in

سيتعين على مدينة (نيوم) التكنولوجية المثالية في السعودية إعادة هيكلة القوانين من أجل ضمان نجاحها

مدينة نيوم التكنولوجية السعودية

يحلم بعض مقاولو مجال التكنولوجيا في (وادي السيليكون) Sillicon Valley بالبحر على أنه مكان من شأنه أن يمثل حجر الأساس في سبيل إنشاء بلدان ودول المستقبل، متجاوزا بذلك حدود الحكومات الحالية وما ترى فيه على أنه تجديد، ومتجاوزا القوانين والتشريعات الخانقة التي تمارسها.

في الشرق الأوسط، ومثقلين بعبئ أنظمة حاكمة بعيدة كل البعد على أن تكون صديقة للمستقبل، وتحت طائل التهديدات المستمرة التي مصدرها المتشددون المتدينون الذين قد يجرون بهم إلى أعماق سحيقة أسفل في صفحات الماضي، يحلم المقاولون التكنولوجيون هناك بالصحراء على أنها تلك المساحات الواسعة المفتوحة والفارغة التي بالإمكان إنشاء وبناء مستقبل جديد فيها.

يدعو شريط فيديو إعلاني لهذه المدينة المشاهد أن يتخيل مدينة تستمد حاجياتها من الطاقة الشمسية بنسبة مائة في المائة، وبنظام نقل آلي تماما، وبمزارع تعتمد على نظام الزراعة المائية، وبالذكاء الاصطناعي، وبصناعة جد متطورة.

وفوق كل هذا، لا توجد حدود للتفكير، ولا قيود على الفكر، لا قواعد تحكم الكيفية التي يجب على النساء أن يرتدين ثيابهن بها، أو الأمكنة التي يتعين عليهن العمل فيها، فهي مدينة مفتوحة من أجل جميع الأعراق والأديان، إنها ”حضارة جديدة كليا“.

إنه تصور بعيد كل البعد عن الصورة التي ترسمها منظمة العفو الدولية على القمع والتعسف فيما يتعلق بحقوق الانسان، والتعذيب الذي ارتفعت نسبته ارتفاعا خطيرا في اليمن الذي مثل مسرحا للعديد من الصراعات والمعارك السياسية بين إيران والمملكة العربية السعودية.

هنالك سبب جيد لأن تنظر إلى الموضوع عزيزي القارئ بنظرة تشكيك، لكن ذلك لا يمنع من أن تنظر إليه بنظرة أمل كذلك، ولو كان لا يتعدى مجرد البصيص، فقد تبرز الرؤيا المستقبلية السعودية هذه في سنة 2030 اعترافا بالعديد من الحقائق والوقائع المهمة للغاية.

أولا، وبدون اقتصاد متنوع وحيوي، من الصعب على أي مجتمع بشري أن يوافي شروط طموحات الحياة البشرية المتعلقة بالكرامة، والمساواة، والعدل، فالبلدان الفقيرة هي الأكثر احتمالا بأن تهضم فيها حقوق الإنسان.

ثانيا، يستحيل على القوانين والممارسات التشريعية التي تثبط التجارب العلمية والتجديد في أي مجتمع كان أن تبني مستقبلا يعتمد على التجديد والتكيف مع المستجدات، حيث تنمو المجتمعات المستقرة اقتصاديا وتتطور على التربة الخصبة للتنوع، والإبداع، والتفتح.

اكتشف نيوم
شعار ترويجي لمدينة (نيوم)

إن المحيط القانوني وكذا التشريعي للمملكة العربية السعودية الحالي مبني على نظام اقتصادي أكل عليه الدهر وشرب، وعلى عالم اجتماعي تركته معظم مجتمعات كوكب الأرض خلفها في طي النسيان.

يجب أن يكون حلم (نيوم) من أجل جسر يؤدي إلى العالم القانوني الذي من شأنه دعم وضمان حياة أفضل لجميع المواطنين السعوديين، كما أن موضوع دراسة يتناول الكيفية التي بإمكان البنية التحتية التشريعية والقانوينة -المدفوعة قدما بالتكنولوجيا الحديثة- أن تكون من خلالها العمود الفقري لمجتمع أكثر عدلا ورخاء، يجب أن يؤخذ بجدية كبيرة.

إن هذه المشكلة لا تختص ولا تنفرد بها السعودية لوحدها، حيث أن جميع البلدان فقيرة كانت أو غنية تواجه اليوم تحدي الشرخ الكبير الذي يفرّق بين البنى القاعدية القانونية فيها ووتيرة التغيير الذي تجلبه العولمة الحديثة عليها، والرقمنة، وكذا تكنولوجيات المستقبل.

جميعنا يشعر بقيود الحدود الدولية وأنظمتها القانونية التي ما تنفك تتسع الهوة بينها، وهذا هو السبب الذي يدفعنا للاعتقاد بأنه يوجد أمل لمدينة (نيوم)، فإن كان المخططون لها باستطاعتهم نقل رؤياهم هذه إلى مستوى آخر، وتحقيق حلم مدينة من شأنها بناء قواعدها وقوانينها التشريعية الخاصة بها، وإن كانت المدينة نفسها تتصرف كمنطلق يدفع الكثير من نظيراتها إلى البروز، والمنافسة فيما بينها بعرض أفضل قوانين العالم ليعيش عليها الناس من حول العالم.

قد تكون العربية السعودية قد تبنت هذه الفكرة واستوحتها من جارتها (دبي)، حيث ينافس (المركز المالي الدولي في دبي) Dubai International Financial Centre على المستعملين من خلال الطريقة السابق ذكرها -سيتم الإشارة إلى هذا المركز لاحقا في المقال باختصار DIFC.

يعتبر الـDIFC منطقة اقتصادية وقانونية خاصة تأسست في سنة 2004، فهو لا يمنح فقط تخفيضات في دفع الضرائب ورسوم الجمركة على الشركات المسجلة، بل أنه يحوز على نظامه التشريعي والقانوني الخاص به، حيث يتضمن الـDIFC قوانين مدنية وتجارية واقتصادية، وكذا محاكم خاصة باللغة الإنجليزية، مبنية ومؤسسة على قوانين انجليزية ويديرها قضاة متمرسون في هذا النظام.

إذا كنت تعمل أو تعيش أو تزور الأماكن التي تقع ضمن نطاق الـDIFC في مدينة (دبي) أو على بعد شارعين عن مبنى ذات المركز، أو إن كنت قد أمضيت عقدا ضمن نظامه، فأنت هنا تخضع لقوانين الـDIFC فقط، حيث يبقى قانون الجريمة فقط ساري المفعول في نطاقه في مدينة دبي.

إن هذا مثال جيد على الطريقة التي يشجع بها منح بدايات جديدة لأنظمة المحاكم والأنظمة التشريعية على الكفاءة، والشفافية، والفعالية التي يحتاج إليها المجتمع من أجل تنمية النظام الاقتصادي والمالي فيه.

تصنّف الإمارات العربية المتحدة في المرتبة العاشرة عالميا بين المحاور والأقطاب المالية العالمية، وبالتالي فتجديد تشريعي وقانوني من هذا النوع الذي تبنته قد يعود بنفس الفائدة على المملكة العربية السعودية ورؤياها في مدينة (نيوم).

مع ترخيص لتجديد وعصرنة الطريقة التي تسن بها القوانين، وبالتحرر من المثل العليا وكذا القواعد التقليدية، قد تظهر أفكار جديدة لطرائق أفضل في التصرف والتعامل في القرن الواحد والعشرين، في دبي على سبيل المثال، يعمل الخبراء حاليا على تصميم (محاكم المستقبل) من أجل موافاة مطالب التحديات الجديدة التي أملتها التجارة الإلكترونية، والذكاء الاصطناعي، وعلم الروبوتيات على مستوى عالمي، حيث تطمح الحكومة بتوفير قضاء رقمي متاح لأي كان، والذي يطبق عندما يقتضيه الأمر على أنظمة موزعة مثل البلوكتشاين.

تتضمن تجديدات أخرى ناشئة عن معاملات تصاميم قضائية متحررة خططا لشيفرة القواعد داخل نظام “بلوكتشاين”، وتطوير قضاة ذكاء اصطناعي قادرين على حل القضايا وتحليل القرارات وشرحها.

أبراج الإمارات جميرة في دبي
أبراج الإمارات جميرا في دبي. صورة Bengin Ahmad/Flickr

تعتبر هذه المبادرات المبدعة جزءا من استجابة كبيرة تجاه الأنظمة القضائية المتأخرة عن متطلبات العصر، والتكاليف، وكذا المشاكل التي تأتي معها.

يذكر بضع وسبعون بالمائة من صناع القرار في العالم أن التعقيد التشريعي المتزايد والآخذ في النمو يمثل التحدي الأكبر بالنسبة إليهم في خضم هذا الاقتصاد المعاصر.

لكن، وعلى نفس قدر الأهمية، نجد ما قد يقدمه نظام قضائي متجدد لأولئك الذين يملكون ولوجا محدودا للقضاء والمحاكم -وهي الظروف التي يعيش ضمنها ما يقارب الأربعة مليارات شخص حول العالم.

يعرض (المركز المالي الدولي في دبي) الـDIFC مجموعة (محاكم المطالب الصغرى) معقدة الكترونيا، التي بإمكانها معالجة قضايا تصل حتى الـ150 ألف دولار (أو أكثر إن اتفق الطرفان)، كما أن لديها القابلية على حل تسعين بالمائة من النزاعات في خلال أربعة أسابيع، سواء كان ذلك بالوساطة أو من خلال قرار مكتوب ومنشور، وتلك هي مؤسسة مهمة للغاية، خاصة بالنسبة للموظَفين الذين يقاضون الموظِفين بغية تطبيق حقوق التوظيف والموظفين.

في الجهة المقابلة، تحدّ محاكم الطلبات الصغرى في ولاية (كاليفورنيا) بالولايات المتحدة الأمريكية القضايا الفردية إلى عشرة آلاف دولار، كما يتعين على القضاة الذين تكتظ عليهم الأعمال معالجة ما قدره خمسون دعوى قضائية في اليوم الواحد، ممضين بالكاد دقائق معدودة على كل قضية على حدى.

من المهم جدا كذلك عدم التضخيم من حجم النجاح؛ تعاني كذلك إمارة دبي مع الجانب المظلم للمجتمع البشري، من العديد من المشاكل بصفة خاصة فيما يتعلق بحماية حقوق العمال والموظفين المهاجرين والأجانب، إلا أن الأمر يحرز تطورا وتقدما لا يمكن تجاهلهما، كما أنه توجد هناك الكثير من الأدلة على أن التجديد داخل منطقة قانونية مستقلة بإمكانه أن يعود بفوائد جمة على باقي البلاد: اتبعت المحاكم الوطنية في دبي واتخذت خطى الـDIFC من خلال السماح للنساء بشغر مناصب القضاة، كما أدخلوا محاكم الطلبات الصغرى، مما جعلها تحقق قفزة نوعية في الترتيب العالمي بالنسبة للفعالية في تطبيق العقود من المرتبة الخامسة والعشرين سنة 2016 إلى المرتبة الثانية عشر في سنة 2017.

من الجدير الذكر كذلك بأنه لا توجد أية ضمانات على أن المناطق الحرة قانونيا واقتصاديا ستلتزم بالوفاء بوعودها، وذلك ما يدعو لضرورة توخي الحذر عندما يتعلق الأمر بتجارب من هذا النوع.

كان الخبير الاقتصادي (بول رومر) واحدا من الرواد الذين روجوا لفكرة هذه المدن ذات الامتيازات كطريقة للدفع بعجلة التنمية نحو الأمام، من خلال إنشاء قوانين جديدة على صفحة بيضاء.

تم تبني هذا التصور بشكل حماسي للغاية من طرف حكومة الـ(هندوراس) قبل بضعة سنوات، لكن (رومر) تخلى عن فكرة مشروعه فيها بعد أن تحولت فكرته الجوهرية حول مدينة تملؤها الشفافية، ومستقلة إلى مدينة فاسدة بسبب جشع السياسيين واهتماماتهم التجارية الفاسدة فيها، وبدا جليا أن المدينة يستحيل أن ترقى لأن تستوفي القاعدة الأساسية والمحورية القائمة على ضمان حرية تنقل مواطنيها من وإلى داخل منطقتها.

إنه درس مهم: تواجه النخبة من ذوي النفوذ عقبة كبيرة ومعركة حقيقية في الالتزام بتحقيق نظام قانوني مستقل يلبي احتياجات مستعمليه، كما أن الهدف من أجل جذب الشركات والمستثمرين إلى المنطقة لا يمكن شراؤه على حساب حقوق المواطنين في الحصول على أماكن صحية وآمنة وعادلة للعيش فيها.

لكن إن أثبتت (نيوم) همتها التنافسية ونجحت في جذب المقيمين من خلال الوفاء بوعودها بضمان قواعد وقوانين أفضل للعيش والعمل وفقا لها، فإن هذا الأمر بإمكانه أن يلعب دورا فعالا في الدفع بالبلد كله نحو الأمام بين مصاف البلدان التي تتميز بالمساواة بين الجنسين، والعدالة المفتوحة، وقانون تجاري فعال.

إن رؤيا المملكة العربية السعودية الطموحة تجاه (نيوم) تتركز في إنشاء ذلك النوع من الأماكن الذي قد يختار الناس العيش فيه، ولا يفرض عليهم العيش فيه مرغمين، في عالم نأمل فيه ونحلم جميعا بإعادة صياغة القواعد، يجب علينا أن نأمل بنجاح هذه التجربة العربية السعودية.

مقالات إعلانية