تواجه الأقليات الدينية والإثنية في جميع أنحاء العراق وسوريا اليوم مصيراً مجهولاً وغير مؤكد، وكان وجودها بمثابة تذكارٍ عن التنوع الإثني والديني في تلك الفترة. ومع مرور أكثر من 100 عام على انتهاء الحرب العالمية الأولى، نعتقد أن الوقت مناسب جداً لتقييم العلاقة بين القومية والهوية العرقية والانتماء الديني التي نشأت في سوريا الكبرى، والمزيج السام من المصالح الذاتية الاستعمارية والاستبدادية والدين، وهي أمور لا نزال نحن العرب ندفع ثمنها غالياً حتى اليوم.
استطاعت الامبراطورية العثمانية تحقيق انتصارات عديدة على مر السنوات، لكنها أصبحت في حالة يرثى لها عند اندلاع الحرب العالمية الأولى، لكنها دخلت في هذه الحرب الطاحنة عندما تحالفت مع الامبراطوريتين الألمانية والنمساوية-المجرية، وشنت قواتها البحرية هجوماً على قواعد البحرية الروسية في البحر الأسود. استطاعت القوى العظمى في أوروبا إجبار الدولة العثمانية على التراجع، ثم طوقت الامبراطورية العثمانية وحاصرتها بمجموعة من الممتلكات الاستعمارية التي وقعت تحت سيطرتها. لكن أكبر خسائر الامبراطورية العثمانية هي الروح القومية التي انتشرت بين الشعوب الخاضعة لها في نهايات القرن التاسع عشر.
بحلول عام 1914، فقدت الامبراطورية العثمانية سيطرتها على الشعوب المسيحية في البلقان، وتقلصت أراضيها الأوروبية إلى المناطق التي تحتفظ بها تركيا اليوم. ومع ذلك، بقي العثمانيون مسيطرين على الأراضي الآسيوية التي تمتد عبر سوريا الكبرى إلى أقصى شبه جزيرة سيناء، وعلى طول ساحل البحر الأحمر حتى اليمن، وأسفل الفرات إلى البصرة في العراق. أي كانت الشعوب التي تقطن أكثر من نصف أراضيها المتبقية عربية. ربما كانت القومية مجرد فكرة سياسية سائدة في تلك الأوقات، لكن هل اعتقد العرب أن بإمكانهم الحصول على امبراطوريتهم الخاصة؟ وهل كانت الحرب القادمة السبيل الوحيد لتحقيق أحلامهم؟
التركيبة الإثنية والدينية في الإمبراطورية العثمانية

لطالما كانت الإمبراطورية العثمانية دولة متعددة الأعراق تقوم على أساس الولاء للسلالة الحاكمة وليس على هوية قومية مشتركة (وهي لا تختلف عن حال الدول التي سبقتها في تلك المنطقة). وكان أكبر خلاف في الامبراطورية هو الدين. ولا نقصد هنا المسيحيين واليهود، والذين امتلكوا وضعاً خاصاً حددته الشريعة الإسلامية، بل نتحدث عن المسلمين، وتحديداً أولئك الذين لا ينتمون إلى المذهب السني، والذين لطالما اعتُبروا مواطنين درجة ثانية وحتى ثالثة.
كان على غير المسلمين دفع ضرائب إضافية والاعتراف بالهيمنة أو التفوق الإسلامي. كما تم إعفاؤهم من الخدمة العسكرية. لكن هذه الفروق زالت لاحقاً –نظرياً على الأقل. أما المراسيم التي صدرت في عام 1839 وعام 1856، والتي أبطلت التمييز بين المواطنين على أساس الدين، فكانت بمثابة أمل لليبراليين العثمانيين (الأتراك) في خلق روح جديدة من الوطنية العثمانية. يمكن اعتبار هذه المراسيم امتداداً للعلمنة التي حدثت في أوروبا في القرن التاسع عشر. ففي بريطانيا على سبيل المثال، لم يمنح الروم الكاثوليك حقوقهم الكاملة حتى عام 1829.
لكن تبني الأفكار العلمانية الأوروبية لم يكن بالأمر السهل على الإطلاق، بل كان معقداً إن صح التعبير، نظراً لتداخل وتشابك الجماعات العرقية والطوائف الدينية بالمجمل. فاعتبرت الامبراطورية رعاياها من اليونايين العثمانيين جماعة دينية منفصلة سمح لها السلطان بالحكم الذاتي الداخلي. وبعد تهالك الإمبراطورية عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، حدثت هجرات سكانية بين تركيا واليونان. بينما اعتُبر جميع المسلمين، حتى لو كانوا ناطقين باليونانية، من الأتراك. وأُجبروا على مغادرة اليونان والهجرة إلى الجمهورية التركية الجديدة التي نشأت من رماد الإمبراطورية المحترقة. أما المسيحيون الناطقون باللغة التركية في الأناضول، والذين يتبعون الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية، فاعتبروا تلقائياً يونانيين، واضطروا أيضاً إلى مغادرة أراضيهم والهجرة إلى اليونان.
إن هذه الأحداث ليست بالجديدة، بل هي استمرار لنمط ظهر سابقاً عندما تخلص مسيحيو البلقان من نير الاستبداد العثماني بعد سنوات من التمرد والحروب. كانت الكنائس الوطنية في صميم هويات الدول الجديدة المعترف بها عالمياً، والتي ظهرت أخيراً في اليونان في عام 1832 وصربيا ورومانيا في عام 1878، وبلغاريا في عام 1908. وغالباً ما وُصف المسلمون المحليون في اليونان مثلاً بالأتراك، وتحولوا تلقائياً إلى أجانب في بلادهم. وعرّفت، في المقابل، الجمهورية التركية الجديدة مواطنيها بأنهم مسلمون سنة. مما أعطى الأقلية الكردية الكبيرة اسم ”أتراك الجبل“ وفصلهم تماماً عن هويتهم العرقية المختلفة.

وهناك أيضاً سبب آخر ساهم في تأخر زوال هذه الاختلافات القائمة على أساس الدين: حيث حاول السلطان عبد الحميد الثاني، الذي حكم من عام 1876 وحتى عام 1909، إنعاش منصبه الديني ”الخليفة“. وهي محاولة يائسة لوقف موجة الإصلاح الليبرالي في الإمبراطورية، ولحشد الأغلبية السنية وراءه ومنح نفسه سلطة مطلقة على المسلمين في بلدان أخرى. حققت هذه السياسة درجة من النجاح بين العرب وغيرهم من المسلمين الذين لا يتحدثون التركية في جميع أنحاء الامبراطورية.
شكّل الناطقون باللغة العربية نحو نصف سكان الإمبراطورية في عام 1914، لكن القومية العربية لم تنشأ لدى العرب كمثيلتها في دول البلقان أو لدى أرمن الأناضول الشرقية. وأحد الأسباب المهمة في ذلك هو عدم التجانس الديني بين المتحدثين بالعربية. كان معظمهم من المسلمين السنة، لكن الأقليات الأخرى كانت حاضرة وبقوة. فلنأخذ سوريا الكبرى على سبيل المثال: شكل المسيحيون نحو 20 بالمئة من سكانها، بالإضافة إلى مناطق أخرى مهمة لم يكن سكانها من المسلمين السنة، حيث كان جبل لبنان مأهولاً بالمسيحيين الموارنة والدروز، بينما كانت هضبة حوران منطقة ذات أغلبية درزية. أما جبال اللاذقية، فكانت موطناً للعلويين بشكل أساسي، إضافة إلى المسيحيين الأرثوذكس والشيعة. وفي المناطق الواقعة جنوب بغداد وصولاً إلى الفرات، كانت غالبية السكان من الشيعة.
وهناك مدن وقرى عديدة كان سكانها من أقليات دينية، ففي مدينة حلب السورية مثلاً، شكل المسيحيون ثلث السكان، بينما شكّل اليهود نسبة لا تقلّ عن 20 بالمئة من سكان بغداد. وإن أردنا التطرق إلى الأقليات العرقية، سنعثر على عددٍ كبيرٍ من المجموعات السكانية التي تتكلم لغات مختلفة. حيث تركز الأكراد –وهم أكبر هذه المجموعات العرقية –في مناطق معينة من شمال العراق حالياً. وهناك التركمان (قبائلٌ تتحدث اللغة التركية) والشركس (مسلمون من القوقاز والبحر الأسود والبلقان كانوا ضحايا ما يسمى بالتطهير العرقي، أو أنهم قرروا الفرار إلى المناطق الخاضعة لسلطة السلطان المسلم عوضاً عن العيش تحت حكم مسيحي). ولن نستطيع أن ننسى الأقليات الأرمنية والمسيحية التي تتحدث السريانية. وبالرغم من كل هذا التنوع، كانت الطبقات الرفيعة من المجتمع، والقاطنة في المدن، تتحدث اللغتين العربية والتركية.
أدى هذا التنوع الديني ووجود مجموعات عرقية أخرى إلى تعقيد أفكار القومية. فكان الناطقون باللغة العربية أناساً غير ذا شأن في الإمبراطورية العثمانية ومؤسساتها الإدارية، حيث تقوم معظم إحصائيات التعداد السكاني على ذكر الدين وليس القومية. فكان لكلمة ”عربي“ دلالات تحقيرية على مر المئات من السنين. وارتبطت هذه الكلمة مع القبائل البدوية الجامحة والمتوحشة التي اقتاتت على السطو (وفقاً للنظرة السائدة في تلك الفترة) وقطنت الصحارى والأراضي الأخرى غير الحضرية. وكان أي دمشقي أو بغدادي أو مقدسي محترم يعرّف عن نفسه بلقب أسرته (حيث كان النسب في غاية الأهمية) ودينه ومدينته أو مقاطعته. وكان للغة العربية مكانة محترمة باعتبارها لغة الإسلام والتعليم الديني، وهي الأسباب الرئيسية التي دفعت الأتراك لاستخدامها. في المقابل، كانت اللغة التركية لغة الجيش والحكومة. وبصرف النظر عن أهمية اللغة العربية، كانت اللهجات المحلية هي الرائجة في تلك الفترة.
بوادر ظهور القومية العربية

انتفض الوعي الذاتي الجديد بين مواطني الامبراطورية الناطقين باللغة العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وارتبط بشكل أساسي بالانتشار التدريجي للعلم ومحو الأمية ووسائل الطباعة الجديدة. شرع العلماء في طباعة كلاسيكيات الأدب العربي لأول مرة، وأُحيت اللغة من جديد لتنقل أفكار العالم الحديث إلى العرب. حيث ظهرت تخصصات جديدة كالصحافة وكتابة المسرحيات على النموذج الأوروبي، بينما ساهم انتشار الشعر القديم والكتابة التاريخية والنصوص الدينية في تأصل التراث اللغوي لدى العرب. جاءت هذه المحاولات من جميع المثقفين العرب، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين، حيث حاولوا إنشاء المعاجم والموسوعات العربية.
حدثت نهضة اللغة العربية في سوريا الكبرى ومصر في الوقت ذاته. وكان ذلك حدثاً ثقافياً أكثر من كونه سياسياً، لكن ذلك لا يعني عدم وجود عواقب سياسية لهذه النهضة الفكرية. حيث اعتبر العرب في مصر اللغة التركية لغة الحكومة والنخبة الحاكمة (على الرغم من استخدام اللغة التركية، حتى في مطلع القرن العشرين، لتوجيه الأوامر إلى المجندين وعامة الشعب. وتلك لغة لم تكن محكية من قبل الشعب). أما في سوريا الكبرى، فاستاء عددٌ كبير من الناس من استخدام اللغة التركية كلغة وحيدة ورسمية للإمبراطورية. وشرعوا يدعون إلى استخدام اللغة العربية على نطاق أوسع.
استطاع السلطان عبد الحميد حشد عدد لا بأس به من المناصرين، وذلك باتباعه سياسة ”الخليفة“، حيث صوّر السلطان نفسه خليفة للمسلمين أجمع، بصرف النظر عن العرق. وفي المقابل، أثارت هذه السياسة مسألة جدية، فهل من المعقول أن يكون الخليفة تركياً وليس عربياً؟ وذلك إن أخذنا في عين الاعتبار أن اللغة العربية هي لغة الإسلام أساساً، وأن رغبة آل عثمان بهذا المنصب ”الديني“ هي رغبة سياسية بحتة بصرف النظر عن الواجهات والحجج الدينية التي قدمها العثمانيون.
وقعت ثورة تركيا الفتاة عام 1908، بعد أن تشرّب المجلس الثوري المؤلف من الضباط بالأفكار القومية التركية، وأصبحوا الحكومة الفاعلة في الإمبراطورية التركية. طالب هؤلاء بالحكم الذاتي في المناطق والولايات العربية، أو على الأقل، تحوّل نظام الحكم في الإمبراطورية إلى ملكية مزدوجة على شاكلة الإمبراطورية النمساوية-المجرية.
لكن هذه الدعوات ليست بالبسيطة، بل التفوه بها قادرٌ على زج المرء في السجون أو النفي بعيداً. وعلى أي حال، لم يأخذ دعاة هذه المطالب بالحسبان ولاء الشعب العربي للخليفة. بالإضافة أيضاً إلى شغل بعض العرب مناصب رفيعة في الإمبراطورية، فكان رئيس الشرطة السرية الخاصة بالسلطان من المسيحيين الموارنة.
كانت الإمبراطورية في مراحل الضعف بلا شك، لكنها كانت الحاجز الأخير أمام الاعتداءات الأوروبية. لذا من الطبيعي أن يقف بعض العرب المسلمين في صف الخليفة، حتى أن بعض المسيحيين اعتبروا السلطان ”ملكاً“ يستحق الولاء، خاصة بعد الاستقرار الذي تلا المذابح التي وقعت للمسيحيين في جبل لبنان ودمشق عام 1860.
وأدت التطورات السياسية إلى ظهور القومية شيئاً فشيئاً، فكان قرار الإمبراطورية العثمانية خوض الحرب العالمية في مواجهة بريطانيا وفرنسا والإمبراطورية الروسية فرصة لا تُعوض لنمو الحس القومي. فخلال شهر حزيران من عام 1916، أبرم الشريف حسين معاهدة مع بريطانيا أعلن بموجبها الثورة على العثمانيين، ودعا لإنشاء مملكة عربية مؤلفة من الولايات العربية الخاضعة لسيطرة العثمانيين.
وضعت الحرب العالمية أوزارها، وكانت إحدى نتائجها تأسيس حكومة عربية بقيادة فيصل، أحد أبناء حسين. وشملت هذه الحكومة الأراضي التي تُعرف اليوم بالأردن وسوريا (دمشق وحلب وحمص وحماة) باستثناء جبل لبنان الماروني، والمستعمرات الأوروبية ”اليهودية“ في فلسطين. أراد معظم العرب وقتها تأسيس دولة واحدة ناطقة بالعربية من سيناء وحتى تركيا، وإلى الجنوب وصولاً إلى المملكة العربية السعودية اليوم.
فترة الانتداب

حكم فيصل هذه الدولة الوليدة من دمشق حتى جاء الفرنسيون، واستولوا على ما يُعرف اليوم بسوريا ولبنان في تموز من عام 1920. وتبع هذا الاستعمار الفرنسي خطة فرنسية-إنجليزية لتقسيم ولايات الدولة العثمانية سابقاً بين بريطانيا وفرنسا تحت مسمى ”الانتداب“. حيث حصلت فرنسا بموجب هذا التقسيم الوهمي على سوريا ولبنان، بينما استولت بريطانيا على فلسطين والأردن والعراق. وكان وقع المصيبة أكبر على الفلسطينيين، الذين عليهم تحمّل وعود بريطانيا بإنشاء وطن قومي لليهود على أرض الفلسطينيين.
وبالمختصر، حطمت أفعال ورغبات فرنسا وبريطانيا الاستعمارية أحلام مملكة فيصل، وجعلت منها أمراً مستحيلاً. لكن الخطاب الذي ألقاه فيصل في حلب في الحادي عشر من شهر تشرين الثاني عام 1918 لا يزال حاضراً في أذهاننا: ”إن العرب هم عرب قبل موسى وعيسى ومحمد، إننا عرب قبل كل شيء… إن العرب نحل وشعوب مختلفة باختلاف الأقاليم، فالحلبي ليس كالحجازي، والشامي ليس كاليمني، ولذا قرر والدي أن يجعل البلاد مناطق تطبق عليها قوانين خاصة متناسبة مع أطوار وأحوال أهاليها“.
كان حكم فيصل مائلاً نحو المساواة الدينية، حيث قام بالتبرع إلى الكنائس المسيحية والكنس اليهودية في دمشق. كما احترم الاختلافات المناطقية بين العرب، وهو شيء لم يقدره القوميون لاحقاً، أمثال جمال عبد الناصر والبعثيون في العراق وسوريا. وقام فيصل أيضاً بعقد برلمانٍ عربي لدعم شرعيته أمام الفرنسيين والبريطانيين، بالرغم من شعبيته المنخفضة في سوريا، حيث اعتبره السوريون ”غريباً“ بشكل أو بآخر، وتحديداً عندما اضطر لقبول تنازلات فرضها عليه الفرنسيون وأدت في نهاية المطاف إلى تطبيق الانتداب الفرنسي على سوريا، ورأوا أن فيصل قد باع بلادهم إلى الأجانب، وهو جزء من الحقيقة ليس إلا.
أُصيبت اللجان المحلية المنتخبة في سوريا بالإحباط والغضب، لكن السماح بإنشاء هذه اللجان المحلية أساساً يُظهر تجذر الديموقراطية في سوريا الكبرى بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. وللأسف، لم تلق رغبات القوميين العرب بإيجاد وطن واحد مستقل أي ردٍ من قبل القوى العظمى.
طالب القوميون مجدداً بالاستقلال عام 1925، حيث كانت الممارسات الفرنسية التعسفية تجاه السوريين، وتحديداً الدروز في حوران، سبباً رئيسياً وراء هذه الدعوات، بينما لا يوجد أي دليل يرجع هذه الانتفاضة السورية إلى أسبابٍ سياسية أو إلى خطابات تحفيزية.
اشتعلت نار الثورة في جميع أنحاء سوريا عندما شرع الدروز يقاومون الاحتلال الفرنسي، حيث شاركت القرى المسيحية (الأرثوذكسية) والمسلمون بمختلف انتماءاتهم الدينية في هذه الثورة. حاول الفرنسيون وقتها استغلال هذا التباين الديني في المجتمع العربي، واتبعوا سياسة ”فرق تسد“ آملين بخرق هذا المجتمع، لكنهم فشلوا بذلك، إذ حارب السنة والشيعة والعلويون والدروز والمسيحيون جنباً إلى جنب في هذه الثورة السورية الكبرى.
تحدث المؤرخ (مايكل بروفنس) عن الثورة السورية الكبرى عام 1925 واصفاً إياها بـ ”الأكبر والأطول والأكثر تدميراً مقارنة بجميع الثورات في الشرق الأوسط“ ضد الانتداب. وأشار أنها كانت مثالاً احتذت به جميع الثورات اللاحقة، كالثورة الفلسطينية عام 1936. بالطبع، لم تقبل لا فرنسا ولا بريطانيا بهكذا تمرد، وحاولت فرنسا جاهدة إخماد هذا الحراك المسلح. لكن الاستقلال قادم لا محالة، وعندما حصل ذلك، فشل القوميون بإنشاء دولة حديثة ومستقرة، ولم يستطيعو تحرير بلدانهم من التدخل الأجنبي أو تحقيق العدالة للشعوب (خاصة الشعب الفلسطيني المهجر). وبدلاً من التحول إلى دولٍ ديموقراطية وحديثة، وقعت هذه الدول الوليدة في كابوس الديكتاتوريات، ولم يرغب الحكام بتسيير الشعوب نحو التقدم، بل كان هدفهم الوحيد السيطرة عليهم وإخضاعهم بجميع الطرق، وللأسف، لا زال البعض منا نحن العرب يتغنى بهؤلاء الحكام بطريقة لا يفهمها منطق أو عقل.
ماذا تعلمنا من التاريخ؟

لعب الدين دوراً حاسماً ومؤثراً في القومية العربية. حيث اقتبس القوميون مبادئ من الإسلام كالجهاد للإشارة إلى الصراع الدامي في سبيل التحرر والاستقلال، ووصفوا القتلى العرب الذين ماتوا في حربهم ضد العثمانيين (المسلمين) والبريطانيين والفرنسيين والإسرائيليين بالشهداء، وهو وصف مقتبس عن الإسلام بلا شك.
ويبدو أن لغة القرآن متأصلة بشدة حتى عند أولئك القوميين بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية، ويبدو أن العرب استوردوا الفكر القومي من الخارج (أوروبا مثلاً) ودنسوا هذه الأيديولوجيا من الداخل. وبالرغم من كل الصيحات التي يرددها هؤلاء القوميون، كان الانتماء الديني –ولا يزال –المحرّك الأكبر للفكر القومي. أي لطالما حاول الدكتاتور استخدام الدين والميليشيات الدينية في حربه ضد الثورات السياسية، وكان الدين وسيلة فعالة في الحفاظ على الاستقرار السياسي الذي يراه الدكتاتور مناسباً، وفي المقابل، تتغذى هذه الميليشيات والفرق الدينية على خطابات الكراهية ضد بعضها. وبصرف النظر عن ظهور داعش سابقاً وما يحدث اليوم في سوريا والعراق، لا تبدو القومية العربية فكرة صائبة في مجمتعات لا تستطيع التخلي عن ولائها الديني، سواء كان هذا الولاء للخليفة أم للدين الذي تربوا عليه.