ الصدع في الحدوث يستمر حتى يشكّل محيطًا جديدًا، وهو الأمر الذي لا يوجد في وسط أمريكا الشمالية، كما تساءل علماء الجيولوجيا كذلك عن مصدر كل صخور البازلت تلك؟

معظم الصدوع الأخرى التي نعرف بشأنها والتي تنتشر عبر الأرض لا تحتوي على طبقات كثيفة من الصخور البركانية مثلما هو الحال في صدع وسط أمريكا الشمالية، لذا ما الذي يجعل منه مختلفًا؟

صخور بازلت الفيضانات.
صخور بازلت الفيضانات. صورة: Wikimedia Commons

اليوم، مازال البحث عن جواب لهذا التساؤل مستمرًا، ومازالت الكثير من قطع هذه الأحجية مجهولة بالنسبة للعلماء، ذلك أن محاولة ملاحظة ما حدث قبل مليار سنة في الماضي هو مشروع ضخم وعملاق بكل تأكيد.

غير أنه من خلال دراسة صدوع أخرى حول العالم وصخور بازلت الفيضانات في شمال أمريكا، تمكن علماء الجيولوجيا من فهم الصورة الشاملة نوعًا ما.

ما الذي يحدث عندما تتحرك القارات؟

عندما تنقسم القارات مشكّلة المحيطات، تميل إلى اتباع نمط قابل للتنبؤ والتوقع يطلق عليه اسم (دورة ويلسون)، والتي تحدث على النحو التالي:

أولا: يتشكل الصدع فتنقسم القارة، وتصعد الحمم من قشرة الأرض وتملء الفراغ الجديد. ومن أشهر الأمثلة عن هذه الظاهرة اليوم هو الصدع الإفريقي الشرقي، الذي سيشكل المحيط التالي للأرض بعد ملايين السنين.

ثانيًا: إذا ما كان الصدع ناجحًا، فهو يصبح على الأرجح محيطًا، وهو ما يعني تشكل حُرف وسط المحيط. الذي هو عبارة عن خط من البراكين تحت البحر بالقرب من مركز المحيط الجديد حيث يتشكل قاع بحري جديد من البازلت.

بمجرد أن تبرد الصخور والحمم البركانية وتتحول إلى قشرة محيطية على مستوى حرف المحيط، تبدأ بالتحرك ببطء نحو الخارج في كلا الاتجاهين، وهو ما يطلق عليه اسم ”انفصال قاع البحر“.

ثالثًا: تتشكل منطقة اندساس على حافة المحيط.

رابعًا: تقترب القارتان على كلا جانبي المحيط من بعضهما البعض.

في النهاية، تصطدم القارتان ببعضهما البعض وتقومان بغلق المحيط نهائيًا، وهو ما يتشكل عنه غالبا سلسلة جبلية ضخمة.

قبل مليار سنة من الآن، كانت القارات بشكل عام عند نهاية هذه الدورة، وكانت في خضم الاتصال ببعضها البعض لتشكل كتلة أرضية ضخمة أطلق عليها اسم (رودينيا). وفي خضم عملية تلاحم القارات ببعضها البعض، انفصلت قارة كان يطلق عليها اسم (آمازونيا) —التي تشكل اليوم البرازيل— عن قارة (لورينسيا) –التي تشكل أمريكا الشمالية اليوم–.

قارة (لورينسيا)، التي تشكل أمريكا الشمالية اليوم.
قارة (لورينسيا)، التي تشكل أمريكا الشمالية اليوم.

حدث هذا الانفصال عند حدود صدع منتصف القارة بالتحديد، لذا يعتقد خبراء الجيولوجيا أنه سيكون مفتاحهم نحو فهم السبب الذي كاد يجعل (لورينسيا) تنقسم إلى نصفين.

المفهوم السائد حاليا هو أنه بانفصال (أمازونيا) عن (لورينسيا)، قامت بجذب هذه الأخيرة ومدّها على أحد الجانبين، وهذا ما يطلق عليه اسم ”التصدع السلبي“ الذي يحدث عندما تقوم قوة جانبية بسحب قارة إلى أحد الجانبين أو كليهما.

يتسبب هذا في جعل قشرة الأرض رقيقة ويجعل المواد الحارة من باطن الأرض تطفو إلى السطح، فتتحطم الصخور التي تتواجد بالقرب من سطح الأرض، وتتمدد الصخور الباطنية.

من خلال ملاحظة الصدوع المعاصرة على شاكلة صدع شرق إفريقيا، فهم علماء الجيولوجيا أن هذا لا يحدث عادة بشكل نظيف وأنيق: بدلا من الانفصال إلى قارتين اثنتين، غالبا ما تنقسم الصفيحة التكتونية إلى أقسام صغيرة أشبه بشظايا، وهي الصفائح التي يطلق عليها اسم ”الصفائح الصغرى“.

بالعودة إلى صدع أمريكا الشمالية، نجد أن عماديه الإثنين يشكلان حدود الصفيحة التكتونية الصغرى لولاية (إيلينوي)، والتي كانت متصلة بشكل مباشر بالانفصال الكبير لـ(لورينسيا) و(آمازونيا).

غير أن هذا لا يشرح بالشرح الوافي الكمية الهائلة لبازلت الفيضانات في المنطقة، والتي يعتقد أنها بقايا صدع نشيط، التي تحدث عندما ترتفع أعمدة الحمم البركانية من قشرة الأرض فترفع درجة حرارة القشرة فوقها وتذيبها، يجعل هذا الأمر من القشرة رقيقة فترتفع هي الأخرى، مما يجعلها ضعيفة فتنكسر.

في هذه الحالة، يقترح الخبراء أن عمود الحمم البركانية كان في المكان المناسب وفي الوقت المناسب. لذا بتمدد الصفيحة التكتونية، جاءت الحمم البركانية لتملء التشققات من الأسفل، واستمر الأمر على ذلك المنوال حتى بعد توقف التمدد.

يعني هذا أنه قبل مليار سنة من الآن، إذا كنت واقفا في ما يعرف اليوم بـ(مينيابوليس) أو (ديترويت)، لن تتعرف على المنطقة إطلاقًا، حيث كانت البراكين تمتد عبر القارة، وكانت الحمم البركانية تثور والماغما تتطاير عبر الأرجاء، ثم بردت لتتحول إلى صخور البازلت، وهو شبيه بما نلاحظه اليوم في هاواي أو الصدع الإفريقي الشرقي.

ولم يحدث هذا الأمر في سنة مضطربة واحدة، بل استمر حدوثه على مدى 15 مليون سنة، إلى أن توقف في النهاية لسبب يبقى مجهولاً.

لو تبحث بسرعة في محرك غوغل عن سبب توقف هذه الظاهرة، ستجد أن أكثر الإجابات تشير إلى الاصطدام بكتلة أرضية أخرى يرجح الخبراء أنها قارة (لورينسيا)، ومنه اتصلت القارتان ببعضهما البعض مجدداً.

ولابد أن هذا ما حدث بالفعل، وهو يعرف باسم ”تكون جبال غرينفيل“، وقد كان الأمر جزءًا من تشكل (رودينيا).

يوجد حتى خط من الصخور المتشكلة بسبب هذه الظاهرة، والذي يطلق عليه اسم ”جبهة غرينفيل“ وهي سلسلة من الصخور تمتد عبر أونتاريو و(كيبيك)، كما تتطابق مع بعض التشكيلات الصخرية في إسكتلندا باعتبار أن المحيط الأطلسي تشكل بعد مدة طويلة من هذه الظواهر.

تتقاطع ”جبهة غرينفيل“ في الواقع مع صدع وسط القارة في ولاية (ميتشيغان) أيضًا، غير أنه في السنوات العشر الأخيرة، أدرك علماء الجيولوجيا أن هذه القصة غير صحيحة تمامًا.

بعد إعادة وضع خرائط عن المنطقة، أدرك العلماء أنهم أساؤوا فهم وترجمة بعض الصخور، حيث صاروا الآن يعتقدون بأن ”جبهة غرينفيل“ تشكلت على الأرجح بعد توقف صدع منتصف القارة عن التمدد، وفهموا بأن كل ذلك الضغط حدث في وقت لاحق.

والآن، تقترح بعض الفرضيات الحديثة أنه عندما انفصلت (أمازونيا) في نهاية المطاف عن (لورينسيا)، وبدأ محيط جديد بالتكون بينهما، زال كل ذلك الضغط عن (لورينسيا)، وانتهى بذلك تشكل الصدع.

مازلنا لا نعلم بالتحديد سبب حدوث ذلك، غير أننا نعلم أنه حدث في مكان آخر، فقبل 130 مليون سنة من الآن، قطع نظام الصدوع في إفريقيا الغربية القارة من الشمال إلى الجنوب إلى قسمين، وفصل بين إفريقيا وأمريكا الجنوبية الآن.

عدا أنه عندما بدأ قاع المحيط بالتمدد في المحيط الأطلسي، توقف التصدع في إفريقيا الوسطى، وبقيت القارة كاملة إلى يومنا هذا.

بالعودة إلى صدع منتصف قارة أمريكا الشمالية، يتابع تفسير العلماء والخبراء أنه بعد توقفه عن التكوّن، واصلت الأرض التغيّر والتحول. بعد أن توقفت البراكين عن الثوران، وقامت الأنهار تدريجيا بحت الصخور البازلتية جاعلة إياها صخورًا رسوبية قامت بإخفاء البازلت وراءها، ثم بعد وقت معتبر وجدت المنطقة نفسها تحت ضغط هائل، ودُفع بها إلى الأعلى، فقامت الأنهار الجليدية بحت الصخور الرسوبية من على فوق الصخور البركانية، ونحتت ما يعرف الآن باسم بحيرة Superior.

مقالات إعلانية