in

دخلك بتعرف الحدث المريع الذي ألهم (بيكاسو) لإبداع إحدى أروع أعماله

إنّ عمل بيكاسو بعنوان (غرنيكا) هو أحد أعظم أعمال القرن العشرين الذي جسد موقفاً قوياً وثابتاً ضد الحروب وأهوالها.

أمضى (بيكاسو) في سنة 1937 ثلاثة أشهر محاولاً إيجاد مصدر إلهام لرسم جدارية كانت قد طُلبت منه من أجل الخيمة الإسبانية المشاركة في معرض باريس العالمي في العام نفسه، إذ كان القلق قد أخذ مأخذه في حياة (بيكاسو) سواء على الصعيد الشخصي أو فيما يتعلق بالحرب الأهلية التي كانت قد اندلعت في إسبانيا، ما أثر على قدرته في الإبداع، لكن الأمر الذي أعاقه في بداية الأمر كان سبباً لإلهامه في النهاية، فأبدع جداريّة صوّرت همجيّة الحرب وبشاعة ما جلبته على عامة الناس.

جريمة حرب

في عام 1937، قاد الجينرال الإسباني (فرانسيسكو فرانكو) إنقلاباً جزئياً ناجحاً ضد «جمهورية إسبانيا الديموقراطية» ونتج عن هذا الانقلاب أن أصبح جزء من إسبانيا تحت سيطرته، بينما بقي الجزء الآخر تابِعاً للجمهورية، لم يلبث أن تحوّل النزاع في إسبانيا إلى صراع عالمي، حيث دُعمت الجمهورية الإسبانية من قِبل الإتحاد السوفييتي، و(فرانكو) من قبل الفاشية الألمانية وإيطاليا، وذلك في ظل الحرب العالمية الثانية.

موت من السماء: مدينة (غيرنيكا) الإسبانية بعد القصف الألماني الإيطالي الكبير الذي تعرضت له.
موت من السماء: مدينة (غيرنيكا) الإسبانية بعد القصف الألماني الإيطالي الكبير الذي تعرضت له – صورة: UIG/Getty Images

صباحَ الـ26 من أبريل عام 1937؛ شاهد بعض أعضاء طاقم السفينة البريطانية H.M.S تشكيلة جويّة من الطائرات حاملة قنابل القصف الألمانية والإيطالية في اتجاهِها نحو مدينة (غرنيكا) الإسبانية. بدأ الهجوم حوالي الساعة 4:30 مساءً واستمر لثلاثة ساعات متواصلة، وقد استُخدمت مواد شديدة الانفجار ومواد حارقة في قصف تلك المدينة الهادئة.

أسرع الصحفي الحربي لصحيفة (التايمز) في لندن (جورج لوثر ستيير) بالذهاب إلى موقع الحدث حالما وصلته الأنباء، مُصدراً تقريراً للفت انتباه العالم لهذه الفاجعة فكتب: ”لقد وصلت إلى المدينة في الثانية صباحاً، وكانت مشاهدة ما حل بهذا المكان أمراً فظيعاً، فقد شاهدتها تحترق من مدخلها إلى أطرافها“، وأوضح (ستيير) للعالم أن هذا الهجوم لم يكن لهدفٍ عسكري أو حربي، ولكنه مجرد عمل إجرامي فظيع لترويع المدنيين وبث الرعب في قلوبهم، وقد قال: ”يوجد بالقرب من المدينة معمل لإنتاج الوسائل الحربية لكنه لم يمسَّ بضرر، بالإضافة لوجود ثكنتين عسكريتين خارج المدينة ولم يقربهما سوء أيضاً“.

القنابل تقصف والفن يرد

في اليوم التالي للحادثة، كان (بابلو بيكاسو) يجلس في مقهىً باريسيّ ولم يلبث أن بدأ بقراءة الجريدة حتى رأى الخبر الفظيع وعرف أنه قد وجد ما يلهمه، بدأ العمل سريعاً فملأ لوحةً ضخمة في وقت قياسي منتجاً إحدى أعظم الأعمال التي تصوّر مدى قسوة وبشاعة الحرب.

رسمة أولية للوحة
في الأول من مايو 1937؛ قام (بيكاسو) بانهاء رسمة أولية للوحة، كان الثور والحصان موجودان في المسودات الأولية للوحة جنبا إلى جنب مع الجندي الساقط والمرأة مع مصباح.
رسمة أولية للوحة
أجرى بيكاسو العديد من التنقيحات على العمل؛ على الرغم من أن معظم الشخصيات ظلت ثابتة. يقال إن لوحة بألوانها السوداء والبيضاء والرمادية مستوحاة من طريقة طباعة الصحف، مما يعكس أن الحرب الأهلية الإسبانية كانت واحدة من أولى الصراعات التي تغطيها وسائل الإعلام بشكل مكثف.
بابلو بيكاسو أمام لوحة (غيرنيكا)
بابلو بيكاسو أمام لوحة (غيرنيكا): استطاع (بيكاسو) إنجاز اللوحة في خمسة أسابيع فقط، هناك قصة –ربما ملفقة– أن ضابطا نازيا سأل (بيكاسو) بعدما رأى اللوحة قائلا: ”هل فعلت هذا؟“، فأجابه (بيكاسو): ”لا، أنت من فعل هذا“.

بعد عرض اللوحة في معرض باريس العالمي؛ بدأت اللوحة جولتها حول العالم بدءاً بباريس وانتهاءً بأميركا، حيث استقرت في متحف الفن المعاصر في مدينة نيويورك لـ42 عاماً.

ألهمت اللوحة العديد من الفنانين الأميريكين، أحدهم (جاكسون بولوك) الفنان الذي تميّز برسمه التجريدي، وقد عُرف عنه أنه كان يذهب يومياً إلى المتحف ليحدق لساعات طوال في لوحة (بيكاسو)، وفي إحدى القصص الطريفة قيل أن (بولوك) سمع أحدهم يقلل من شأن اللوحة فذهب إليه وطلب منه أن الخروج من المتحف لمواجهته في عراك نداً لندٍّ.

أوضح (بيكاسو) أنه لن يَسمح أن تعود اللوحة إلى موطنه إلى أن يتم إعلان إسبانيا كجمهورية مجددا، في الحقيقة لم يشهد (بيكاسو) عودة اللوحة لموطنه الأم حيث توفي قبل موت الجنرال (فرانكو) عام 1975 بعامين، وبعد موت هذا الأخير تم إعلان إسبانيا كجمهورية تحت سلطة دستورية ملكيّة، وبالرغم من أن هذا الانتقال لم يجعل إسبانيا الجمهورية التي حلِم (بيكاسو) بها؛ سُمح للوحة بالعودة لإسبانيا عام 1981 وعرِضت في متحف (برادو) في مدريد.

العمال في متحف الفن الحديث وهم يقومون بلّف اللوحة قبل إرسالها لإسبانيا عام 1981
العمال في متحف الفن الحديث وهم يقومون بلّف اللوحة قبل إرسالها لإسبانيا عام 1981 – صورة: Bettmann/Getty Images

احتُفظ باللوحة خلف زجاج مضاد للتفجير والرصاص بسبب استمرار مظاهر الحرب الأهلية في إسبانيا، إلى أن انتقلت عام 1992 إلى معرض (رينا صوفيّا) وبقيت هناك حتى الآن ويزورها يومياً ما يقارب الـ11000 شخص.

لا تزال الحرب تهدد ملايين المدنين الآمنين إلى يومنا هذا، وهكذا فإن اللوحة لا تزال تجسد ما يقاسيه العالم اليوم من مآسٍ. كان (بيكاسو) حذراً دوماً وتجنب شرح أعماله وما تفسيرها، وهكذا فهو لم يفسّر (غرنيكا) وكان كل ما قد قاله: ”إن كنت تعطي معنىً محدداً لأشياء معينة في رسوماتي، فقد يكون معناك صحيحاً لكن الحقيقة أنني حين أرسم لا أعطي تفسيراً معيناً لأي شيء، فأنا أرسم الأشياء غريزياً ودون وعي، أنا أرسم اللوحة لأجل اللوحة ذاتها، وأرسم الأشياء على ما هي عليه.“

لوحة (غيرنيكا) لـ(بابلو بيكاسو)
لوحة (غيرنيكا) لـ(بابلو بيكاسو).

تلقت لوحة (بيكاسو) الثناء من قبل العديد من الناقدين والرسامين لقدرتها التصويريّة الهائلة، وقد حاول الكثيرون تفسير رموزها. تشير بعض هذه التفسيرات إلى الالتباس الذي يحيط بالثور –وهو رمز إسباني– فيقول بعضهم أنه إشارة للضحايا الإسبان أو أنه دليل على وحشية ما حدث.

وقد تشير شخصية الأم الثكول التي تنتحب ولدها بين ذراعيها لمنحوتة (بيتا) لـ(مايكل أنجيلو)، التي تبكي فيها مريم العذراء طفلها الميت، وإحدى الشخصيات المركزية في اللوحة هي الحصان المطعون الذي يسير بلا هوادة على الجسد المكسور لأحد العساكر.

منحوتة (بيتا) لـ(مايكل أنجيلو)
منحوتة (بيتا) لـ(مايكل أنجيلو)

إن الرمز الوحيد الذي يبعث على الأمل في اللوحة هو الفتاة التي تمد رأسها خارج النافذة حاملةً في يدها مصباحاً يسلط الضوء على الخراب ليتمكن العالم من رؤية ما حدث.

بالنسبة للناقد (هيربرت ريد)؛ كانت (غرنيكا) ”هضبة «الجلجثة» [هي الهضبة التي يقال أن اليسوع صلب عليها خارج مدينة القدس] الذي دَمرت القنابل فيه بقايا الحنان والعطف البشري“، وقد صنفها الناقد الأسترالي (روبرت هيوز) ضمن موروث الفن الغربي باعتبارها ”آخر اللوحات التي صوّرت التاريخ بشكل عظيم، كما أنها كانت آخر لوحات الفترة المعاصرة التي اشتملت على أهمية كبرى في سعيها لتغيير نظرة الكثير من البشر للسياسة والسلطة“.

مقالات إعلانية