in

قصة الرائد الذي نجا من السجن النازي عن طريق الخياطة

كثير من الرجال لا ينتمون إلى فئة الخياطين، لكن (توني كاسداغلي) اتّبع نفس مسار والده، الذي استخدم الخياطة ليبقي نفسه عاقلًا طيلة فترة سجنه من خلال كتابة الرسائل عبرها.

استخدم الرائد (كاسداغلي) التطريز كي يرسل رسائل مشفرة إلى بريطانيا.

بعد ستة أشهر من الاحتجاز في معسكر لأسرى الحرب؛ أخذ الرائد (ألكسيس كاسداغلي) قطعة قماش، أو كما يعرف بالكنفة، من قبل زميله في السجن.. مرر خيطاً أحمر وأزرق مفكوكان من كنزة تابعة لجنرال كريتي (من جزيرة كريت) مسن، وقضى ساعات طويلة في الأسر وهو يكتب ويرسم الرموز حول الصليب المعقوف والنقوش النازية المبتذلة.

قام الضابط البريطاني (كاسداغلي) بخياطة حدود من النقاط والشرطات غير المنتظمة. على مدار السنوات الأربع التالية، عُرضت أعماله في المعسكرات الأربعة في ألمانيا حيث سُجن، ولم يقم خاطفوه النازيّون مطلقًا بفكّ تشفير الرسائل التي خاطها على قطعة القماش بشيفرة مورس، حيث قام بكتابة عبارات مثل ”God Save the King“ و”اللعنة على هتلر“.

كانت هذه العملية شكلًا من أشكال التحدي من طرف (كاسداغلي)، الذي لم يُطلق سراحه من السجن حتى عام 1945. يقول ابنه (توني) عن خياطة والده المتمرّدة: ”كانت الخياطة تعطيه السعادة عندما كان الألمان يقومون بجولاتهم“. كما منعه هذا الأمر من أن يفقد عقله، حيث يقول توني عن والده: ”كان يقول بعد الحرب أن الصليب الأحمر أنقذ حياته، ولكن حياكته هي ما أنقذت صحته العقلية. فإذا جلست وطرّزت يمكن أن تنسى أشياء أخرى، وهذا شيء مفيد ومهدّئ للغاية“.

توني كاسداغلي. صورة: BBC

أخذ (توني) البالغ من العمر 79 عامًا عادةً الخياطة بعد أن أمضى حياته في الخدمة في البحرية الملكية، وفي السادس من أيلول من عام 2011، عُرضت قطعتان من قطعه في معرض جديد في متحف فيكتوريا وألبرت يُطلق عليه Power of Making. إنه أمرٌ مبهج بالنسبة لـ (توني)، لكن العلاقة بين الأب والابن والتطريز والمعاناة معقدة، بل غامضة أحياناً.

عند بداية الحرب، انفصل (توني) ووالدته (جويس) عن والده، وخلال حملة الحلفاء في جزيرة كريت، تم القبض على (كاسداغلي) الأب. ولمدّة شهر، لم يكن لدى (جويس) أيّة فكررة عمّا إذا كان حياً أو ميّتاً. لمدة عام كامل، لم يتلقى (كاسداغلي) أية رسائل أو طرود.

قضى (كاسداغلي) معظم مدة حجزه في قلعة ألمانية، لم تكن حياة الضابط البريطاني وحشيّة كما كانت في المعسكرات اليابانية، لكنها أموراً كالخوف والجوع والحرمان موجودة هناك أيضاً. كتب (كاسداغلي) بدقّة وشطب أيضاً أسفل دفتر أسود صغير بقلم رصاص، يتذكر (توني) أكثر من مرّة أن والده كان ”دقيقاً جداً“. قدم (كاسداغلي) قوائم بكل شيء –كل جزء من النوافذ المحطمة بغارات القصف، كل رسالة مرسلة ومستلمة. كما قام بارتجال العديد من الأمور، مثل صنع ”منصّة مراقبة“ من مقبض مكنسة وقنبلة حارقة.

الأهم من ذلك كله، سجل (كاسداغلي) غضبه وإحباطه في الدرز المتقاطعة. كان قد اكتسب مهارات الخياطة من أقارب كبار في السن، وعندما بدأت طرود الصليب الأحمر في الوصول (تحتوي على فرشات للشعر والتي بدورها تحتوي على فراغات سرية تخفي الخرائط، وقد قام السجناء بتعليقها بذكاء وتهريبها)، كان (كاسداغلي) قد حصل على المواد اللازمة. كما استعار المزيد من الخيوط من صديقه الكريتي القديم، وهذه المرة من بيجامة النوم الخاصّة به.

عندما بلغ (توني) 11 عامًا، تلقى خطابًا مخيطًا عبر البريد مفاده التالي: ”لقد مر 1581 يومًا منذ أن رأيتك أخيرًا، ولكن لن يمر وقت طويل الآن. هل تتذكر عندما سقطتُ في البئر؟ اعتن بأمك حتى أعود إلى المنزل“.

ابتكر والده تطريزًا لـ”الغرفة 13، قلعة Spangenberg“ نصفها خريطة ونصفها مخطط. كانت الدرز تصور زنزانات السجناء، وعدد قليل من كتل الفحم، وإشارة تقول ”حمام كل 14 يومًا“، وقائمة أخرى: ”الحساء والبطاطا والقمر والخبز والسميد“، وفي الأسفل كان علم الاتحاد. تم حظر الأعلام الوطنية في المخيم، لذلك قام (كاسداغلي) بخياطة رفرف قماش كُتب عليه باللغة الألمانية ”لا تفتح!“.

رسالة مطرزة أرسلها سجين الحرب (ألكسيس كاسداغلي) إلى ولده (توني)، حتى المغلف صُنع من القماش لأن (كاسداغلي) لم يكن يملك ورقاً. صورة: Twitter/Clare Hunter

لعب الضباط المحتجزون لعبة الكريكيت وغيرها من الألعاب لتمضية الوقت، لكن الإبرة أثبتت أنها تتمتع بشعبية كبيرة: أدار (كاسداغلي) صفًا مكوناً من 40 ضابطًا. وعندما تم سؤاله هل كانت عبارة ”اللعنة على هتلر“ التي علّم جميع طلابه خياطتها خطرة جدًا؟ يقول (توني): ”من المؤكد أن اللوحة ستُشق وسيقع والدي في الحبس الانفرادي أو ما هو أسوأ من ذلك“. لكنه لا يعتقد أن والده قد يتعرض للإعدام. على الرغم من رؤية زميل سجين أُطلق النار على ظهره بسبب تعثره عن غير قصد، إلا أن (كاسداغلي) تمسك بسياسته المتمثلة في كونه غير متعاون بلا هوادة. ففي أحد أعياد الكريسماس أو عيد الميلاد، أبرم أحد كبار الضباط البريطانيين صفقة مع نظيره الألماني مفادها أن أحداً لن يحاول الهرب، مقابل عيد ميلاد مريح. بقي (كاسداغلي) حينها في السرير ورفض تناول الطعام. يقول توني: ”كان والدي متعصباً جداً حول هذا الموضوع. فمحاولة الهرب هي إحدى الواجبات القليلة التي كان على أبيه أن يجعلها غير مريحة قدر الإمكان لخاطفيه“.

قطعة قماش كُتبت عليها عبارة “اللعنة على هيتلر” بشيفرة مورس على الإطار الخارجي. صورة: Alexis P. Casdagli/Twitter

من بين أعمال والده المعلقة فوق الدرج في منزله في لندن، والذي يقطنه (توني) مع زوجته الثانية (سالي)، قطعة قماش صغيرة وبائسة تسرد السنوات من 1939 إلى 1943 إلى جانب الأحرف الأولى من كلمة (جويس) والكلمات: ”أي يوم الآن“. كان يجب أن يمر عامان آخران قبل أن يرى (كاسداغلي) زوجته وابنه مرة أخرى. ولكن في نيسان من عام 1945، في ”حالة ذهول مطلقة“، تم نقله إلى بريطانيا، حيث تلقى عرضًا طبيًا و 10 جنيهات إسترلينية. ثم أخذ باصين ليصل إلى المنزل. ذهبت (جويس) لاصطحاب (توني) من المدرسة. وكتب (كاسداغلي) في مذكراته: ”وصلوا في الساعة 12 ظهراً، وكان كأس سعادتي ممتلئاً“.

من المحزن أن فرحته بالعودة ورؤية عائلته لم تستطع ببساطة محو ذكرى أربع سنوات من الصدمة في الأسر. يصف (توني) والده بكونه ”محبَطاً للغاية“ عندما عاد. زعزعته الحياة في السجن، وبعد ذلك بفترة وجيزة، ذهب إلى اليونان كجزء من مهمة عسكرية بريطانية خلال الحرب الأهلية.

وفي الوقت نفسه، التحق (توني) بالبحرية، ورأى بالكاد والده قليلاً. كان (توني) يقوم بالخياطة وهو مراهق ولو كان مرغماً، لكنه في البحر كان دائمًا مشغولًا فلم يستطع القيام بذلك. وعندما تقاعد من البحرية، انتقل هو و(سالي) مع ابنتهما (لوسي) إلى (هاي جيت) شمال لندن بالقرب من مكان شقة والده.

ثم في إجازة في كورنوال، بدأ الابن المتقاعد ووالده المسن يخيطان معًا. يقول (توني): ”اعتدنا أن نجلس جنباً إلى جنب مع بعضنا البعض. لم يتحدث أبي كثيراً، لكننا كنا نجلس ونتحدث قليلاً بينما نقوم بالخياطة. كان هناك الكثير من الأسئلة التي كان ينبغي علي طرحها ولم أفعل، لم أسأله قط عن سبب تطريز صوف الجنرال المسن“.

صورة لأليكسس مع ابنته. صورة: Standard

تتطلب الخياطة الانضباط والصبر، وهما صفتان يجب أن يكون قد ورثهما (توني) عن والده، لكن الرجلين طوّرا أساليب فريدة من نوعها. خلق والد (توني) أنماطاً وأشكال متماثلة معقّدة. يقول (توني): ”لم يملك المخيلة الواسعة، كان يحب فعل الأشياء بدلًا من ابتكارها“. في المقابل، يتمتّع (توني) بموهبة فريدة بالتصميم. فقبل ست سنوات، قدّمت زوجة صديق بحري قديم (توني) إلى مجموعة تشيلسي للسيدات، وأصبح (توني) العضو الوحيد الذكر في المجموعة التي أدارتها (جويس كونوي إيفانز)، ويتم عرض أعماله في كاتدرائية كانتربيري وغيرها.

توفي الرائد (كاسداغلي) في عام 1996، عن عمر ناهز الـ 90 عاماً. وعن سؤاله عمّا إذا كان والده موافقاً أن يأخذ شغفه وعمله؟ يقول (توني): ”لم يكن موافقاً بشدة عندما اقتربت نهاية حياته، لأنه ظنّ أننا كنا في منافسة“. حتى وقتنا هذا، يمكنكم القيام بطلب وشراء بعض من أعمالهما عبر الإنترنت وفي المعارض التي تقام بشكل سنوي في المملكة المتّحدة.

مقالات إعلانية