in

دخلك بتعرف قصة «الأسطول الأصفر» الذي قبع في مياه قناة السويس لمدة 8 سنوات كاملة

عندما تسببت الحرب المصرية الإسرائيلية في احتجاز أسطول من 15 سفينة بطواقمها من دول مختلفة في قناة السويس.

لطالما كانت هناك عداوة ضارية وضاربة في قدم التاريخ بين العرب واليهود، والتي زاد من تذكيتها صعود الحركة الصهيونية للسلطة وتنامي القومية العربية والولاء للوحدة العربية بحلول نهاية القرن التاسع عشر، ومنذ ذلك الحين والعرب واليهود في صراعات دامية لامتناهية تستمر إلى يومنا هذا.

غير أنه من رحم كل تلك الأمور الشنيعة والفظيعة التي سببتها الحرب في الشرق الأوسط، خرج واحد من أفضل الأمور والمبادرات إلى العالم، وهي قصة ما عُرف بـ«الأسطول الأصفر» التي سنتاولها في مقالنا هذا بالتفصيل، تابعوا معنا القراءة..

في سنة 1967، توترت العلاقات المصرية الإسرائيلية بشكل سيئ بسبب غلق القاهرة لمضائق (تيران) التي تحيط بشبه جزيرة سيناء في وجه السفن الإسرائيلية، وردت إسرائيل على هذه الخطوة بشن حرب كبيرة احتلت خلالها شبه جزيرة سيناء مما اضطر القوات المصرية للإنسحاب ناحية الغرب. وبانسحابها للمناطق الغربية؛ قامت الجيوش المصرية بغلق قناة السويس وسدّها خلفها لمنع قوات العدو من استغلالها.

سفن مدمَّرة تسد مدخل قناة السويس في بور سعيد خلال حرب الستة أيام التي نشبت بين مصر وإسرائيل.
سفن مدمَّرة تسد مدخل قناة السويس في بور سعيد خلال حرب الستة أيام التي نشبت بين مصر وإسرائيل.

في تلك الصائفة، كان أسطول بحري يتكون من خسمة عشر سفينة —أربع سفن بريطانية، وسفينتان أمريكيتان، وسفينتان سويديتان، وسفينتيان بولنديتان، وسفينتان تابعتان لألمانيا الغربية، وسفينة فرنسية، وسفينة بلغارية، وسفينة تشيكوسلوفاكية— في اتجاهه ناحية الجنوب عبر قناة السويس التي يبلغ طولها 193 كيلومترا، عندما اندلعت تلك الحرب.

أمر الرئيس المصري آنذاك جمال عبد الناصر بغلق قناة السويس، وخلال ساعات من صدور أوامر الرئيس، قامت القوات المصرية بسحب سفن قديمة إلى كلا مدخلي القناة وقامت بإغراقها عمدا من أجل جعل الدخول أو الخروج من القناة أمرا مستحيلا.

شردت السفينة الأمريكية التي حملت اسم SS Observer بعيداً عن القافلة ومكثت في «بحيرة التمساح»، بينما تحركت بقية السفن إلى أوسع نقطة من قناة السويس التي عرفت باسم «البحيرات المرة»، وهناك رست منتظرة ما يخبئه لها المستقبل.

بينما كانت الحرب التي تسببت في سدّ قناة السويس قصيرة لم تدم سوى ستة أيام وعرفت باسم «حرب الستة أيام»، فإن القناة بقيت مسدودة ومغلقة في وجه السفن لمدة ثمانية سنوات كاملة، مما تسبب في حبس السفن الخمسة عشر وطواقمها داخل القناة.

قال القبطان (ميروسلاف بروسكورنيكي) قائد السفينة البولندية (جاكارتا): ”لقد كنا داخل سجن مريح جدا“، واستطرد: ”لقد كان الشهر الأول أشبه بعطلة، غير أن الشهر الثاني كان صعبا جدا، وبحلول الشهر الثالث؛ أصبحت الأمور مريعة“. خلال الشهر الخامس، اجتمع طواقم السفن الخمسة عشر ورؤساؤها وأسسوا «جمعية البحيرات المرّة»، ومن أجل جعل الوقت يمضي بأقل قدر من الملل، قام هؤلاء بتنظيم أحداث ونشاطات اجتماعية، على غرار ألعاب الورق، وحفلات الشواء على أسطح السفن، وليالي سينمائية، ودورات مسابقة في رياضة كرة القدم، وألعاب التزلج المائية.

بحارة على متن إحدى سفن «الأسطول الأصفر» يمارسون الرياضة.
بحارة على متن إحدى سفن «الأسطول الأصفر» يمارسون الرياضة.
فريق لكرة القدم على متن إحدى سفن «الأسطول الأصفر».
فريق لكرة القدم على متن إحدى سفن «الأسطول الأصفر».

تم تجهيز قوارب النجاة على متن السفن بمعدات الإبحار وتم على إثر ذلك تأسيس نادي اليخوت، وكانت مباريات كرة القدم تلعب على أكبر السفن مساحة وهي MS Port Invercargill، بينما تم تقديم الخدمات الكنائسية على سفينة Nordwind التابعة لألمانيا الغربية، وكان يتم عرض الأفلام على سفينة (فاسيل ليفسكي) البلغارية، وكانت السفينة السويدية (كيلارا) تحتوي على مسبح يستجمم فيه البحارة.

يخوت معدة من خلال التعديل على قوارب النجاة على متن السفن، ومنه تأسس ”نادي اليخوت“ لجمعية ”البحيرات المرة“
يخوت معدة من خلال التعديل على قوارب النجاة على متن السفن، ومنه تأسس «نادي اليخوت» لجمعية «البحيرات المرة»

بعد مضي أكثر من عام على احتجازه في قناة السويس، نظم هذا الأسطول ”الأصفر“ «ألعاب البحيرات المرّة الأولمبية»، التي تزامنت مع انطلاق الألعاب الأولمبية الصيفية في سنة 1968 في مدينة (ميكسيكو). تنافس الطواقم من مختلف السفن الخمسة عشر التي كانت تنتمي لثمانية دول مختلفة في 14 مسابقة رياضية، بما فيها الإبحار، والغطس، والعدو السريع، والقفز الطويل، والرماية، ولعبة (بولو) المائية، وفاز البولنديون في تلك الألعاب ”الأولمبية“، وجاء الألمان في المرتبة الثانية، واحتل الإنجليزيون المرتبة الثالثة.

بحارة يلعبون كرة القدم على سطح السفينة.
بحارة يلعبون كرة القدم على سطح السفينة.

قام أفراد هذه الطواقم حتى باعتماد نظام بريدي خاص بهم مع طوابع بريدية مصنوعة يدويا كانت تقول: ”البحيرات المرّة“. بالطبع لم تكن تلك الطوابع حقيقية ولم تكن لها أية صلاحية بريدية، ومن أجل ضمان وصول رسائل البحارة وأفراد طواقم الأسطول الأصفر إلى وجهاتها، كانت توضع عليها طوابع بريدية حقيقية إلى جانب طوابع السفن اليدوية المبتدعة، لكن قيل أن بعضاً من تلك الأظرفة البريدية التي أُرسلت من هذه السفن وصلت إلى الجهات المرسل إليها مع طوابع السفن المبتدعة وحدها.

ظرف بريدي عليه ختم ”البحيرات المرّة“
ظرف بريدي عليه ختم «البحيرات المرّة»
ظرف بريدي عليه طابع ”البحريات المرّة“ البريدي إلى جانب طوابع مصرية حقيقية، لأن الأول لا يملك أية صلاحية بريدية.
ظرف بريدي عليه طابع «البحريات المرّة» البريدي إلى جانب طوابع مصرية حقيقية، لأن الأول لا يملك أية صلاحية بريدية.

لحسن الحظ، لم يدم احتجاز طواقم سفن الأسطول الأصفر في قناة السويس طوال مدة احتجاز السفن نفسها التي دامت ثمانية سنوات كاملة، حيث كان يسمح للبحارة بالعودة إلى أوطانهم ومنازلهم، وكان يتم تعويضهم بفرق أخرى لتعويضهم في إدارة شؤون السفن، وكان هذا الأمر ضروريا من أجل الحفاظ على النظام عليها، حيث كانت هناك الكثير من أعمال الصيانة الضرورية، والتي تنوعت من تنظيف وتصليح ونقل للوقود، ومناورات الوقاية ضد الحرائق وما إلى ذلك.

بسبب الحرارة المرتفعة للمناخ السائد في قناة السويس الذي علقت فيه السفن، تم تقليص ساعات العمل على متن السفن من ثمانية ساعات إلى مجرد ستة ساعات في أيام الأسبوع الاعتيادية، وأربعة ساعات في أيام السبت، وجُعل يوم الأحد عطلة، مما ترك الوقت الكافي للبحارة ليطالعوا الكتب، ويلعبوا ألعاب الورق، ويحتسوا البيرة.

كان طواقم هذه السفن يستبدلون كل ثلاثة إلى أربعة أشهر، وخلال السنوات الثمانية كلها خدم على متن السفن المحتجزة في قناة السويس مجتمعة 30 ألف رجل، بالنسبة للبعض، مثّلت تلك الفترة تجربة من أكثر التجارب التي نقشت آثارها في ذاكراتهم إلى الأبد.

من صور البحّارة على متن سفن ”الأسطول الأصفر“، نرى من هذه الصورة أنهم كانوا يستمتعون بالاستجمام في مياه قناة السويس المالحة على متن أحد قوارب النجاة بعيدا عن السفينة.
من صور البحّارة على متن سفن «الأسطول الأصفر»، نرى من هذه الصورة أنهم كانوا يستمتعون بالاستجمام في مياه قناة السويس المالحة على متن أحد قوارب النجاة بعيدا عن السفينة.

كتب الكاتب البريطاني (كاث سينكر) لصحيفة (إكسبريس): ”لكن ما كان ملهما ومثيرا للاهتمام هو المجتمع القوي الذي أنشأه هؤلاء البحارة، حتى على الرغم من أنهم كانوا ينحدرون من دول معادية لبعضها خلال حقبة الحرب الباردة“.

تم فتح القناة أخيرا في سنة 1975، لكن لم تتمكن سوى سفينتان اثنتان من مغادرتها بقوة محركاتها، وهما السفينتان الألمانيتان (مونسترلاند) و(نوردويند)، وتم استقبالهما من طرف 30 مواطنا تجمهر للاحتفال بعودتهما في (هامبرغ).

بعد ثمانية سنوات من العزلة والجثوم في مكان واحد، أصبحت بقية السفن، التي عاثت فيها رمال الصحراء والمناخ الحار للمنطقة مما أكسبها لقب ”الأسطول الأصفر“، في حالة متدهورة جعلت الدول التي تعود لها ملكيتها تعزف عن إنقاذها، حيث تم إغراق واحدة من السفن الأمريكية وهي الـSS African Glen بواسطة صاروخ إسرائيلي في سنة 1973، واعتبرت بريطانيا سفنها الأربعة خسارة لا يمكن إنقاذها، وقامت النرويج بشراء السفينة السويدية (نيبون).

مقالات إعلانية