لعل أول ما يأتي للأذهان عند التحدث عن إسبرطة هو كونها «مدينة المحاربين»، خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر قبل الميلاد؛ ذاع سيط تفوّق الإسبرطيّن عسكرياً ما أكسبهم احترام وخوف سكان العالم القديم، ولكنّ سيطاً آخر قد ذاع لهم وهو سوء معاملتهم للعبيد.
أُطلق على العبيد في ذلك الوقت مسمّى (الهيلوتس) Helots، وقاسى هؤلاء شتى أنواع الظلم والمعاناة بعيشهم في مجتمع مبني على تدريب القتلة، وتعرضوا للإهانة وعوملوا كالبهائم، بالإضافة لوجود المجتمع السري الـ(كريبتيا) الذي عمِل أفراده على اقتناص العبيد وقتلهم بوحشيّة.

أهوال العبوديّة في إسبارطة:
إنّ جلَّ ما نُفكر فيه حين نفكر في إسبرطة هو مقاتلوها الأشداء وبطولاتهم، ونميل لتجاهل العبيد بالرغم من أنهم شكلّوا جزءاً كبيراً من المجتمع الإسبرطي، فقد كانت تجارة العبيد جزءاً لا يتجزأ عنه حتى أصبحت نسبة المواطنين إلى العبيد واحد إلى سبعة، وبالرغم من تجاوز أعداد (الهيلوتس) أعداد السكان بأضعاف فقد عوملوا بطرقٍ وحشية ومسيئة جداً حتى طبقاً لـ”معاير معاملة العبيد“، فكانت حياتهم سلسلة من الإهانات المتواصلة، وقد وصل الأمر أنه إن سُمع أحدهم يدندن أغنية إسبرطيّة فقد كان يتم ضربه، لأنه بغنائه هذا يحاول التشبّه بالمواطنين ويقترح أنه متساوٍ في المقام معهم.
تصرفٌ آخر يبيّن مدى قسوة الإسبرطيّن على العبيد هو إرغامهم على شرب الكحول حدّ الثمالة ثمّ تحريضهم على إهانة أنفسهم، ليظهروا لأولادهم مضار الإكثار من الشرب.
كان ظلم السكان للعبيد جليّاً لدرجة أن المدن المجاورة لإسبرطة شعرت بالأسف على ما يقاسيه هؤلاء، وشاعت هناك مقولة في أثينا تدلّ على ذلك وهي: ”الرجل الحرّ في إسبرطة يتمتع بحرية أكثر من أي رجلٍ على سطح الأرض، والعبد في إسبرطة أكثرَ عبوديّة“.

مجتمع الـ(كريبتيا) The Krypteia:
إنّ الـ(كريبتيا) هي قطعاً أسوء ما عانى منه العبيد في إسبرطة، وتعرف الـ(كريبتيا) على أنها برنامج مدنيّ يُسمح للمنخرطين فيه، وبدون أي مبرر وفي أي وقت، بذبح عبيد (الهيلوتس).

ضمَّ هذا البرنامج أفضل وأذكى فتيان إسبرطة، وكان يتم اختيار الفتيان الذين على وشك البلوغ ليتمّ تدريبهم من أجل الحروب، فيُجهزون بخناجر ومعدات أساسية للحفاظ على بقائهم ثمّ يؤمرون بقتل العبيد، فيتسللون لاحقاً إلى الأرياف في جنح الظلام باحثين عن (الهيلوتس)، ويحاولون اقتناص أقوى وأضخم العبيد دون النظر إلى كفاءتهم أو وفائهم أو إن كانوا قد اقترفوا أمراً خاطئاً أم لا، فيتم اصطيادهم وتقطيعهم والتنكيل بهم.
الـ(كريبتا)، تقليد إسبرطي أعتُزّ به:

دعى (فلوطرخس)، وهو مؤرخ أثيني مشهور، (الكريبتيا) بـ”جرم بحق العدالة“، وأزعجه أن القائد الإسبرطي (ليكوريغس)، الذي لطالما قدرّه، كان أحد الأشخاص الذين شجعوا على وجود هذه الجماعات. لم يكن موقف هذا الكاتب سائداً بين اليونانين، فقد اعتبرَ العديد من الإسبرطيين قتل العبيد من التقاليد النبيلة ووافقهم على ذلك بعض سكان أثينا.
يقتبس أفلاطون أحد الإسبرطين المدعو (ميغيلوس) قائلاً: ”تقوم (كريبتيا)، كما تسمّى، بإكساب الرجال الشجاعة والإقدام إذ أن إمضائهم للشتاء حفاة الأقدام، وتجوالهم ليلاً ونهاراً، ونومهم دون أغطية، وعدم وجود من يعتني بهم ويقوم على احتياجاتهم يدفعهم للاعتماد على أنفسهم“.
بالنبسة لأشخاص مثل (ميغيلوس) فذبح العبيد كان مجردَ وسيلةٍ أخرى لصناعة محاربين أقوياء، تماماً كإجبار الأطفال الصغار على سرقة الطعام، أو كتقليد رمي الأطفال الضعاف في البريًة ليلقوا حتفهم.
ما الذي دفعَ الإسبرطيين لاعتماد تقليد بهذه الوحشية؟

قد يظن المرء أنه لابدّ من مبرر لوجود الـ(كريبتيا)، لكنّ الحقيقة أنه ليس هنالك مبرر يدفع بشخص لقتل آخر، وبالأخص إن كان بريئاً، وهذا ما أكدّه سكان أثينا آنذاك.
إنً الحقيقة أن هناك أسباباً لوجود هذا المجتمع، لكنها بالطبع ليست مبررات، فما نعلمه أن (كريبتيا) استُخدمت لجعل الأولاد أقوى، كما قال (ميغيلوس) سابقاً، إذ إن الانتماء إلى (كريبتيا) كان أكثر من مجرد اتخاذ دور في لعبة حربيّة، فقد كان على هؤلاء الفتيان حصدَ الأرواح، وكان عليهم أن يثبتوا أنهم حين مواجهتهم لعدوٍ حقيقي لن يترددوا في قتله.
بالإضافة إلى جعل الفتيان أشداء، كان هناك سببٌ آخر لنشوء هذه المجموعات، فقد أراد الإسبرطيون غرسَ الخوف في نفوس العبيد، ولم تكن (كريبتيا) هي أولى الممارسات الوحشية التي قاموا بها في سبيل ذلك، ففي عام 491 ق.م، تم اختيار 2000 شخص من أقوى وأفضل العبيد ثمّ زُيّنت رؤوسهم بالأكاليل وتمّ اقتيادهم إلى أحد المعابد لتصفيتهم.
قيل حسب بعض الروايات أن (كريبتيا) نشأت بعد ثورة العبيد في إسبرطة، وبالرغم من قمعهم لتلك الثورة فلم ينسى الإسبرطيون الدرس الذي لُقنوه في تفوّق العبيد عليهم، ومنذ ذلك الحين أُعلِنت الحرب على (الهيلوتس) ولم يعد قتلهم عملاً وحشيّاً بل ركناً من أركان الحرب، وحتى بعد توقف (الهيلوتس) عن القتال استمر الإسبرطيون بمحاربتهم ليوضّحوا ما سيحدث تماماً إن حاول أحد هؤلاء التمرد من أجل حريتهم مجدداً.