in

لماذا يُعتبر كارل ماركس واحداً من أكثر المفكرين والفلاسفة تأثيرًا في التاريخ

كارل ماركس
صورة: Wikimedia Commons

إن مجرد نظرة سريعة على سيرة (كارل ماركس) تكشف لنا الكثير من الأمور. فهو اقتصادي وفيلسوف وصحفي وعالم اجتماع ومنظر سياسي ومؤرخ. أضف إلى ذلك أنه شيوعي (بالمعنى الأصلي والحقيقي للكلمة) وزعيم ثوري، وتلك مجرد البداية فقط.

بالنسبة للكثير من الناس، تحديداً اليوم، فـ (ماركس) هو رمز للثورة، وأبو الشيوعية، وكاره الرأسمالية. حتى في الغرب، يرى الكثير من الناس أن (ماركس) وأفكاره ساهما في تأسيس الأنظمة الشيوعية الاستبدادية في روسيا والصين، وأنحاء أخرى من العالم. بالتأكيد، إن هذا الكلام لا يمكن أن يكون صحيحاً لأنه يأخذ فقط بجزء واحد صغير من القصة الكاملة.

يكتب البروفيسور الأميركي (جوناثان سبيربر) في كتابه «كارل ماركس: حركة القرن التاسع عشر»: ”من الناحية الإيجابية، فـ (كارل ماركس) بمثابة متنبئ ذي نظرة ثاقبة وبعيدة، استطاع تنبأ التطورات الاجتماعية والاقتصادية والدفاع عن التحول التحرري في الدولة والمجتمع. أما من الناحية السلبية، فـ (ماركس) هو واحدٌ من أولئك الأشخاص المسؤولين بالدرجة الأولى عن المظاهر الخبيثة والشريرة في العالم الحديث“. وبصرف النظر عن وجهات النظر المختلفة، يتفق الجميع أن (كارل هاينريش ماركس) هو مراقب ثاقب النظر للحالة البشرية. كان (ماركس) أيضاً مفكراً عميقاً يحمل أفكاراً جريئة حول تحسين حياة البشر عموماً.

يقول (لورينس دولمان)، وهو مدرس في جامعة شيكاغو: ”كان ماركس من الأساس عالماً إلى حد ما. كان يدرس الواقع، لكنه عانى في الوقت ذاته جراء عدم معرفته كيفية تحويل أفكاره الخاصة إلى مبادئ سياسية“.

حياته المبكرة

مسقط رأس كارل ماركس في ترير
شارع بروكنشتراسه 10 في ترير، مسقط رأس (ماركس). صورة: Wikimedia Commons

وُلد (ماركس) في ترير عام 1818 عندما كانت ضمن مملكة بروسيا. عقب فشل الثورة الألمانية عام 1848، هرب (ماركس) إلى لندن، وتوفي هناك عام 1883، حيث دفن أسفل ضريحٍ ضخمٍ في مقبرة هايغيت في لندن.

وُلد (ماركس) لعائلة ثرية، فتمتع بحياة مرفهة نوعاً ما، كما كان والداه ليبراليين أيضاً. ترعرع (ماركس) في تلك البلدة التي شهدت الكثير من الحروب والثورات قبل ولادته. أسهمت تلك الاضطرابات والتحولات الثقافية والدينية والسياسية على والديه بشدة، وكانت سبباً مهماً في أسلوب وطريقة نشأة (ماركس).

لاحقاً، التحق (ماركس) بالجامعات، فدرس الحقوق والفلسفة، ثم خطب –وتزوّج لاحقاً– بارونة بروسية تُدعى (يني فون فستفالين). التقى (ماركس) و(يني) في بلدته ترير عندما كانا مراهقين. وعندما كان يدرس الفلسفة والحقوق، تعرّف (ماركس) الشاب على أعمال الفيلسوف الألماني (جورج فلهيلم فريدريش هيغل)، ثم استخدم الكثير من أفكار الفيلسوف السابق عند حديثه عن الشيوعية.

بدأ (ماركس) أول عمل له في مجال الصحافة عندما كان في أوائل العشرينيات من عمره، فكتب لصالح صحيفة راديكالية في كولونيا وباريس. خلال عمله، عاشر العديد من الفلاسفة الليبراليين، وبحلول منتصف العشرينيات، التقى وتعاون مع واحدٍ من أهم الفلاسفة الذين خلفوا أثراً كبيراً على حياته، وهو الفيلسوف (فريدريش إنغلز). كان (إنغلز) هو من أقنع (ماركس) بأن الطبقة العاملة من المجتمع هي أداة إشعال الثورات، وهي الطبقة المسؤولة عن تأسيس مجتمع أكثر عدلاً واستقامة.

في عام 1848، نشر الفيلسوفان (ماركس) و(إنغلز) بياناً اعتُبر أساس حركتهما السياسية الجديدة، وعُرف هذا البيان بـ «بيان الحزب الشيوعي».

يشرح (دولمان) قائلاً: ”اهتم (ماركس) دائماً بفهم الأسباب الحقيقية الضمنية للظواهر الاجتماعية، والأحداث والأعراف والمؤسسات التي تشكل العالم الاجتماعي. أراد (ماركس) كشف المخبأ وراء المظاهر، ومعرفة ما الذي يجري في الحقيقة. في وقت مبكر من مسيرته، اعتقد (ماركس) أن أفضل مجال لمعرفة هذه الأمور هو الفلسفة. ومع مرور الوقت، بدأ بالانحياز إلى العلوم الاجتماعية. لكن أهم ما ميميز (ماركس) هو امتلاكه عقلية هندسية، حيث أراد معرفة ما الذي يدفع المجتمع ويحافظ عليه وكيف يحدث ذلك، وكيف يمكننا تغيير هذا المجتمع إذا أردنا حقًا تغييره“.

الشيوعية ضد الرأسمالية

كتاب رأس المال
نسخة من كتاب “رأس المال” لـ (كارل ماركس) من عام 1867 معروضة في متحف التاريخ الألماني ببرلين. صورة: Wikimedia Commons

في مؤلفه الاقتصادي عام 1847 بعنوان «رأس المال: نقد الاقتصادي السياسي»، سعى (ماركس) إلى هدم الرأسمالية التي تعمل على استغلال الطبقة العاملة، وتمكن من بلورة جدلٍ لا يزال قائماً حتى عصرنا، بين النظرية الاقتصادية والاجتماعية الحاكمة في الغرب، ورأس المال، وأفكاره الشيوعية.

بالنسبة للكثيرين، اعتُبرت أفكار (ماركس) بمثابة نزاعٍ مستمر بين الأغنياء والفقراء، البرجوازية ضد البروليتاريا، والطبقة الحاكمة ضد العمال. لكنها تمثّل أموراً أكبر من ذلك بكثير بالنسبة للفلاسفة الذين توقفوا عندها، فهي بالنسبة لهم معركة بين الخير والشر، أو خلاف حول الطريقة المثلى للوصول إلى المجتمع المثالي.

يقول (دولمان): ”فوق جميع الاعتبارات، إن ربط بعض الناس بين (ماركس) وتصوراتهم عنه، كاعتباره شخصاً طوباوي وحالماً يأمل ببناء عالمٍ مثالي خالٍ تماماً من جميع الشرور التي نعايشها الآن، هو مجرد ربط بعيدٍ كل البعد عن الحقيقة. كما قلت سابقاً، تمتع (ماركس) بعقلية هندسية. بل لربما كان أحد أكثر الشخصيات العملية والواقعية من بين الشخصيات الفكرية السياسية في التاريخ. كان (ماركس) أكثر شخصٍ مهتمٍ بما يمكن تحقيقه في هذا العالم الحقيقي“.

يعرّف (ماركس) الشيوعية، بشكل مختصر طبعاً، على أنها ذلك المجتمع الذي ينتج ما يحتاجه فقط من البضائع والمنتوجات، وليس بغاية الربح، وهو المجتمع الخالي من ثنائيات «السيد والعبد» و«الملك وعامة الناس» و«المالك والعمال»، وبالتالي هو مجتمع لا حاجة لأفراده للإطاحة بالسلطات الأعلى منه. لكن ذلك التعريف يتناقض تماماً مع مادية الرأسمالية، على الرغم من أنه بعيد نوعاً ما عما يتخيله الناس عندما يفكرون بكلمة «شيوعية».

عقب الثورة البلشفية الروسية عام 1917، ولاحقاً خلال عهد الزعيم السوفياتي (جوزف ستالين)، استُخدمت بعض أفكار (ماركس) –وبالتالي أفكار (فلاديمر لينين) أيضاً– لبناء إمبراطورية جديدة. قُتل الملايين خلال عملية البناء تلك، وكذلك توفي الملايين في الصين لبناء امبراطورية الزعيم (ماو تسي تونغ) وحزبه الشيوعي.

يقول (دولمان): ”من الصعب جداً مناقشة أفكار (ماركس) الشيوعية بدون الأخذ بعين الاعتبار ثقل الأحداث التي جرت في روسيا السوفياتية والصين الشيوعية. ومن الواضح أن الكثير من الناس يحمّلون (ماركس) مسؤولية ما حدث في هذين البلدين“.

مما لا شك فيه أن نظامي (ستالين) و(ماو) الاستبداديين ليسا ما تصوره (ماركس) عن فكرة الدولة الشيوعية. هناك شيء آخر لربما لا يعلمه البعض، وهو أن (ماركس) لم يكن كارهاً للرأسمالية، بل أنه وجد بعض الصواب في هذا النظام، واعتبره سلفًا للنظام الشيوعي وإحدى ضرورات التحول إلى الشيوعية.

يقول (دولمان) بخصوص هذه الفكرة: ”أُعجب (ماركس) بالسمة التقدمية للرأسمالية. فالرأسمالية تُجبر البشر من مختلف انتماءاتهم وخلفياتهم على العمل في نفس المكان، وبالتالي تُزيل وتحطم الانقسامات التقليدية القديمة بين المجتمعات. وهكذا، لن تستطيع أمورٌ كالعِرق والجنس والديانة تفريق أولئك البشر بسهولة، طالما يُضطر هؤلاء البشر إلى النظر بطريقة متساوية لبعضهم الآخر في مكان العمل“.

اعترف (ماركس) وأُعجب أيضًا بالنمو التقني والاقتصادي الذين أشعلتهما الرأسمالية، ووجد تحسنًا ملحوظًا في التقدم الذي أحدثته مقارنة بالمجتمعات السابقة. وفي وقتٍ لاحق من حياته، وفق (دولمان)، اعتقد (ماركس) أن نمو الرأسمالية قد يمهد الطريق للانتقال نحو الشيوعية، بدلًا من الثورة الشاملة على النظام الرأسمالي. لكن بطبيعة الحال، اعتبر (ماركس) أن الشيوعية، وتحديدًا بعد إلغاء حالة السيد–العبد، هي الهدف الأخير الذي على المجتمع الوصول إليه.

بطريقة أو بأخرى، لا يمكن اختصار أفكار (ماركس) وتقييدها بالجرائم والفظائع التي ارتُكبت باسم الشيوعية في شتى أنحاء العالم. ولا تزال أفكاره حتى اليوم، على الرغم من جنونها بالنسبة للبعض، منارة للبحث عن سبل أفضل للحياة. وهكذا، لا تزال أفكار هذا الفيلسوف من القرن التاسع عشر ملائمة للعصر الذي نعيش فيه.

يقول (دولمان): ”التزم (ماركس) بالنقد المنطقي والعقلاني لكل شيء، ليس نقد أعدائه فقط، بل انتقاد نفسه وكلّ شيء يجري من حوله. استطاع (ماركس) انتقاد أساليب الحياة القديمة وأظهر كيف حسّنت الرأسمالية تلك الأساليب، واليوم، من المؤكد أن (ماركس) كان لينتقد الرأسمالية ويستنبط تحسينات عليها في المستقبل“.

مقالات إعلانية