قصدت مدرّسة آيرلندية مستشفى مدينة القدس لأنها ”كانت على وشك إنجاب يسوع الرضيع“، فقط ليتبين في الواقع أنها لم تكن حاملاً أصلاً. واعتقد سائح كندي بأنه كان الشخصية الإنجيلية القوية (سامبسون) وحاول اقتلاع حجارة حائط المبكى، بينما أصيب رجل نمساوي بنوبة غضب حادة وراح يتصرف بعنف في مطبخ الفندق الذي يقيم فيه بعد أن رفض طاقمه تحضير ”العشاء الأخير“ له.
تلك كانت مجرد بضعة أمثلة عما صار يعرف بأنه «متلازمة القدس»، وهي ظاهرة موثقة بشكل جيد حيث يعاني زائرو المدينة من الأجانب من هلوسات ذهانية تجعلهم يعتقدون بأنهم شخصيات من الإنجيل، أو كما بدر لبعضهم: الشخصيات التي سيكون من شأنها إطلاق سلسلة الأحداث التي تأتي بيوم القيامة.
تسجل وزارة الصحة الإسرائيلية حوالي 50 حالة سنوياً من حالات متلازمة القدس، حيث تكون هلوسات السواح قوية جدا تستدعي تدخل الشرطة أو ممتهني الصحة العقلية. لا يتم توثيق الكثير من الحالات الأخرى عن هذه الظاهرة التي تحدث في شوارع مدينة القدس القديمة، وتتوقع مستشفيات المدينة حالات جديدة كلما تدفق السواح إليها في مختلف المناسبات والأعياد الدينية، كما تجد الأطباء يتحضرون للخوض في الروتينات التي صارت الآن معهودة بالنسبة لهم، من أجل إخطار السفارات الأجنبية أن بعض مواطنيها يعتقدون أنهم (يوحنا المعمدان) أو الملك سليمان.

تعود بوادر متلازمة القدس قديما إلى العصور الوسطى، حيث ظل الملاحظون عبر القرون الماضية يشيرون إلى هذا الجنون الذي بدا وكأنه يخيم على المدينة، فكتب (جي. إي. هانور)، وهو رحالة بريطاني وقس أنجيليكاني، حوالي سنة 1870: ”إنه لواقع غريب أن العديد من الأمريكيين الذين يصلون إلى القدس، سواء يكونون مجانين سابقاً أو يفقدون عقولهم لدى وصولهم“.
يصف خبراء علم النفس اليوم الهلوسات التي يعاني منها هؤلاء لدى زيارتهم المدينة على أنها ذات طابع مسرحي بشكل كبير وعلنية أيضا، حيث قد يعمد بعضهم إلى تقطيع شراشف سرير غرفة الفندق ليجعلوا منها ثيابا تشبه ثياب العصور الوسطى فيرتدونها، كما يقوم البعض الآخر بإلقاء خطابات ونذور أمام مواقع مقدسة، أو يستسلمون للنحيب في شوارع المدينة القديمة.
يقول الدكتور (موشى كاليان)، رئيس الأطباء النفسانيين في مقاطعة القدس سابقاً وأحد الشخصيات الرائدة فيما يتعلق بالمتلازمة: ”تكون مظاهرهم درامية جدا، كما يستعملون القدس كمسرح لهم يعتلونه ليلعبوا أدوارهم، أدوار يؤمنون بشكل كلي بأنها حقيقية“.
بشكل مثير للاهتمام، تم تسجيل هذه الظاهرة بين المسيحيين واليهود ولم يتم تسجيلها أبدا بين المسلمين، حيث اكتشفت دراسة من سنة 1999 أن: ”على الرغم من أن مدينة القدس تعتبر مقدسة بالنسبة لكل الأديان الإبراهيمية الموحدية الثلاثة… فلم يتم تسجيل حالة واحدة عن متلازمة القدس بين المسلمين“.

كان معظم الذين خضعوا لإقامة في مستشفى القدس إثر إصابتهم بالمتلازمة يعانون مسبقا من أمراض عقلية ما، وكان معظمهم قد جاء إلى القدس عمدا في رحلة اعتبرها ”مهمة ربانية“.
معظمهم غير مسبب للأذى، لكن بين الحين والآخر تنتاب أحدهم نوبة عنف، يسرد لنا الدكتور (كاليان) قصة رجل بريطاني فسّر غيمة الرماد الهائلة التي خيمت على القارة الأوروبية في سنة 2011 إثر ثوران بركان آيسلندي على أنها على علامة على قرب نهاية العالم، وبمجرد انقشاع غيمة الرماد تلك ومعاودة حركة المرور الجوية سيرها الطبيعي، طار الرجل إلى القدس وقصد كنيسة القيامة حيث يعتقد المسيحيون أن يسوع صلب ودفن، كما كان يُخيّل له؛ فقد كان المخطط واضحا وضوح الشمس: كان سيدخل الكنيسة ليتم قتله من طرف إبليس نفسه، مما سيشعل شرارة (أرماجيدون) —أحداث الأيام الأخيرة على الأرض—، غير أنه كانت هناك مشكلة واحدة فقط: لدى وصوله إلى الكنيسة ليلا كانت أبوابها الخشبية الكبيرة موصدة.
راح هذا الرجل، الذي لم يتم الإفصاح عن اسمه تحت قانون السرية بين الطبيب ومريضه، يحمل سكينا وحاول طعن رجال الشرطة الإسرائيليين، فأطلقوا عليه النار في ذراعه وأرسلوه إلى المستشفى، ثم إلى مستشفى الأمراض العقلية، ثم أعيد ترحيله إلى المملكة المتحدة في نهاية المطاف بدون توجيه أية تهم إليه.
تتجلى أكثر النقاط الشائكة والجدلية التي اختلف فيها الباحثون في ظاهرة المتلازمة هذه فيما يطلق عليه مجموعة من الأطباء ”حالات من النمط الثالث“، وهي حالات تصيب أشخاصاً ليس لديهم تاريخ بالأمراض العقلية والذين تقهرهم القدسية التي تحيط بالمدينة فيفقدون عقولهم مؤقتاً.
كتب أطباء علم النفس في مركز Kfar Shaul للصحة العقلية، وهو المستشفى حيث تتم معالجة معظم من يعاني من متلازمة القدس: ”إن النمط الثالث من متلازمة القدس هو على الأرجح الأكثر إثارة للاهتمام“، يسرد الأطباء 42 حالة سجلوها عن أشخاص وصلوا إلى القدس على شكل سواح عاديين، غير أنهم بوصولهم بدأوا يعانون من حالات هلوسات وذهان شديدة، ثم تعافوا منها تماما بعد مغادرتهم المدينة ولم تراودهم مجددا في أي مكان آخر سواها.
من بين الأفراد الإثنين والأربيعين الذين سجلوهم، كان 40 منهم ما وصفه الأطباء على أنهم ينحدرون من عائلات بروتستانتية ”متدينة جداً“،
ومن بينهم كان محامٍ سويسري وصل إلى القدس كجزء من جولة سياحية سافر فيها عبر البحر الأبيض المتوسط، فقضى بشكل مثالي أسبوعاً سعيدا مع أصدقائه في اليونان قبل أن يصل إلى القدس، حيث أصبح مهووسا بالنقاء الشعائري للمدينة وأصبح يرتدي شراشف بدل الملابس ويردد جهارا آيات من الإنجيل، وبعد أيام فقط تعافى من المتلازمة وسافر مع أصدقائه إلى المصر، وعلى ما يبدو لم يعانِ من أية مشاكل عقلية مجدداً.
يبقى الدكتور (كاليان) وبعض زملائه الآخرين مشككين ومتحفظين حيال هذا الشكل ”النقي“ من المتلازمة ويجادلون بأن كل من يصاب بها هو على الأرجح كان يعاني مسبقا من حالة طبية نفسية ما، فكتبوا: ”يجب أن يتم اعتبار متلازمة القدس على أنها تدهور لمرض عقلي مزمن، وليس كحالة ذهان عابرة“.
تمت ملاحظة ظواهر مشابهة في مدن أخرى عدى القدس، مثل متلازمة (ستيندال) التي تصف انهيارات يعاني منها عشاق الفن أحياناً في مدينة (فلورنسا) الإيطالية عندما يجدون أنفسهم في مواجهة عظمة جداريات عصر النهضة التي تزخر بها المدينة.
يختبر أحيانا السواح اليابانيون في باريس حالات هوس وانهيارات عندما يدركون بأن المدينة التي لطالما اعتبروها كأكثر المناطق رومنسية في العالم تتضمن هي الأخرى قمامة، وحركمة المرور الخانقة، والاكتظاظ السكاني كأي مدينة أخرى في العالم، ويعرف ذلك باسم متلازمة باريس، ويعتقد الخبراء أن هذه المتلازمة سببها الاكتظاظ والحواجز اللغوية التي يعاني منها السواح اليابانيون على وجه الخصوص.
غير أن متلازمة القدس تبقى المتلازمة الوحيدة التي تحدث بشكل متكرر جدا وعلى درجات متفاوتة من الحدة، وعلى ما يبدو فهناك أمر ما يتعلق بمدينة القدس القديمة، مدينة مقدسة ومتنازع عليها من طرف ثلاثة أديان مختلفة، الذي يجذب —أو يسبب حتى— نوعا خاصا من الجنون لبعض الأشخاص.