in

اضطرابات ما بعد الصدمة: الفصام والاكتئاب

يقول (نيتشه): ”دوستويفسكي هو الوحيد الذي زادني معرفةً في علم النفس“. بالفعل، لطالما سمحت الشخصيات الأدبية باكتشاف تعقيدات النفس البشرية، إذ تداخل الجنون مع خيال بعض الأدباء كـ(موباسان) و(نيرفال) و(مارغريت دورا)، فباتوا محلّلين نفسيين يضفون شيئاً من غرابة الهلوسات والهستيريا على كتاباتهم. لكن هل سبق لهم وأن قاموا بوصف الاضطرابات النفسية التي تتطور نتيجةً للكبت تارة، والإصابة بالصدمات الدماغية تارة أخرى؟ نقص عليكم في هذا المقال قصة قاتلَين صامتَين غفلنا عنهما طويلاً، ألا وهما الاكتئاب والفصام، لذا لنبدأ رحلتنا في تفكيك النفس البشرية وإيجاد الحلقة الضائعة، ألا وهي الجينات.

ليس غريباً بالنسبة لأولئك الأشخاص الذين عانوا من أحداث مؤلمة أن يكون لديهم ذكريات متقطعة أو متداخلة أو كوابيس عندما حدث هذا الشيء الفظيع لهم –كالهجمات الإرهابية والتفجيرات والعنف، وتطول القائمة أكثر فأكثر… أصبحنا نعلم الآن أن (الإصابات الدماغية) Traumatic Brain Injuries مشكلة تهدد العالم أجمع، ولذلك سميت في مرحلة لاحقة بـ”الوباء الصامت“ نظراً لمحدودية المعرفة العامة والوعي حول هذه المسألة وأعراضها، مثل مشكلات الذاكرة والاضطرابات السلوكية والتي ربما قد لا تكون واضحة على الفور بعد الصدمة.

أولاً: الاكتئاب Depression

لابد وأنك تشعر أحياناً بضيق في المزاج أو الحزن واليأس، أو ربما اليأس الذي لا يتحسن مع مرور الوقت، ربما في مرحلة ما تتمكن منك كل هذه العوامل دفعة واحدة عندها يبدأ القلق من كونك مصاباً بالاكتئاب. بالتأكيد، سيزداد القلق إنْ شعرت بالاكتئاب أو فقدان الاهتمام في الأنشطة المعتادة لأكثر من عدة أيام في الأسبوع، أو إذا استمرت تلك الأعراض لأكثر من أسبوعين. فعندها لابد أن تحرك ساكناً، إذ يجب عليك مراجعة الاستشاري النفساني خوفاً من تطور النوبات أكثر فأكثر.

لكن يبقى السؤال الأهم هو كيف تزيد الجينات من خطر الإصابة بالاكتئاب في حالة التعرض لإصابة بالدماغ؟!

تُرجح دراسات حديثة، وبشدة، أن التغيرات الفيزيائية التي تحصل في الدماغ بعد التعرض للإصابة قد تؤدي إلى الإصابة بالاكتئاب نتيجة إصابة المناطق التي تتحكم في العواطف، حيث يؤدي التغير في مستويات النواقل العصبية إلى الإصابة بالاكتئاب.

المحور العصبي. صورة: Chiropractor Bakersfield CA

إن الجينات التي يُعتقد أنها مرتبطة بالاكتئاب، لها وظائف متنوعة في الدماغ، فقد تتحكم بعض هذه الجينات في إنتاج ونقل، أو حتى نشاط، النواقل العصبية neurotransmitters –التي تنقل الإشارات الكيميائية –والتي تسمح للخلايا العصبية (العصبونات) بالتواصل مع بعضها البعض. وتشارك جينات أخرى، قد تزيد من خطر الاكتئاب، في نمو الخلايا العصبية ونضجها وصيانتها دورياً، فضلاً عن قدرة الروابط بين العصبونات (المشابك) على التغيير والتكيف بمرور الوقت استجابة للخبرة، وهي خاصيّة تعرف باسم التشابك اللدني. وكذلك يمكن للإصابات الدماغية أن تؤثر على السلاسل الجينية وتعيد ترتيبها بطريقة مختلفة، مما يؤثر على وظائفها.

وقد اقتُرح، على المستوى النظري، أن تمزق الدوائر العصبية، التي تشمل كلاً من القشرة المخية قبل الجبهية واللوزتين والحُصين والعقد (النوى) القاعدية والمهاد، قد يكون مرتبطاً بتطور الاكتئاب بعد الإصابات الدماغية نتيجة الخلل في عملية نقل السيروتونين والدوبامين في هذه المراكز، والذي يعزى بدوره إلى تغيّرٍ في السلسلة الوراثية.

إلا أنّ دراسةً أهم ظهرت مؤخراً للعلن، أجراها باحثون في كلية الطب بجامعة هارفارد في مستشفى ماساتشوستس العام، والتي أظهرت دورًا حاسمًا لبروتين يدعى Klf9 (العامل التاسع الشبيه بالكربل) في استجابة الدماغ للإجهادات. حيث تظهر النتائج أهمية كبيرة في الحماية ضد آثار الإجهاد في ظروف مثل الاكتئاب الشديد واضطراب ما بعد الصدمة PTSD.

مقطع يوضح بنية الحصين التشريحية. صورة: physiology.elte.hu

كما أضاف القائم على المشروع Amar Sahay أن أبحاثاً أخرى في جامعة كولومبيا أكدت أن هذا العامل سيرتفع في حصين النساء المصابات باضطراب اكتئابي أعظمي، واللواتي تعرضن لإصابات دماغية خطيرة نتيجة تغير في بنية الحصين.

ومن بين هذه التغيرات في الحصين هي التغيرات في عدد وبنية التفرعات الشجرية (نتوءات صغيرة من العصبونات التي تتلقى إشارات من الخلايا المجاورة وترسلها عبر العصبون)، ومن المعروف أن ارتفاع Klf9 ظل مرتبطاً بالأفراد الذين يعانون من الاكتئاب الشديد، حيث بينت الدراسات السريرية على 12 شخصاً مصاباً بالاكتئاب الشديد أن مستويات هذا العامل الجيني كانت مرتفعةً في الحصين، ولاسيما بعد تعرضهم لأحداث إجهادية أحدثت أذية دماغية في قرن أمون في الحصين.

ثانياً: الفصام Schizophrenia

لايعبر مرض الفصام عزيزي القارئ عن امتلاك الشخص لشخصيات متعددة ومنفصلة عن بعضها كما شاهدت في فيلم Split، وإنما يعبر عن انفصال الوظائف العقلية عن بعضها كالإدراك والذاكرة والتفكير.

حيث أشار مقالٌ تابع لمنظمة الصحة النفسية الأمريكية إلى أنه من الممكن للفصام الذي يحدث عقب إصابات دماغية أن يكون عبارة عن نسخة طبق الأصل من الفصام الوراثي، أو كنتيجة للتفاعل بين الجينات والبيئة.

إذ قام الباحثون بالبحث عن العلاقة بين إصابات الدماغ والتشخيص النفسي لدى مجموعة كبيرة من الأشخاص من العائلات التي لديها على الأقل قرابة من الدرجة الأولى ذات الصلة بيولوجيًا مع الفصام أو اضطراب فصامي عاطفي أو اضطراب ثنائي القطب. وتم استخدام المقابلات التشخيصية للدراسات الوراثية لتحديد تاريخ إصابات الدماغ، والتشخيص لـ 565 عضوًا من الأنساب الفصامية المتعددة، وكانت معدلات إصابات الدماغ المؤلمة أعلى بكثير بالنسبة لأولئك الذين شُخصت إصابتهم بمرض الفصام، من أولئك الذين لا يعانون من مرض عقلي.

يُذكر أن الباحثين الذين كانوا يأملون في إيجاد فرق بين الجنسين في الإصابة بالفصام بعد الإصابة الدماغية قد فشلوا في ذلك، لكن عوّل الباحثون على أن نسبة 19.6٪ من الأشخاص الذين شُخّصوا بالفصام، كان لديهم أصول في الإصابة بالفصام ضمن العائلة، أي ضِعف جيني أكبر للمرض.

أخيراً، ننصحك بأن تكون متسامحاً إلى حد كبير مع جهازك العصبي، لأنه قد يعاني من رد فعل طبيعي نتيجة الصدمة التي قد تتعرض لها، حاول قضاء بعض الوقت مع أحبائك وشاركهم في الأنشطة المفضلة لديك، كما يجب ألا ننسى ضرورة المراجعة الدورية للاستشاري النفسي و كنْ على ثقة بما يقوله لك طبيبك النفسي عن حالتك.

مقالات إعلانية