in

أين هي الصين؟

الصين

قد يبدو جواب عنوان هذا المقال بسيطاً جداً، فالنظر إلى الخريطة كفيل بتحديد موقع الصين الحالية الجغرافي بسهولة كبيرة، لكن بعد تجاوز المرحلة الأولية وعند النظر بقرب إلى الخرائط التي تظهر الصين ستبدأ الاختلافات بالظهور، فحدود البلاد الغربية مع باكستان والهند مشوشة للغاية وهناك الكثير من المناطق المتنازع عليها على هذه الحدود، بالإضافة لكون إقليم التبت بحد ذاته منطقة تتبع للصين لكن سكانها يرغبون بالانفصال عنها والاستقلال وحدهم بعيداً عن أعين الحزب الصيني الحاكم.

الجهة الغربية ليست المكان الوحيد الذي تظهر فيه المشاكل في الواقع، فجنوب الصين هو محل الخلافات الأكبر والأهم ربما مع وجود كل من هونغ كونغ وماكاو كمدن شبه مستقلة من ناحية، بالإضافة لجزيرة تايوان التي يدعي الحزب الشيوعي الصيني كونها تابعة له، بينما تدعي حكومتها أن أقاليم الصين البرية بأكملها تابعة لها قانونياً، ومع إضافة المناطق التجارية العديدة على الساحل الجنوبي للصين يظهر بوضوح مدى المشاكل المتعلقة بحدود الصين.

على عكس ما يخطر بالبال للوهلة الأولى، فالصين مكان متنوع للغاية ومختلف بشدة من مكان لآخر، حيث تتضمن البلاد عدة لغات أساسية (مع كون أكبرها هي الماندرين أو الصينية المبسطة) وثقافات عديدة تتبع لعدة قوميات متمايزة لا تزال تمتلك بعض الاختلافات الثقافية والاجتماعية حتى اليوم، على الرغم من الجهود الحثيثة للحزب الشيوعي لتحويل الصين بأكملها إلى طابع واحد.

ومع كون كل من اختلافات الصين تأتي من أسباب مختلفة فالأفضل شرح كل من هذه الاختلافات بفقرة خاصة بها.

لماذا الصين ليست موحدة اللغة؟

تعدد اللغات في الصين
هذه الخريطة تظهر اللغات المتعددة ضمن الأراضي الصينية مع مجموعة من اللغات الأساسية، على رأسها لغت ماندرين باللون الوردي وعدة لغات منتشرة في الجزء الجنوبي من البلاد.

عندما نفكر بالصين، فأول ما يخطر بالبال هو الشكل المميز للعرق الآسيوي واللغة التي تبدو غريبة جداً للشرق أوسطيين وسواهم، وبالطبع الخريطة التي نعرفها جميعاً للصين اليوم.

لكن افتراص أن الصين كانت دائماً كذلك خاطئ بشدة، ونظرة سريعة إلى التاريخ طويل الأمد للصين عبر تاريخها تظهر تنوعاً أكثر من المتوقع، فالأرض التي تسمى اليوم الصين حكمت من عشرات الممالك والسلالات الإمبراطورية في تاريخها، ومع أنها وحدت عدة مرات فطوال جزء طويل من تاريخها كانت مجزئة بشدة.

يتحدث اليوم حوالي 70٪ من الصينين لغة الماندرين المعروفة، ومع كونها منتشرة في منشوريا (شمال غرب الصين) ووسطها فهي ليست الوحيدة المتحدثَة، فالمناطق الجنوبية من الصين تتحدث مجموعة متعددة من اللغات واللهجات الخاصة بها والمتمايزة بشكل كبير عن الصينية المعتادة، وليزداد الأمر تعقيداً فماكاو تتحدث البرتغالية فيما تتحدث هونغ كونغ مزيجاً بين الإنجليزية البريطانية ولهجات صينية قريبة.

يعاني الشمال من اختلافات مشابهة كذلك، فعلى طول الحدود مع منغوليا؛ فاللغة المنغولية هي الأوسع انتشاراً، فيما أن المناطق المحاذية للحدود مع كوريا الشمالية تتحدث الكورية، أضف إلى ذلك اللغات الهندو أوروبية مثل اللغة الطجكية أو اللغات التركية مثل الكزخية بالإضافة للغة التيبتية الخاصة بسكان التبت، والنتيجة هي مزيج غريب جداً من اللغات التي تتربع الماندرن على قمتها لكنها بالطبع ليست وحيدة.

إذا شاهدت الفيديو أعلاه، ستلاحظ التغييرات الكبيرة في المناطق التابعة للصين عبر العصور والحكومات المختلفة لها.

عبر الوقت كان هناك عدة توحيدات للصين كما في عهد سلالات مثل تشين (Qin) ومينغ (Ming) وتشينغ (Qing) كذلك، لكن معظم الوقت كانت أجزاء كبيرة من الصين الحالية غير تابعة لأحد أو تابعة لممالك مختلفة ومتحاربة.

في الواقع لم توحد جميع أقاليم الصين المعروفة اليوم معاً سوى في القرن التاسع عشر على يد سلالة تشينغ (Qing)، مما لم يسمح للشعوب الصينية بالاحتكاك كفاية لتوحيد لغاتها.

ما سر الخلاف بين الصين وتايوان

علاقة تايوان مع الصين هي الأغرب في العالم ربما، مع حكومتين يدعيان الأحقية بحكم نفس الرقعة الجغرافية وكون إحداهما ليست عضواً في الأمم المتحدة على الرغم من أنها من المؤسسين لها.

في العالم اليوم هناك دولتان كاملتا السيادة فعلياً تحملان اسم الصين: جمهورية الصين (والتي هي جزيرة تايوان) وجمهورية الصين الشعبية (التي هي الصين المعروفة عالمياً).

كل من هاتين الدولتين تدعيان الأحقية بحكم نفس المنطقة الجغرافية التي تشملهما معاً، وكل منهما ترفض الاعتراف بالأخرى وتعتبر حكمها غير شرعي.

قد يبدو الأمر غريباً إلى حد بعيد بالطبع، وبالعودة إلى جذوره التاريخية تتضح الأسباب التي أدت إلى الوضع الحالي.

حتى القرن السابع عشر كانت جزيرة تايوان مسكونة من قبل شعوب ”الأبورجيني“ Aborginies التي هي المجموعة العرقية التي كانت تسكن أستراليا، لكن مع الوصول الأوروبي إليها من قبل البرتغاليين والبريطانيين حدثت هجرة كبيرة نحوها من مجموعة ”هان“ العرقية (المجموع العرقية الأساسية في الصين) حيث استوطنوها وباتت مكونة منهم بالدرجة الأولى، حيث أن أكثر من 95٪ من التايوانيين الحاليين ينتمون إلى هذه المجموعة العرقية.

في البداية تشكلت مملكة تحكم الجزيرة لمدة قصيرة من الزمن، لكن سلالة تشينغ (Qing) والتي هي آخر السلالات الإمبراطورية الصينية احتلتها لعدة عقود، قبل أن تجبر على تسليمها لليابان عام 1895 بعد الحرب الصينية اليابانية الأولى، بعدها في مطلع القرن العشرين تشكلت ”جمهورية الصين“ التي قادها الحزب الوطني، ومع هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية تولت جمهورية الصين حكم تايوان بالإضافة لحكم الصين نفسها.

بالطبع الأمور لم تجري كما أراد الوطنيون، وسرعان ما بدأت الحرب الأهلية الصينية وتمكن الشيوعيون من هزيمة الوطنيين الذين خسروا كل مناطق سيطرتهم في الأراضي الصينية بحلول عام 1950، وكانت حكومتهم قد هربت إلى تايوان منذ عام 1949 وهناك استقرت وتمكنت من الاستمرار بينما انشغل الشيوعيون بتثبيت حكمهم الداخلي.

في ذلك الوقت كانت حكومة تايوان (حكومة جمهورية الصين) عضواً مؤسساً في الأمم المتحدة، وخلال الستينات قادت انتقالاً للرأسمالية أدى إلى نمو اقتصادي متسارع وكبير، وضعها أمام الصين الشيوعية بكثير.

على أي حال لم تستمر الأمور على حالها، وبحلول عام 1970 كانت الصين الشعبية (الشيوعية) قد باتت من أعضاء الأمم المتحدة وبذلك فقدت تايوان مقعدها هناك وعلقت في حالة من الضياع بين عدة حالات، فمن ناحية لا تزال متمسكة بكونها الحاكم الشرعي للصين، ومن ناحية أخرى تريد الصين الشعبية ضمها لتكون جزءاً منها، وبنفس الوقت فهي لا تستطيع إعلان استقلالها التام خوفاً من الجارة الصين وكون الغالبية العظمى من البلدان في العالم لا تعترف بها كدولة أصلاً بل كإقليم صيني.

ربما الناحية الأكثر سخرية اليوم هي أن الحليف الأول لتايوان وحكومتها (التي تحولت للديموقراطية بدلاً من دكتاتورية الحزب الوطني منذ التسعينات) هي الولايات المتحدة التي تتولى حمايتها وتأمينها من خطر الغزو الصيني المحتمل، لكن بنفس الوقت لا تستطيع الولايات المتحدة الاعتراف بتايوان كدولة كونها ترغب بإبقاء علاقاتها مع الصين ودية قدر الإمكان، لذا فحالياً الولايات المتحدة تدعم استقلالية تايوان دون أن تعترف باستقلاليتها وتقيم علاقات قوية مع البلد الذي يريد ضمها من جديد.

الحدود الهندية الصينية والتبت

الحدود الهندية الصينية والتبت
كانت العلاقات الصينية الهندية ولا تزال تمتلك الكثير من التوترات السياسية التي لا يساعدها وجود الدالاي لاما في الهند حتى اليوم، ومع حدود متنازع عليها واضطرابات سياسية مستمرة في إقليم التبت فالأمور لا تبدو كأنها ستتحسن.

من حيث المبدأ، حكمت الصين هضبة التبت الشهيرة منذ مطلع القرن التاسع عشر حين توسعت امبراطورية سلالة تشينغ (Qing) إلى هناك وأنهت قروناً من ما يشبه الاستقلال في المنطقة، حيث أن الدالاي لاما (أعلى منصب ديني لدى البوذيين في التبت) كان هو الحاكم شبه الكامل للإقليم حتى وصول سلالة تشينغ.

خلال القرن التاسع عشر تعرضت التبت للعديد من التقلبات التي تضمنت الغزو النيبالي للهضبة ومن ثم عودة انتشار الإمبراطورية الصينية وغزو الإمبراطورية السيخية (امبراطورية البنجاب)، وحتى سقوط امبراطورية سلالة تشينغ عام 1912.

بالوصول للقرن العشرين تمكنت التبت من الاستقلال مجدداً وعادت لتنطوي تحت حكم الدالاي لاما مجدداً، ومع كون الصين كانت تحت سيطرة اليابانيين فقد تجنبت النفوذ الصيني حتى الأربعينيات حيث بدأت حكومة الحزب الوطني الصيني (التي هربت لاحقاً إلى تايوان) والتي أرادت علاقات ودية واعتذاراً عن تصرفات الإمبراطورية الصينية سابقاً لكن طلبها رفض من التبتيين.

قامت لاحقاً حكومة الحزب الوطني بالتمدد وضم التبت، لكن هيمنتها لم تدم مع اندلاع الحرب الأهلية الصينية وسطوع نجم الشيوعيين.

بعد انتصار الشيوعيين في الحرب الأهلية في مطلع الخمسينيات، قاموا بالتوسع نحو الغرب وتم توقيع معاهدة مع حكومة الدالاي لاما الرابعة عشر، ومع إنكار الدالاي لاما للمعاهدة ورفضه إياها ازداد التوتر وأدى إلى الثورة التبتية عام 1959.

وجهت الثورة بقبضة حديدية من الصينيين ودعم أمريكي، وسرعان ما هربت حكومة الدالاي لاما والدالاي لاما نفسه إلى الهند، بينما استغل الصينيون الأمر لفرض الإصلاحات الاجتماعية التي كانوا يريدون تطبيقها لتغيير الطبيعة المجتمعية للتبت.

قادت السيطرة الصينية على التبت إلى تغييرات كبيرة في المنطقة، فعبر الحقبة ما بين عامي 1949 و1976 فيما يعرف باسم ”القفزة العظيمة للأمام“ قتل ما يتراوح بين مئتي ألف ومليون تبتي، بينما تم تدمير أكثر من ستة آلاف معبد ودير بوذي، وهو ما قاد لفقدان الجزء الأعظم من العمارة التبتية التاريخية.

مع الوقت تحسن الوضع مع إعطاء الإقليم ما يشبه الحكم الذاتي، لكن الأمور بقيت مستمرة من حيث مطالبات دورية بالاستقلال تواجه بحملات صينية تقمع الاستقلاليين مجدداً، كان آخرها عام 2008.

على عكس قضية التبت المعقدة، فالصراع الحدودي بين الصين والهند كان بسيطاً إلى حد بعيد وجرى مع كون كل من البلدين بدءا حكمهما في وقت قريب نسبياً (الهند استقلت فعام 1947 وانشغلت بصراعها مع باكستان، والصين الشعبية بدأت بشكل فعال عام 1949 وانشغلت بتثبيت حكمها بعد الحرب الأهلية)، ومع الحاجة لترسيم حدودهما بدأت الأمور بالتوتر خصوصاً وأن منطقة الخلاف تقع قرب إقليم كشمير المتنازع عليه أصلاً بين كل من الصين والهند.

عام 1961 اشتعلت الحرب بين الطرفين، مع كون أحد أسبابها استقبال الهند للدالاي لاما وحكومته الفارين من التبت، وعلى مدار شهر واحد دارت اشتباكات عديدة على ارتفاع حوالي أربعة آلاف متر عن سطح البحر في ظروف قاسية جداً، وفي المحصلة انتهى الأمر بنصر صيني ووقف إطلاق نار لا يزال قائماً حتى اليوم، ولو أن الحدود بين الطرفين لا تزال متنازعاً عليها نسبياً مع كون الخرائط الخاصة بكل دولة تتضمن مناطق متقاطعة بمساحة كبيرة تتجاوز عشرة آلاف كيلومتر مربع.

هونغ كونغ وماكاو

هونغ كونغ وماكاو
تمتلك كل من هونغ كونغ وماكاو عملات مختلفة وجوازات سفر (جنسيات) مستقلة، ويمكن القول أنهما تماماً دول ضمن الدولة الصينية.

حالة هونغ كونغ وماكاو هي واحدة من أغرب الحالات في العالم ربما، فمع أن كلاً من هاتين المدينتين يتبعان رسمياً للصين، فهما مختلفتان بشكل كلي عنها، فعلى عكس الحكم الشيوعي والاقتصاد الذي لا يزال مقيداً ولو قليلاً في الصين الكبرى، ففي هاتين المدينتين تعيش الرأسمالية بشكل كامل ودون حدود تقريباً، فالتجارة والاستثمار في هونغ كونغ حران إلى أبعد الحدود على عكس الصين التي تتبع سياسة حماية كبيرة، والاقتصاد في ماكاو اليوم قائم بشكل شبه كامل على كونها عاصمة القمار العالمية، مع تدفق مالي أكبر بأضعاف من مدينة لاس فيغاس الأمريكية الشهيرة.

تمتلك حالياً كل من هونغ كونغ وماكاو حكومات خاصة بها ودساتير خاصة بها كذلك، لكن الأمر لا يتوقف هنا فقوى الشرطة مختلفة تماماً وحتى أنهما تمتلكان عملات مستقلة (باتاكا في ماكاو والدولار في هونغ كونغ والمرتبط بشكل مباشر بالدولار الأمريكي)، وحتى جوازات سفر خاصة حيث أن من يتنقل من هونغ كونغ إلى الصين يحتاج لختم جواز سفره في الذهاب والعودة والأمر نفسه لماكاو وحتى بين هونغ كونغ وماكاو.

يبدو الأمر غريباً للغاية، وسبب هذه الغرابة هو أن مدناً صينية من حيث المبدأ مختلفة تماماً عن الصين، لكن التفسير لهذا النوع من الحالات كما العادة هو الاستعمار.

كل من هونغ كونغ وماكاو كانتا مستعمرتين سابقتين في الواقع، فماكاو كانت تحت الحكم البرتغالي منذ القرن السادس عشر تقريباً ولم تسلم إلى الصين حتى عام 1999، وكذلك هونغ كونغ كانت مستعمرة بريطانية منذ عام 1842 (بعد حرب الأفيون الأولى) وفي عام 1898 استأجرتها بريطانيا بشكل رسمي لمدة 99 سنة انتهت عام 1997 حين تم تسليمها للصين مجدداً، وتم توقيع اتفاقيات تنص على إعادة دمج كل من هاتين المدينتين بالصين على أن تحافظا على استقلالية شبه كاملة طوال خمسين سنة تالية (حتى 30 سنة من الآن تقريباً).

حالياً لا تزال المدينتان مستقلتين إلى حد بعيد (تعدد جوازات السفر وامتلاك هونغ كونغ لمنتخبات أولمبية كافٍ كدليل ربما) لكن الصين تحاول منذ الآن بسط نفوذها هناك إلى أكبر حد ممكن، ففي السنوات الأخيرة حولت الصين الحكم في هونغ كونغ بحيث يكون البرلمان نصف منتخب من الشعب بينما تختار بكين النصف الآخر، وفي نهاية عام 2017 حاولت تحويل الأمر لجعل جميع المرشحين يحتاجون لموافقة بكين قبل انتخابهم حتى، وهذا ما أثار احتجاجات واسعة في هونغ كونغ على شكل مظاهرات واعتصامات تعد حرية شخصية هناك على عكس الصين.

مقالات إعلانية