الحرب خدعة، تتجلى الخدع العسكرية في فن تضليل العدو خلال زمن الحرب، سواء عبر حملات الحرب الإعلامية، أو تزويده بمعلومات مغلوطة، أو بالخوض في حرب نفسية، وكانت كل هذه الحيل تهدف إلى جعل العدو يتصرف بناء على معلومات خاطئة.
يجعل هذا الخصم يفعل ما لا يجب عليه فعله، أو يمتنع عن فعل ما يجب عليه فعله، أو أن يتصرف بطريقة جد خاطئة قد يستغلها الجانب الآخر الذي يحيك الخدع العسكرية.
لطالما استفاد قادة الحرب، منذ فجر التاريخ المسجل من بلاد سومر القديمة في الألف الثالث قبل الميلاد إلى غاية الزمن الحاضر، من خدع عسكرية من هذا القبيل. يعطي كتاب «فن الحرب» من تأليف الجنرال (سان تزو) الأولوية للخدع العسكرية، ويضعها عاليا في لائحة الفنون التي يجب على قائد الجيش اتقانها.
سواء كان ذلك من خلال تصرف غير متوقع، أو من خلال مناورات مربكة، أو حرمان الخصم أدنى المعلومات، أو التضليل، أو إعطاء معلومات مغلوطة، أو التغلغل داخل ذهنية القائد العدو والتلاعب بحالته النفسية، أو من خلال التمويه، والتخفي، واستعمال الدمى والطعوم، فإن القدرة على خداع العدو لطالما مثلت الفارق بين الهزيمة والنصر في الحرب، والفارق الكبير بين الحياة والموت.
في مقالنا هذا على موقعنا «دخلك بتعرف»، جمعنا لكم أعزاءنا القرّاء أكثر الخدع العسكرية إثارة للاهتمام في التاريخ، حيث كانت الهزيمة أو النصر وقفاً على القدرة على تضليل وخداع العدو.
1. حرب أكتوبر في سنة 1973 بين العرب وإسرائيل:
نستهل قائمتنا هذه بالهجوم المفاجئ الذي قادته القوات العربية المتحالفة ضد المواقع الإسرائيلية في شبه جزيرة سيناء. تسببت هذه الخدعة العسكرية في اندلاع حرب أكتوبر بين إسرائيل وتحالف القوات العربية من مصر وسوريا وغيرها. لجأت مصر إلى الخدعة التي نجحت من ورائها في تضليل الإسرائيليين فيما يتعلق بتوقيت الهجوم المقرر، ومنه باغتوهم وهم على غفلة من أمرهم وألحقوا بهم هزائم نكراء.
كانت إسرائيل قد سيطرت على شبه جزيرة سيناء في مصر في حرب الستة أيام التي اندلعت في سنة 1967، وخلال السنوات التي تلتها، وصل الطرفان إلى طريق مسدود. كانت القوات المصرية والإسرائيلية تحدق في بعضها البعض على كلا ضفتي قناة السويس الضيقة، ونشبت بينهما مناوشات واشتباكات عسكرية بين الفينة والأخرى على مر سنوات، تضمنت تبادل القذائف، وغارات فرق الكوماندو، والغارات الجوية، وفي تلك الأثناء، كانت مصر —التي كان شغلها الشاغل استرجاع أراضيها التي خسرتها في انتكاسة حرب الستة أيام— تعيد بناء جيشها، وتدريبه وتجهيزه من أجل حرب قادمة وفاصلة سترد لها الاعتبار.
قبل موعد الهجوم بزمن طويل، بدأ الرئيس المصري أنور السادات يؤدي مناورات عسكرية كبيرة في جوار قناة السويس، وكان يهدف من ورائها إلى تعويد الإسرائيليين على التواجد العسكري الكبير المصري في المنطقة بالقرب من سيناء، لذا حين يأتي زمن الهجوم الفعلي، تنطلي عليهم الحيلة ويعتقدونه مجرد تدريب ومناورة أخرى في المنطقة.
لجهلهم التام بنوايا المصريين من وراء كل تلك العمليات، كان الإسرائيليون بحلول نصف سنة 1973 —من خلال عميل في الموساد متوغل بعمق في الحكومة المصرية— قد علموا بشأن مخطط مصر في الهجوم على منطقة سيناء، غير أن ما لم يكونوا على علم به هو زمن وقوع هذا الهجوم.
كانت معرفة زمن وقوع الهجوم مهمة جدا بالنسبة لإسرائيل، حيث أن تعداد سكانها كان قليلا مما جعل تعداد جيشها قليلا أيضاً، ولم تكن قادرة على تحمل تكاليف حشد مئات الآلالف من الجنود الاحتياطيين وتوزيعهم في نقاط مضادة للمواقع المصرية في المنطقة لأجلٍ مفتوح. بدل ذلك، كان النظام الإسرائيلي يتمحور حول فرض تواجد عسكري صغير نسبيا في المنطقة مع حشد سريع وكبير للقوات الاحتياطية المدنية في حالة الخطر، غير أن عمليات الحشد هذه لم تكن رخيصة ولا هيّنة، كما كان من المستحيل ترك الأعداد الهائلة من المدنيين المجندين الاحتياطيين في زيهم العسكري هناك لمدة طويلة بعيداً عن وظائفهم اليومية التي يقوم عليها اقتصاد البلد.
لعب المصريون على هذا الوتر بالضبط، وراحوا يخدعون الإسرائيليين على مدى أشهر قبل الهجوم الفعلي لحملهم على الاعتقاد بأن الهجوم كان حقيقيا في كل مرة، ليتبين لاحقا أنه كان مجرد تدريب لا أكثر، فجعلت هذه الحيلة الإسرائيليين يعلنون حالة طوارئ استعجالية مفاجئة ومكلفة جدا حشدوا على إثرها كل القوات الاحتياطية، فتبين للمرة الأولى أنه كان إنذارا خاطئا، مما جعلهم يترددون في إعلان حالة الطوارئ للمرات القادمة في الأشهر اللاحقة عندما بدأ الجانب المصري التحضير للهجوم الفعلي.
قبيل أسبوع من موعد الهجوم الفعلي، قاد المصريون مناورات عسكرية ثقيلة جدا بالقرب من قناة السويس، وخلالها جندوا القوات الاحتياطية في الجيش، غير أن الاستخبارات الإسرائيلية اعتبرت الأمر مجرد تمرين عسكري آخر، ومن أجل تضليل عدوهم أكثر فأكثر، قبل يومين من الهجوم، أعلن المصريون عن تسريح القوات الاحتياطية التي تم استدعاؤها للتمارين العسكرية.
نادت بعض الأصوات داخل جهاز الاستخبارات الإسرائيلي بأن هذه علامة تدل على هجوم فعلي، غير أنه تم تجاهلها، ومنه عندما شرع المصريون في هجومهم الفعلي عبر قناة السويس في السادس من أكتوبر 1973، وجدت القوات الإسرائيلية نفسها محاصرة فارتبكت لكونها أُخذت على حين غرة، وعانت من خسائر فادحة بينما تمت هزيمة مواقعها المتقدمة في سيناء بسهولة تامة، وأمّن المصريون لأنفسهم موطأ قدم ثابت في الجانب الشرقي من القناة.
على الرغم من أن إسرائيل انتصرت في نهاية المطاف في هذه الحرب، إثر إعادة استجماع قواها ومحاصرة القوات المصرية بعد أشهر لاحقة، فإن مباغتتها من طرف القوات المصرية كانت نتيجة مباشرة لخدعة عسكرية ظلت القوات المصرية تحيكها لمدة أشهر سابقة.
2. المراوغات التي سبقت إنزال النورماندي:
قبل إنزال الحلفاء جيوشهم في جبهة النورماندي، صمموا مخططا متعدد الأوجه من أجل تضليل النازيين وخداعهم فيما يتعلق بتوقيت وموقع غزوهم المتوقع لأوروبا في سنة 1944. كانت هذه المراوغات تهدف إلى إبقاء العدو على جهالة بزمن وموقع الإنزال والغزو الحقيقي، وإقناعه بأن ذلك سيحدث في (با دو كالي)، وحمله على الاقتناع بعدم ضرورة نقل جيوشه من (با دو كالي) إلى النورماندي حيث سيجري الإنزال الفعلي.
أراد الحلفاء تحقيق هذه الغاية من خلال إقناع العدو الألماني بأن إنزال النورماندي كان عبارة عن إنزال مموّه من أجل تضليله وجعله ينقل جيوشه التي تحرس (با دو كالي) إلى هناك ليفسح أمامهم المجال نحو غزوها [أي غزو (با دو كالي)].
كان من بين المكونات الرئيسية لمخطط المراوغة والخداع هذا هو عملية (فورتيتود ساوث)، التي خلقت «فوج الجيش الأمريكي الأول» المزيف وتموقعه في الجنوب الشرقي لإنجلترا في مواجهة (با دو كالي) على الضفة الأخرى للبحر تحت قيادة الجنرال (جورج باتون). تمكنت مخابرات الحلفاء من بيع هذه المعلومة المزيفة والمضللة للاستخبارات الألمانية التي تفيد بوجود جيش أمريكي يتحضر لغزو (با دو كالي)، ونفذت ذلك من خلال مراسلة راديو مزيفة هي الأخرى بين وحدات «فوج الجيش الأمريكي الأول» المزيف.
نجحت العملية كذلك عندما سمح الحلفاء عمداً لوحدات الاستطلاع الجوية الألمانية بالطيران فوق الموقع لتصوير الجيش الأمريكي بكل تجهيزاته التي كانت عبارة عن دمى منفوخة متنوعة بين دبابات ومدرعات وآليات وغير ذلك، وكذا من خلال إمداد المخابرات الألمانية بتقارير مزيفة ومفبركة عبر عملاء مزدوجين حول نوايا «فوج الجيش الأمريكي الأول» المزيف في غزو (با دو كالي).
خلقت عملية مراوغة أخرى أطلق عليها اسم (فورتيتود نورث) ما أطلق عليه اسم «الجيش البريطاني الرابع» المزيف هو الآخر في إسكتلندا، وأقنعت الألمان بأنه كان يخطط لغزو النرويج من أجل تضييق الخناق على الكتائب الألمانية المتواجدة هناك.
بعد يوم الإنزال الفعلي في النورماندي، تمكنت مخططات الحلفاء بنجاح من الإبقاء على الألمان في مواقعهم السابقة وعدم نقلهم كامل وحدات جيوشهم من (با دو كالي) من أجل خوض هجوم مضاد على جبهة النورماندي، فاقتنعوا بأن إنزال النورماندي لم يكن الحدث الرئيسي، بل حدثا أولا من مجموعة إنزالات ستليه نحو (با دو كالي) والنرويج.
تم تضليل القيادة العليا الألمانية وجعلها تعتقد بأن الهجوم كان فرعياً أو مضللاً، ومنه جعلوها تبقي على وحداتها الأكثر تعدادا وتجهيزا في مواقع الإنزال المحتملة التي سطرتها سابقا بناء على معلومات استخباراتية مغلوطة، بشكل أساسي في (با دو كالي) التي كانت تحت التهديد المزعوم لـ«فوج الجيش الأمريكي الأول» المزيف تحت قيادة الجنرال (باتون)، بدلا من إرسالها لتعزيز قوات الدفاع عن جبهة النورماندي.
نجحت الخدعة وفاق نجاحها آمال الحلفاء بأشواط، كان الحلفاء يأملون في إقناع الألمان بالبقاء في (با دو كالي) لمدة أسبوعين على الأكثر بعد إنزال النورماندي، بدلا من إرسال التعزيزات فوراً لدعم الجبهة، وبدلا من ذلك، انطلت الحيلة عليهم بنجاح لدرجة أنهم بقوا في مواقعهم السابقة لمدة سبعة أسابيع وليس أسبوعين فقط.
سمحت هذه النافذة الزمنية الطويلة للحلفاء بإعادة تنظيم صفوفهم واستجماع قواهم ومنحتهم الوقت الكافي لتعزيز تواجدهم العسكري في النورماندي ليس فقط للصمود أمام الهجومات المضادة الألمانية، بل للانتشار من النورماندي في شهر يوليو نحو فرنسا كلها بسرعة كبيرة، ومنه نجحوا في تحرير فرنسا بشكل كامل بحلول شهر سبتمبر، فوصلت جيوش الحلفاء الغازية إلى حدود ألمانيا حيث توقفت هناك بعد أن نفذ منها الوقود.
3. عملية (أورانوس): حملة لهجمات مضادة أحاطت بعدو الاتحاد السوفييتي في ستالينغراد بين 19 و30 نوفمبر 1942
في صائفة سنة 1942، أطلق الألمان هجمات عسكرية مكثفة على جنوب الاتحاد السوفييتي، مع «فوج الجيش-أ» الذي أوكلت له مهمة احتلال وتأمين حقول النفط السوفييتية المفتاحية في منطقة القوقاز. من أجل تأمين الحماية لهذا التقدم نحو القوقاز ضد الجيوش السوفييتية التي قد تهاجم قواعده الخلفية بواسطة عملية تقدم نحو الجنوب عبر مناطق السهوب وصولا إلى نهر الـ(فولغا)، أوعزت لـ«الجيش الألماني السادس» بالإضافة إلى وحدات من جيوش دول المحور مهمة غلق منطقة السهوب ناحية الشمال من خلال إنشاء خط دفاعي على طول أضيق امتداد لهذه السهوب، بين الانحناءات الكبيرة لنهري الـ(دون) والـ(فولغا) اللذان كانا يقتربان من بعضهما في هذه النقطة.
على النهاية الشرقية لخط الدفاع ذلك، على نهر الـ(فولغا) —الذي كان يعتبر شريان نقل مهم جدا، يربط بين جنوب روسيا ومنطقة القوقاز والشمال— كانت هناك مدينة (ستالينغراد).
بذلك يكون التقدم شمالا ناحية نهر الـ(فولغا) مجرد عملية دعم، التي كان الهدف منها هو ببساطة حماية القواعد الخلفية للجيوش الألمانية التي تزحف على منطقة القوقاز، غير أنه بتقدم الجيش الألماني شمالا ووصوله إلى مدينة (ستالينغراد) واجه مقاومة عنيفة صعّبت عليه احتلالها كثيراً، لقد كانت المدينة تتمتع برمزية كبيرة لأنها سميت تيمنا بالزعيم (ستالين)، وهو الأمر الذي حوّل المعركة من أجل الاستيلاء عليها من وسيلة لغاية أكبر إلى غاية في حد ذاتها، وذلك عندما أصبح (هتلر) نفسه مركزاً جدا على ضرورة احتلالها.
بحلول أواخر سنة 1942، بينما كان الألمان يقاتلون يائسين من أجل الانتصار على القوات السوفييتية المتموقعة للدفاع عن المدينة الذين كانوا هم الآخرون يقاتلون ببسالة من أجل الاحتفاظ بموطئ قدمهم في المدينة، طورت القيادة العليا السوفييتية مخططات لهجومات مضادة استراتيجية وطموحة هادفة لاستغلال تزايد اهتمام الألمان الأعمى بالحصول على المدينة واستخدامه لقلب الطاولة على رؤوسهم.
من أجل ذلك، وضعوا خطة خداعية يستهلون بها مخطط هجومهم المضاد، وهي عملية (أورانوس)، من 19 إلى 23 نوفمبر سنة 1942: انهزم الألمان في هذه الواقعة لأن تفكيرهم كان صغيراً بينما كان تفكير خصمهم السوفييتي كبيرا: كان الألمان يعتقدون بأنهم كانوا يخوضون حربا من أجل (ستالينغراد) كغاية في حد ذاتها، بينما كان السوفييت يعتبرون المعركة على (ستالينغراد) كوسيلة نحو غاية أهم وأكبر.
كان الهجوم المضاد السوفييتي الطموح يعتمد بشكل أساسي على بقاء اهتمام الألمان مركزا على القتال داخل (ستالينغراد)، وتمكنوا من خداعهم من خلال نقل التعزيزات الضرورية ببطء وفي مجموعات صغيرة عبر نهر الـ(فولغا) لدعم قوات الدفاع عن المدينة من أجل الإبقاء على المعركة قائمة لا غير، وذلك من أجل مواصلة تضليل الألمان.
كان الألمان، الذين كان جل اهتمامهم هو احتلال (ستالينغراد)، يتوقعون أن النصر داخل المدينة كان على مرمى حجر وفي متناول أيديهم، فقد تمكنوا بحلول ذلك الوقت من احتلال 90 في المائة من المدينة، ووصلوا إلى نهر الـ(فولغا) على نقاط متعددة، كما قسموا قوات الدفاع عن المدينة السوفييتية إلى نصفين، وكان كل ما يحتاجونه هنا والآن هو بعض الجنود فتصبح المدينة في متناولهم.
في تلك الأثناء، حشد الجيش السوفييتي قوات هجومية كبيرة سرّا في تشكيلات عسكرية ناحية شمال وجنوب مدينة (ستالينغراد)، ودخل في اشتباكات مع الجيوش الرومانية والهنغارية والإيطالية التي كانت تحرس أجنحة الجيش الألماني داخل (ستالينغراد). في التاسع عشر من نوفمبر، أطلق السوفييت عملية (أورانوس) مع هجمات سريعة وخاطفة ضد جيوش المحور الأقل خبرة وكفاءة التي كانت في مرافقة الجيش الألماني، وتمكنت من التغلب عليها بسرعة وسهولة، وخلال أربعة أيام فقط، التقت الجيوش السوفياتية المنقسمة على بعد حوالي 100 كيلومتر غرب مدينة (ستالينغراد)، منجزة بذلك عملية تطويق مزدوجة للمدينة احتجزت على إثرها «الجيش الألماني السادس» داخل المدينة.
فشلت كل المساعي الألمانية اليائسة في الوصول إلى الجيش السادس المحتجز داخل المدينة، كما فشلت المساعي في إمداده جواً بالمؤونة والذخيرة، وخلال شهرين من الزمن، أُجبر آخر الناجين من الجيش الألماني داخل المدينة، الذين كانوا يعانون من البرد والجوع ونقص الذخيرة، على الاستسلام فيما اعتُبر أول هزيمة كبيرة ومذلة يتعرض لها الجيش الألماني خلال الحرب العالمية الثانية.
4. سفن التمويه الـQ-ships:
خلال الحرب العالمية الأولى، وكجزء من مسعى حثيث يهدف إلى مواجهة تهديد غواصات الـU-Boat الألمانية، استعانت البحرية الملكية البريطانية بسفن مموهة بشكل خاص عرفت باسم الـQ-ships، التي كانت سفنا تجارية محملة بأسلحة ثقيلة جدا كانت مخفية على سطحها.
كان المراد منها استعمالها كطعم لاستدراج غواصات العدو حتى تقترب منها بالشكل الكافي، ثم كانت هذه السفن التي تبدو تجارية ومدنية تكشف عن مدافعها وتغرق الغواصات الألمانية بمجرد ما تطفو هذه الأخيرة على السطح لتنفيذ هجومها.
خلال السنوات الأولى للحرب، وقبل أن تعلن ألمانيا حرب غواصات بدون حظر في سنة 1917 وتبدأ بإغراق السفن بمجرد رصدها وبدون سابق إنذار، كان الإجراء المعياري المعمول به بالنسبة للغواصات الألمانية U-Boat هو أن تستوقف السفن المدنية، وتمنح طواقمها فرصة مغادرة السفينة على متن قوارب النجاة قبل أن تفتح النار عليها وتغرقها بواسطة طوربيدو، أو غالبا بواسطة قذائف من مدافعها الموجودة على سطحها، وذلك من أجل توفير المزيد من الطوربيدات التي كانت مكلفة جدا من أجل أهداف أكثر صعوبة كالسفن الحربية مثلاً.
كانت سفن الـQ-ships المموهة في الواقع سفن شحن وسفنا تجارية كانت تنقل أسلحة ثقيلة مخفية داخل هياكل قابلة للطي على سطحها، كانت هذه السفن تبحر على طول مسارات عرف عنها أنها تعج بالغواصات الألمانية على أمل جذب اهتمام واحدة منها وحملها على الهجوم عليها.
عندما يتم استيقاف السفينة الـQ-ships من طرف الغواصة الألمانية، كان جزء من طاقمها، الذي عرف باسم ”حفلة الذعر“، يتصرفون مثلما قد يتصرف البحارة العاديون، ويتظاهرون بالذعر من الظهور المفاجئ للغواصة الألمانية، ثم كانوا يسارعون إلى قوارب النجاة خاصتهم من أجل مغادرة السفينة.
بما أن استعمال الطوربيدات القوية والمكلفة من أجل إغراق أهداف سهلة تماما مثل سفينة تجارية قد يكون أمرا مبالغا فيه، كان ربابنة الغواصات الألمانية عادة يقتربون على مسافة قريبة جدا من السفينة الـQ-ship التي تبدو لهم مهجورة تماما من أجل إطلاق النار عليها من مدى قريب بواسطة المدافع الموجدة على سطح الغواصة.
بمجرد أن تقترب الغواصة بما فيه الكفاية، على المسافة المناسبة، يقوم رجال مختبئون على متن السفينة بإنزال الراية التجارية ويرفعون شارة البحرية الملكية البريطانية، بينما كان آخرون يفتحون الهياكل القابلة للطي كاشفين عن المدافع الثقيلة التي من فوهاتها يمطرون الغواصة الألمانية بوابل من القذائف ويغرقونها على فورها.
كانت سفن التمويه هذه قد لاقت نجاحا باهرا عندما اعتُمدت في بادئ الأمر، وخلال أشهر، تمكنت من تدمير وإغراق 11 غواصة ألمانية. غير أنه بتقدم عجلة الحرب، تعلمت الغواصات الألمانية الحيطة والحذر، وراحت تقترب من القوارب والسفن الصغيرة بجرعة صحية من الحذر، حتى لا تؤخذ على حين غرة من طرف سفن الـQ-ships.
عند أدنى مستويات الشكوك، كان يتم إطلاق الطوربيدات من الغواصة لإغراق السفينة المشكوك فيها من مسافة بعيدة وآمنة، وبعد أن اعتمد الألمان حرب الغواصات المفتوحة في سنة 1917 وبدأوا يغرقون السفن بدون سابق إنذار، لم تعد سفن الـQ-ships ذات نفع بعد ذلك، بما أن فعاليتها كانت تعتمد على استيقاف الغواصات الألمانية للسفن التجارية والاقتراب منها على مسافة كافية مما يسمح بأخذها على حين غرة، وبمجرد أن تخلى الألمان عن هذه الإجراءات المعيارية، أصبحت سفن الـQ-ships بلا فائدة.
5. تدمير سفينة الـUSS Indianola الحربية:
كانت الـUSS Indianola سفينة مدرعة ومسلحة تابعة لقوات الاتحاد تجول الأنهار، وقد كانت تخدم في المسرح الغربي للحرب الأهلية الأمريكية، وكانت تنتمي لسرب الـ(ميسيسبي) التابع للبحرية الأمريكية الذي كان ينشط في نهر الميسيسيبي ونهر (يازو). مرت هذه السفينة المسلحة في إحدى المرات بالجيوش الانفصالية الكونفيدرالية في (فيكسبورغ) من أجل الوصول إلى «النهر الأحمر» للمساعدة على صد إمدادات القوات الكونفيدرالية ومنعها من الإبحار في مياهه، غير أنها بمجرد وصولها إلى هناك، أُغير عليها من طرف قوات الجيش الكونفيدرالي في ليلة 24 فبراير 1863، فأخذت تغرق وتم أسرها والاستحواذ عليها.
حرّف أسر الـUSS Indianola مسار ومخططات تشكيل حصار على مستوى ”النهر الأحمر“، كما كان وجودها بين يدي القوات الكونفيدرالية مصدر تهديد كبير لعمليات القوات الفدرالية العسكرية في المنطقة. على إثر ذلك؛ تم إعداد مخططات من أجل استرجاع السفينة أو تدميرها حتى لا يستفيد منها العدو، هذه المخططات التي أخرجت واحدة من أكثر الحيل والخدع الحربية نجاحا التي عرفتها تلك الحرب.
أمر قائد القوات البحرية في جيوش الاتحاد وهو (دايفيد بورتر) بناء نسخة عن المدرعة من قارب قديم لنقل الفحم عبر النهر، فتم العمل عليه وجعل مشابها جدا للسفينة الحربية المدرعة، مع مواقع مدافع مزيفة كانت تطل منها ”مدافع“ كانت في الواقع عبارة عن أجذع خشبية مصبوغة باللون الأسود، وتم وضع عدة براميل فوق بعضها البعض لتبدو مثل المداخن، والتي كان ينبعث منها دخان لمحاكاة دخان المحركات البخارية.
ثم أُبحر بهذه المدرعة ”الدمية“ عبر (فيكسبرغ)، وعندما انتشرت الأنباء عن وجود مدرعة قوية قادمة باتجاه موقع القوات الكونفدرالية، هرع هؤلاء الأخيرون الذين كانوا يعملون على تصليح وترميم المدرعة الأصلية الـUSS Indianola، وأصيبوا بالذعر فعمدوا على تدميرها لخشية منهم بأن قوات الاتحاد كانت قادمة إليهم من أجل استرجاعها.
6. استيلاء الفرنسيين على جسر الدانوب:
بعد أن تمكن (نابليون) من حمل أحد الجيوش النمساوية على الاستسلام في (أولم) في سنة 1805، انسحب حلفاء النمساويين الروس عبر نهر الدانوب، على أمل أن ينالوا ما يكفي من الوقت من أجل إعادة تنظيم صفوفهم، فجعلوا النهر بينهم وبين الفرنسيين كحاجز لهذه الغاية، ومن أجل منع جيوش (نابليون) من عبور النهر، تم تدمير جميع الجسور المعلقة فوق النهر الدانوب، وما لم يتم تدميره لُغم بالمتفجرات التي كانت لتنطلق في أية لحظة في حالة تقدم الفرنسيين بغية منعهم من استعماله.
في تلك الأثناء، بينما بدأ الفرنسيون يقتربون من العاصمة (فيينا) عبر الدانوب، كانت مفاوضات السلام تجري على ساق وقدم، ولأن الأمر قد يثبت عدم جدواه في حالة ما أتت المفاوضات بثمارها، امتنع النمساويون من تفجير جسور (فيينا)، غير أنهم فخخوها بالمتفجرات من أجل تفجيرها في أية لحظة يحاول فيها الفرنسيون الاستحواذ عليها، من بين هذه الجسور المففخة كان جسر (تابور)، الذي كان في حراسته والإشراف عليه الضابط (أوزبيرغ).
في الثالث عشر من نوفمبر، وصلت وحدات جيش فرنسية متقدمة تحت قيادة (خواكيم مورات) و(جون لان) إلى الجسر وقام جنودها بإخفاء أسلحتهم بعيدا عن الأنظار، ثم عبر القائد (مورات) و(لان) الجسر سيراً على الأقدام وهما يتبادلان الأحاديث وقد تعالت أصوات ضحكاتهما وكأنهما لم يكونا في حالة حرب، ومما تحدثا حوله كانت المعاهدة التي ”تم إمضاؤها“ للتو حول السلام والهدنة بين البلدين، وهنا أحاط بهما الجنود النمساويون المرتبكون ووجهوا أسلحتهم نحوهما. لدى وصولهما للجهة الأخرى من الجسر، طلبا من الجنود استدعاء القائد (أوزبيرغ) لرؤيته متسائلين عما إذا كان قد سمع بمعاهدة السلام أم لا.
بينما تم إرسال رسالة لاستدعاء (أوزبيرغ)، ظل (مورات) و(لان) يتبادلان أطراف الحديث مع الجنود النمساويين من أجل تشتيت انتباههم عن الجنود الفرنسيين الذين بدأوا يعبرون الجسر ببطء وسرية تامة. عندما وصل (أوزبيرغ)، صدق على فوره الضابطين الفرنسيين، وعندما عبر أحد جنوده عن عدم ارتياحه للموضوع قائلا بأنهما قد يكونان يخدعانهم، وبخ (مورات) الضابط (أوزبيرغ) على تركه لأحد جنوده يخاطب ضباطا بهذه الطريقة الوقحة، ويعرقل معاهدة السلام.
شعر (أوزبيرغ) البائس بالخجل وأمر باعتقال ذلك الرقيب، ثم سلم الجسر للفرنسيين الذين قاموا على فورهم بعبور نهر الدانوب، وخلال شهر تمكنوا من تدمير الجيوش النمساوية-الروسية في (أوستيريلتز) في أكثر انتصارات (نابليون) دهاءً.
حوكم (أوزبيرغ) البائس بتهمة التهاون في تأدية مهامه وثبتت إدانته فأعدم.
7. تدمير السفينة الحربية الأمريكية الـ(يو إس إس فيلاديلفيا):
اندلعت الحرب التي عرفت باسم حرب طرابلس الأولى (1805 – 1801) بين الولايات المتحدة الأمريكية ودول الأمازيغ: المغرب الأقصى، والجزائر، وتونس، وطرابلس، وكان السبب فيها هو مهاجمة أساطيل الدول السابقة للسفن التجارية الأمريكية، ورفض أمريكا لدفع حق العبور من أجل منع حدوث تلك الهجمات. على إثر ذلك، أبحر سرب من السفن الحربية الأمريكية التابعة للبحرية الأمريكية إلى البحر الأبيض المتوسط من أجل مواجهة سفن الأمازيغ.
تضمن أسطول السفن الحربية التابع للبحرية الأمريكية سفينة الـ(يو إس إس فيلاديلفيا) التي كانت فرقاطة تزن 1240 طنا مجهزة بـ36 مدفع، والتي كانت قوية جدا بمعايير ذلك الزمن. في الواحد والثلاثين من شهر أكتوبر سنة 1803، وبينما كانت في مطاردة لإحدى سفن القراصنة، اصطدمت الـ(فيلاديلفيا) بحيد مرجاني على بعد أربعة كيلومترات من ميناء طرابلس —ليبيا حاليا—. فشلت كل المحاولات في جعلها تطفو مجددا، لذا أمر قائدها بإحداث شرخ في قاعها، ورمي مدافعها في البحر، وإتلاف البارود على متنها قبل تسليمها وطاقمها للطرابلسيين.
على الرغم من مجهودات ربانها الحثيثة، فإن الطرابلسيين تمكنوا من إعادة السفينة للطفو والإبحار مجددا، ثم قاموا بجرها إلى مينائهم من أجل أعمال التصليح والصيانة اللازمة حتى يستخدموها في معاركهم البحرية القادمة.
كانت السفينة تعتبر قوية جدا، ومنه مثلت تهديدا كبيرا في حالة ما تركت في أيدي الطرابلسيين، لذا قررت البحرية الأمريكية إما استرجاعها أو تدميرها، ومنه أوعزت مهمة القيام بأحد هذين الأمرين للملازم الأول (ستيفن ديكاتور).
في وقت سابق من تلك السنة، تمكنت البحرية الأمريكية من أسر سفينة صغيرة ذات شراعين افتكتها من يدي الطرابلسيين وأعادت تسميتها باسم (إينتربيد). قرر الملازم (ديكاتور) إعادتها إلى هيئتها ومنظرها الأصلي الذي كانت عليه عندما كانت سفينة طرابلسية محلية، وفي ليلة السادس عشر من فبراير سنة 1804، أبحر (ديكاتور) وفرقة من البحارة والجنود المتطوعين إلى ميناء طرابلس متنكرين في هيئة سفينة مالطية رافعة علم الإمبراطورية البريطانية.
تظاهروا بعدها بالاستغاثة بالطرابلسيين، وادعوا بأنهم فقدوا جميع مراسيهم على إثر عاصفة هوجاء هبت عليهم، ثم طلب ربانها الإذن في الرسو بالقرب من الـ(فيلاديلفيا) وربط سفينته بها، فرُخص له بذلك.
بمجرد أن ربط سفينته بالـ(فيلادلفيا) صعد ورجاله على متنها بعد أن تغلبوا على الجنود الذين وضعوا لحراستها دون إثارة أية جلبة لاستخدامهم لأسلحة بيضاء لا غير. بعد أن تأكدوا من أن السفينة كانت قابلة للتصليح وصالحة للإبحار، ولعدم تمكنهم من الإبحار بها أنفسهم، قام (ديكاتور) ورجاله بإضرام النار فيها ثم فروا على متن سفينتهم المموهة.
8. معركة نهر (كالكا):
جرت أحداث معركة نهر (كالكا) في الواحد والثلاثين من مايو 1223 على إثر نهاية واحدة من أطول المطاردات –على الأقل التظاهر بالانسحاب من طرف الجيش الذي طورد– على مر التاريخ، التي قام من خلالها الجيش المغولي بقيادة اثنين من جنرالات (جنكيز خان)، وهما (سابوتاي) و(جيبي)، باستدراج قوة تفوقهم عددا من الروس والكومان نحو مطاردتهم عبر منطقة السهوب على مئات الكيلومترات، قبل أن يستدير المغول أخيرا ويقضوا على مطارديهم على حين غرة.
بعد غزو (جنكيز خان) للإمبراطورية الخوارزمية، نال الجنرالان (سوبوتاي) و(جيبي)، اللذان كانا قد طاردا وهزما قائد الإمبراطورية وقتلاه في نهاية المطاف في جزيرة على بحر قزوين، الإذن من (جنكيز خان) من أجل إجراء بعثة استطلاعية عسكرية ناحية الغرب، ومع قوة بلغ عددها 20 ألف رجل أغاروا على إيران، ثم اتجهوا ناحية القوقاز، قبل العودة إلى منغوليا عن طريق السهوب شمال بحر قزوين.
في طريقهم نحو العودة، التقى الجنرالان بالكومان الرحّل فأغاروا عليهم وهزموهم، غير أن قائدهم الخان فرّ بحياته واتجه نحو قبائل (روس) الكييفية وأقعنهم بمساعدته على قتال المغول الغزاة. جمع الروس والناجون من الكومان جيشا يبلغ تعداده 80 ألف رجل تحت قيادة (ميستيسلاف الثالث) من (كييف) و(ميستيسلاف الجريء) من (غاليش). التحم الجيشان مع الجيوش التي تحرس مؤخرة الجيش المغولي وتمكنا من هزيمتها، وهنا قرر (سوبوتاي) و(جيبي) تنفيذ خدعتهما واستدراج خصومهما نحو كمين.
تظاهر المغول بالذعر والارتباك على إثر هزيمة الكتائب التي تحرس مؤخرة جيشهم، وعمدوا إلى التظاهر بالانسحاب، ثم قادوا مطارديهم في مطاردة طويلة جدا —لعلها الأطول في التاريخ— التي دامت تسعة أيام، خلالها فقد مطاردوهم تناسقهم وانضباطهم وصاروا شاردين في تشكيلة صف طويل. أخيراً، في اليوم التاسع، نصب (سوبوتاي) و(جيبي) كمينهما، فعبرا أولا نهر (كالكا) ثم أخفيا قواتهما وجنودهما بالقرب من الضفة الأخرى.
عندما بدأت الجيوش المطاردة تعبر النهر، انتظر المغول حتى وصل معظمهم إلى الجانب الذي كانوا موجودين فيه، قبل أن يقفزوا عليهم مطلقين هجومات سريعة وآنية ومفاجئة. تسببت هذه الهجومات الشرسة والقوية من طرف عدو اعتقدوه انهزم وفر منذ وقت طويل في إرباك الروس والكومان مما جعلهم ينهزمون بسرعة كبيرة.
أحاط المغول بخصومهم المرتبكين وقضوا عليهم حرفيا، فقتلوا تقريباً 75 ألفا من أصل 80 ألف جندياً الذين كانوا يطاردونهم. فرّ (ميستيسلاف الجريء) من ساحة المعركة، بينما تمكن (مسيتسيلاف الثالث) من الوصول إلى معسكر محصّن على (دنيبر)، حيث أحاط به المغول هناك، وفي نهاية المطاف سلّم نفسه مقابل وعد بعدم التعرض له ومنحه عبوراً آمنا لمنطقته، غير أن المغول حنثوا بوعدهم بالطبع وذبحوا رجاله وأعدموه.
9. معركة (كاناي):
قاد الجنرال القرطاجني حنّبعل جيشا باتجاه إيطاليا خلال الحرب البونيقية الأولى (218 – 201 قبل الميلاد)، التي أحرز خلالها سلسلة من الانتصارات المهمة ضد الرومان. تسببت كل تلك الهزائم على يده في إذلال روما وزعزعة سيطرتها على إيطاليا، بينما راح حلفاؤها يحنثون بولائهم لها أو يتعبون سياسة محايدة في حربها ضد قرطاج أو حتى يعقدون تحالفات مع عدوها حنّبعل.
عين الرومان جنرالا حذقا اسمه (كوينتوس فابيوس ماكسيموس) كديكتاتور لمدة ستة أشهر، والذي تبنى استراتيجة استنزاف ضد القرطاجنيين الغزاة، لإدراكه بأن التفوق العددي في الجيش كان من نصيب روما، وجه (فابيوس) اهتمامه ناحية استراتيجية الاستنزاف، فراح يغير على قوات قرطاج في اشتباكات سريعة وخاطفة استهدفت بشكل أخص خطوط تموين جيشها، بينما ظل يتجنب المعارك المفتوحة والمباشرة.
ساهمت هذه الاستراتيجية في تحقيق بعض الاستقرار على الوضع، غير أن الأمر لم يكن على مستوى طموحات مواطني (فابيوس)، الذين كانوا على أحر من الجمر لسماع خبر الانتقام من جيش قرطاج وإلحاق هزيمة نكراء به تنسيهم الهزائم التي تكبدوها على يده في أسرع وقت ممكن.
عندما انتهت عهدة حكم (فابيوس)، جمع الرومان 87 ألف رجل، أكبر جيش تجمعه روما إلى يومنا هذا، وزحفوا باتجاه حنبعل للقضاء عليه. كان حنبعل، الذي أرّقته استراتيجية الاستنزاف التي اتبعها (فابيوس)، يرغب في استدراج الرومان وجعلهم يحاولون الهجوم عليه والاشتباك معه في حرب مفتوحة.
في (كاناي)، في الثاني من أغسطس 216 قبل الميلاد، عرض حنبعل على الرومان معركة بدا لهم فيها النصر حليفاً، فوضع جيشه الصغير المكون من 40 ألف رجل ضد جيش روما المكون من 87 ألفاً. تبنى حنبعل خدعة عسكرية تكتيكية أتقن تنفيذها بإحكام، حيث وضع قواته من الغاليين الأقل انضباطا في مركز جيشه في تشكيلة برزت إلى الخارج ناحية الرومان، وعلى كلا جانبي الغاليين وضع مشاته الأفارقة الأكثر انضباطاً.
وبينما تقدم الرومان، أفسح لهم الغاليون المجال، حتى تتغير تشكيلة هؤلاء الأخيرين التي كانت في البادئ بارزة للخارج نحو الداخل، فكّر حنبعل في أن الرومان سيتحمسون لرؤية عدوهم يتخلى لهم عن موطأ قدمه في المعركة، مما سيحملهم على الاعتقاد بأن النصر وشيك، ومنه سيسارعون للدخول في الشرك.
وبمجرد أن وقعوا في الفخ، أخذ المشاة الأفارقة الأكثر انضباطا المتموضعين على جانبي الغاليين يتقدمون باتجاه ميمنة وميسرة الجيش الروماني. بحلول ذلك الوقت، كان الفرسان القرطاجنيون قد هزموا الفرسان الرومان، ثم استداروا وهاجموا مؤخرة مشاة العدو، ومنه وجد الرومان أنفسهم محاطين من كل اتجاه بالجيش القرطاجني.
سار كل شيء مثلما خطط له حنبعل في معركة مازالت تعتبر حتى يومنا هذا المعيار الذهبي للتكتيك الحربي والقيادة العسكرية، فأطبق القرطاجنيون قبضتهم على الرومان وكادوا يمسحونهم من الوجود، مع كون 10 آلالف فقط من أصل 87 ألف جندي نجحوا في الفرار في تلك المعركة، بينما سقطت البقية بين سجين وقتيل.
10. معركة بحيرة (تراسيمان):
في الرابع والعشرين من يونيو 217 قبل الميلاد، بعد استدراج قائد الجيش الروماني نحو الخوض في مطاردة سريعة؛ استطاع الجنرال القرطاجني حنبعل باستخدام الحيلة والدهاء تضليله وحمله على الدخول في شرك نصبه له على طول الضفة الشمالية لبحيرة (تراسيمان)، وهناك كشر عن أنيابه لمطارديه الغافلين من أمرهم فيما عرف بالمصطلحات العسكرية على أنه ”أكبر كمين تكتيكي حربي“ في التاريخ، نظرا لأعداد الجيوش الهائلة المتورطة فيه.
بعد أن تمكن حنبعل بنجاح من هزيمة جيشين رومانيين في شمال إيطاليا في سنة 218 قببل الميلاد، تم إرسال قناصلة روما المنتخبين في سنة 217 قبل الميلاد على رأس جيشين كبيرين من أجل وضع حد لهذا التهديد المستمر والمتزايد. كان واحد من هؤلاء القناصلة (غايوس فلامينيوس)، قد جمع الناجين من المعارك الخاسرة الأخيرة، ودعم صفوفهم بمجندين جدد، وشكل جيشا بلغ تعداده 30 ألف رجل سار بهم جنوبا من أجل الدفاع عن روما. تبعه حنبعل وزحف بجيشه بسرعة أكبر فتجاوز (فلامينيوس) وجعل جيشه بين جيش (فلامينيوس) وروما.
كان ذلك واحدا من الأمثلة الأولى في التاريخ عن استراتيجية قلب الطاولة على العدو، والتموقع بين المدافع وقاعدته التي يدافع عنها. باستغلال هذا الأمر، ومن أجل استدراج (فلامينيوس) وجعله يشتبك معه في معركة، بدأ حنبعل حملة تدمير وحرق الأرياف والمدن التي صادفها في طريقه جنوبا نحو روما. أجبر (فلامينيوس) بهذا على الإسراع بجيشه للحاق بحنبعل قبل أن يصل القرطاجنيون لروما ويعيثوا فيها فسادا.
بينما واصل حنبعل زحفه جنوباً، مع كون (فلامينيوس) على أعقابه في مطاردة سريعة، وصل القرطاجنيون إلى موقع مناسب جدا لنصب كمين على الضفة الشمالية لبحيرة (تراسيمان)، على بعد حوالي 150 كليومتر عن روما. هناك امتد طريق ضيق بين البحيرة والهضاب ذات الغطاء الغابي الكثيف. نصب حنبعل معسكره على الجهة الشرقية من الطريق الضيق، حتى يكون على مرأى واضح لـ(فلامينيوس) عندما يصل إلى هناك.
وضع حنبعل قوات مشاته الثقيلة أمام المعسكر في مواجهة الطريق الضيق الذي سيأتي عبره الرومان، من أجل تحديهم للخوض في معركة ضده. على الهضاب الغابية المحيطة بالطريق من الجهة الشمالية، قام بإخفاء فرسانه، وقوات مشاته الخفيفة، وحلفائه الغاليين، وقبع منتظراً قدوم خصمه.
عندما وصل (فلامينيوس) إلى مدخل الممر الضيق في صبيحة 24 يونيو ورأى المعسكر القرطاجني مع قواته واقفة على أهبة الاستعداد أمامه منتظرة الخوض في المعركة، شعر براحة لكونه قد أطبق أخيراً على خصمه، ولرغبته الكبيرة في عدم ترك حنبعل يفر منه مجددا، زحف بجيشه على الفور من أجل التخلص من مصدر التهديد هذا إلى الأبد.
بسبب رغبته الشديدة تلك وتسرعه الكبير، لم يقم (فلامينيوس) باستكشاف الهضاب المحيطة شمال الطريق الضيق قبل الزحف بجيشه على القرطاجنيين، ومما ساعد على إخفاء مواقع الوحدات القرطاجنية في الغابات هو الضباب الكثيف الذي ساد تلك الصبيحة وجعل الرؤية معتمة كثيراً.
بمجرد دخول آخر جندي روماني في جيش (فلامينيوس) للدرب الضيق، أطلقت الأبواق ونفذ الشرك، بينما سارعت القوات المختبئة للهجوم جنوبا على ميمنة ومؤخرة الرومان، الذين سرعان ما وجدوا أنفسهم محاطين من جهة الشرق والشمال والغرب بالعدو، بينما حاصرتهم مياه البحيرة جنوباً. مُسح جيش (فلامينيوس) تماماً، ومن بين 30 ألف رجل الذين ساروا معه إلى المعركة ذلك اليوم، قتل حوالي النصف أو غرق في البحيرة، بينما أخذ النصف الآخر سجيناً.
11. واقعة نهر (هيداسباس):
خلال معركة نهر (هيداسباس) في مايو سنة 326 قبل الميلاد، التي جرت أحداثها فيما يعرف الآن بالبنجاب في الهند بين الإسكندر المقدوني الكبير والملك الهندي (بوروس)، نفذ الإسكندر بنجاح خدعة عسكرية لامعة حملت خصمه على ارتكاب خطأ فادح فباغته على حين غرة، ومهد لنصر مقدوني عظيم.
عندما زحف الإسكندر المقدوني على البنجاب، خرج الملك الهندي (بوروس) لملاقاته ومواجهته، وسبقه إلى نهر (هيداسباس)، الذي كان يجب على الإسكندر عبوره حتى يتسنى له التوغل في البلاد الهندية، فانتظر الملك الهندي على إحدى ضفاف النهر مع جيشه من أجل منع الغزاة من العبور.
عندما وصل المقدونيون، نصب (بوروس) معسكره في الجهة الأخرى من النهر على مرآى من الإسكندر وجيشه، وراح يتتبع تحركات المقدونيين مثل ظلهم من الجهة المقابلة، بينما راح هؤلاء الأخيرون يتنقلون صعوداً ونزولا على طول ضفة النهر بحثا عن النقطة المثالية التي سيعبرون منها.
لذا، لطالما بقي (بوروس) يتتبع تحركات المقدونيين بجيشه من الضفة المقابلة، كانت كل محاولة لعبور هذا النهر العميق ذو التيار السريع لتكون كارثية، ذلك أنه ناهيك عن احتمال الغرق، كان الهنود ليضربوا المقدونيين في أكثر مواضعهم ضعفا عندما يكونون بصدد العبور.
فكر الإسكندر في مخادعة (بوروس) من خلال مواصلة السير بجنوده صعودا ونزولا على جانبه من النهر كل يوم. استمر الهنود يتتبعون تلك التحركات بيقضة شديدة في بادئ الأمر، ثم مع مرور الوقت أخذوا يألفونها وصاروا أقل حذرا وانتباها، ثم قام الإسكندر خلسة بسحب السواد الأعظم من جيشه تاركا خلفه كتيبة واحدة من أجل القيام بتظاهرات صاخبة بهدف ترك الهنود مركزين على تحركاتهم، بينما سارع هو والقسم الأكبر من جيشه إلى عبور النهر من نقطة بعيدة شمالا، فنجح بالعبور بقواته إلى الضفة الأخرى، وبمجرد وصوله هناك سار بجيشه للهجوم على (بوروس) وجيشه.
باغت الإسكندر وجيشه الهنود الذين ارتبكوا وأطبق عليهم من جهة، ثم أطبقت عليهم الكتيبة الأخرى التي تركها وراءه من جهة أخرى، هذه الأخيرة التي عبرت النهر بأمان وضربت المواقع الخلفية للجيش الهندي عندما استدار لمواجهة الإسكندر على رأس جيشه. كانت المعركة طاحنة، وكان النصر فيها لصالح المقدونيين بالطبع.
12. معركة (غوغامالا):
في معركة (غوغامالا) في الفاتح من أكتوبر سنة 331 قبل الميلاد، وجد الإسكندر أن تعداد جيش الملك الفارسي (داريوس) فاق جيشه بكثير، وأن هذا الأخير قد حصن نفسه في مركز صفوف جيشه، جاعلا الفرسان على ميمنته وميسرته، والعربات التي تقودها الخيول من أمامه. غير أن النصر كان حليفا للإسكندر المقدوني في نهاية المطاف، الذي قام بتنفيذ واحدة من أنجح الخدع العسكرية التكتيكية في ساحة المعركة في التاريخ.
انطلق الإسكندر المقدوني مع معظم فرسانه، بما في ذلك نخبة قوات خيّالته، وسار باتجاه يمين أرض المعركة مرفوقاً بقوة صغيرة من جنود المشاة، الذين وضعهم بين فرسانه وبين العربات الفارسية، حتى يمنع العربات من توجيه ضربات لجناح الفرسان المقدونيين المكشوف بينما راح يسير باتجاه يمين ساحة المعركة.
انطلق الفرسان الفارسيون في مواجهة الإسكندر وراحوا يتتبعون تحركاته مثل ظله، فساروا بالموازاة معه باتجاه يمين ساحة القتال، وذلك من أجل السهر على أن لا يطوق الخطوط الفارسية، وكان ذلك بالضبط ما أراده الإسكندر المقدوني: أن يبعد أكبر عدد ممكن من الفرسان الفرس من مواقعهم الأصلية.
كان للإسكندر مفاجأة للفرسان الفرس: بينما كان يسير باتجاه اليمين، جعل بعضا من قوات مشاته الخفيفة يسيرون إلى جانبه مخفيين على ميمنة فرسانه، مما جعلهم بعيدين عن مرأى الفرس، وكانت النتيجة ثلاثة صفوف متوازية من المقاتلين تسير جنبا إلى جنب باتجاه يمين ساحة المعركة: الفرسان الفرس، والفرسان المقدونيون على رأسهم الإسكندر، والمشاة المقدونيون الذين لم يسع الفرس رؤيتهم ولم يكونوا على علم بوجودهم أصلاً.
في نهاية المطاف، سبق الفرسان الفرس، الذين ظلوا يتتبعون فرسان الإسكندر ويسيرون بالتوازي معه، هذا الأخير وأحاطوا بفرسانه ظنا منهم أنه كان يحاول الإحاطة بهم، ثم لاعتقادهم بأن الأفضلية كانت من نصيبهم هاجموا الإسكندر، وكان ذلك بالضبط ما أمل هذا الأخير أن يقوموا به.
عندما كان الفرسان الفرس يتتبعونه مسرعين، فُتحت فجوة في صفوف الجيش الفارسي، فجوة كان الفرسان الفرس يشغلونها في بداية المعركة، وكان هدف الإسكندر الأساسي منذ البداية هو جذبهم من مواقعهم من أجل إحداث تلك الفجوة في صفوفهم.
وهنا جاء دور المشاة المقدونيين المخفيين: عندما هجم الفرسان الفرس، أطلق الإسكندر العنان لمشاته الذين أخفاهم خلف صف فرسانه للاشتباك مع الفرسان الفرس، وتركهم على تلك الحال إلى جانب معظم فرسانه للإبقاء عليهم مشغولين بينما انسحب في خطوة ذكية مع نخبة فرقة خيّالته من الاشتباك واتجه ناحية الفجوة التي تمكن من إحداثها في صفوف عدوه في تشكيلة هجومية خاطفة.
حدث أن الملك الفارسي كان مكشوفاً في تلك الفجوة، لقد كانت ضربة خاطفة وقوية رجحت الكفة لصالح المقدونيين، وعند رؤيته للإسكندر المقدوني على رأس فرسانه يسيرون باتجاهه مثل الريح، وبدون ما يكفي من الفرسان لحمايته؛ ذعر (داريوس) وفر بحياته من أرض المعركة.
يصوّر مشهد معركة (غوغاميلا) في الفيلم المعنون: «الإسكندر» بشكل دقيق هذه المناورة مثلما وصفها المؤرخون الذي عاصروا الإسكندر.