in

باحثون يكتشفون أن حدائق بابل المعلقة لم تكن في بابل أصلا!

تصور لحدائق بابل المعلقة

بينما يعتقد الكثيرون أن حدائق بابل المعلقة ليست إلا أسطورة تتداولها الألسنة والروايات القديمة، غير أن أبحاثا حديثة قد تثبت بشكل قاطع أنها كانت موجودة بالفعل، لكن ليس حيث اعتُقد أنها كانت موجودة من قبل.

تخيل نفسك مرتحلا عبر صحراء حارة قاحلة وجرداء في الشرق الأوسط، ثم فجأة تلمح منظرا طبيعيا مخضرّا يتألف من غطاء نباتي كثيف من أشجار وزهور وثمار وفواكه تنتصب فوق أعمدة وسقائف على ارتفاع يصل إلى 22 مترا، تمتد أمام ناظريك مثل سراب يرتفع عن الأرضية الرملية الحارة، ثم تنبعث من تلك المنطقة النباتية الكثيفة والمتنوعة روائح وعطور شرقية وغربية وشمالية وجنوبية مصدرها مختلف الأزهار والنباتات التي أحضرت من مختلف بقاع العالم، ثم تواصل تقدمك نحو هذه الجنة الصحراوية شيئا فشيئا إلى أن تصل إلى ما عرف قديما باسم ”حدائق بابل المعلقة“، التي بنيت في القرن الرابع قبل الميلاد على يد الملك (نبوخذنصر الثاني).

حدائق بابل المعلقة كما تصورها أحد الفنانين
حدائق بابل المعلقة كما تصورها أحد الفنانين

ولدت (آميتيس) زوجة هذا الملك البابلي وترعرعت في بلاد (ماداي) التي تقع في الشمال الغربي لإيران حاليا، وكانت قد افتقدت لبلدها الأم كثيرا لدرجة صارت حزينة، ومنه يقال أن الملك أمر ببناء هذه الحدائق المعلقة كهدية لزوجته التي غرقت في بحر من الاشتياق لبلدها، من أجل أن تذكرها به وتخفف عنها شعور الاشتياق.

قام الملك ببناء نظام سقي يتكون من شبكة من القنوات المائية، وكانت المياه التي مصدرها نهر قريب من الموقع تُرفع عاليا فوق مستوى الحدائق لتنهمر فيما بعد مثل شلال متدفق، وكانت الهندسة خلف هذا التصميم هي ما جعل المؤرخين والعلماء يصنفون حدائق بابل المعلقة ضمن ”عجائب الدنيا السبع“.

كتب المؤرخون اليونانيون القدماء وصفهم لما كانوا يعتقدون أن حدائق بابل المعلقة كانت تبدو عليه بناء على كتابات وصفية ألفها راهب عاش في القرن الرابع قبل الميلاد عرف باسم (بيروسيوس الكلدي)، وكانت كتاباته تلك أقدم وصف وتوثيق معروف لهذه الحدائق المعلقة.

كتب المؤرخ اليوناني (ديودوروس سيكولوس) بناء على ما علمه من كتابات (بيروسيوس) في وصفه للحدائق ما يلي: ”كان موقع الحدائق منحنيا مثل جانب تلة، وكانت الأقسام المتعددة التي تكون منها البناء ترتفع فوق بعضها البعض، وكانت التربة تتكدس فوق كل طبقة من طبقات الهيكل… ثم غُرست الأشجار من كل نوع وصنف، التي لشدة ضخامتها وجمالها أعطت الناظر شعورا جميلا لا يوصف، وكانت ماكينات المياه ترفع الماء بكميات كبيرة من النهر، على الرغم من أنه لم يكن بالإمكان رؤيتها من الخارج“.

صورة مرسومة لحدائق بابل المعلقة من إبداع (فرديناند كناب) في سنة 1886.
صورة مرسومة لحدائق بابل المعلقة من إبداع (فرديناند كناب) في سنة 1886.

اعتمدت الكتابات الوصفية اليونانية لحدائق بابل المعلقة على كتابات مؤلف لم يعايش الحقبة التي كانت الحدائق لا تزال موجودة فيها، ذلك أنه عاش في فترة تلت مرحلة تدمير الحدائق بأجيال.

كان جيش الإسكندر المقدوني قد وصل أيضا إلى حدائق بابل وذكر بعض ضباطه وجنوده أنهم تمكنوا من رؤيتها، لكنهم كان لديهم ميل كبير للمبالغة وتضخيم الحقائق ومنه لا يمكن اعتبار تقاريرهم دليلا موثوقا.

كانت تقنية سقي الحدائق المعلقة آنذاك تتضمن ماكينة ضخمة تشبه تلك التي اخترعها أرخميدس، والتي لم ينتشر استعمالها إلا بعد قرون لاحقة، غير أن نقص الدلائل الدامغة بالإضافة إلى عدم توفر تقارير مصدرها أشخاص عاصروا فترة ازدهار الحدائق بشكل مباشر دفع بالكثير من العلماء والباحثين إلى الاعتقاد بأن الحدائق لم تكن يوما موجودة، وأنها لم تكن سوى أسطورة متدوالة بين الناس.

ثم جاءت الباحثة الدكتورة (ستيفاني دالي) في جامعة (أوكسفورد) في سنة 2013 وأجرت بحثا معمقا أعطى جوابا محتملا لهذه المعضلة، حيث لمحت إلى أن المؤرخين والباحثين القدماء قد يكونوا أخطأوا في موقع الحدائق لا أكثر.

كانت (دالي) واحدة من أكثر الخبراء في حضارات بلاد ما بين النهرين، وكانت قد اكتشفت ترجمات حديثة لنصوص قديمة اعتقدت من خلالها أن الملك (سنحاريب) كان هو من بنى الحدائق المعلقة وليس (نبوخذ نصر الثاني)، كما كانت تلك الحدائق قد بنيت في منطقة (نينوى) بالقرب من مدينة الموصل العراقية اليوم، وليس في مدينة بابل مثلما كان الكثيرون يعتقدون.

يغير هذا المفهوم والاكتشاف الحديث موقع الحدائق من المملكة البابلية إلى المملكة الآشورية، ومما زاد من الارتباك واللبس الحاصل في موقع الحدائق على المؤرخين والباحثين القدماء هو أن الملك (سنحاريب) كان قد أطلق على مدينة (نينوى) اسم (بابل الجديدة).

حدائق (نينوى) المعلقة مثلما يظهره هذا اللوح الطيني القديم، بإمكانك عزيزي القارئ ملاحظة القناة المائية والأعمدة في القسم العلوي للوح.
حدائق (نينوى) المعلقة مثلما يظهره هذا اللوح الطيني القديم، بإمكانك عزيزي القارئ ملاحظة القناة المائية والأعمدة في القسم العلوي للوح.

تدعم أعمال تنقيب أجريت بالقرب من مدينة الموصل نظرية الباحثة (دالي)، حيث نجح علماء الآثار في استخراج دلائل تثبت وجود ماكينة هائلة الحجم التي قد تكون استعملت في نقل المياه من نهر الفرات إلى الحدائق من أجل سقيها، كما وجدوا كتابات قديمة تفيد بأن تلك الماكينة استخدمت في تلك الحقبة من أجل توصيل المياه إلى المدينة.

بالإضافة إلى ما سبق، عثر علماء الآثار على منحوتات ونقوش تبرز حدائق جميلة مخضرّة تستمد مياه السقي خاصتها عبر قنوات مائية كبيرة، كما كان محيط منطقة الموصل المرتفع نسبيا الذي تحيط به الهضاب أكثر احتمالا لتلقي المياه من القناة المائية مقارنة مع المحيط المسطح لمنطقة بابل.

وأعقبت (دالي) نظريتها بالشرح بأن الآشوريين كانوا قد غزوا بابل في سنة 689 قبل الميلاد، وكان ذلك قبل زمن بناء حدائق بابل المعلقة، ومنه يتضح أن المؤرخين الإغريق القدماء أخطأوا في تحديد موقع الحدائق بين نينوى الآشورية وبابل البابلية.

ومنه ذهبت الكثير من المساعي في كشف اللغز المحيط بواحدة من عجائب الدنيا السبع هباء منثورا، حيث أنها كانت مبنية على تقارير هؤلاء المؤرخين الخاطئة، وركزت على إثرها الكثير من أعمال التنقيب التي أجريت في القرن العشرين على مدينة بابل القديمة وأهملت مدينة (نينوى)، وكانت تلك الأخطاء الحسابية في تحديد الموقع هي ما جعلت كذلك بعض الباحثين والعلماء يشكون في وجود هذه الحدائق في المقام الأول.

بينما يسبر الباحثون والعلماء أغوار أسرار مدينة (نينوى)، من يدري ما قد يجدونه من أدلة دامغة تدعم أكثر وجود هذه الحدائق الواسعة، حيث أن الموقع الذي تجري به أعمال التنقيب حاليا بالقرب من مدينة الموصل يقع على هضبة ذات طبقات، تماما مثلما وصفه المؤرخون الإغريق في تقاريرهم.

أما فيما يتعلق بمظهر هذه الحدائق المعلقة وكيف كانت تبدو، فلم يردنا حتى الآن كتابة أو وصف دقيق مباشر مصدره شخص عاش في الفترة التي كانت فيها ما تزال موجودة، وإلى أن يعثر علماء الآثار على نصوص قديمة تصف ما كانت تبدو عليه هذه الحدائق، كل ما يسعك فعله عزيزي القارئ هو زيارة أقرب حديقة نباتية إليك، والتجول بين نباتاتها المتنوعة، ثم في لحظة ما أغلق عينيك واسرح بخيالك في رحلة زمنية إلى 2500 سنة في الماضي، زمن الملوك القدماء والغزاة الملحميين.

مقالات إعلانية