in

شرح اقتباس ”مات الله“ وأربعة اقتباسات أخرى لنيتشه

كان (فريدريك فيلهيلم نيتشه) الذي اشتهر باقتباس “مات الله” ابن وحفيد لقساوسة لوثريين. فكان من المتوقع أن يتبع خطاهم، بيد أن الشاب نيتشه كان لديه أفكاره الخاصة التي بات لها تأثير هائل في القرن العشرين.

ولد نيتشه عام 1844 في بلدة صغيرة بالقرب من لايبزيغ بألمانيا، تفوق في المدرسة وعزف وألّف الموسيقى وكان من محبي مقالات المحاضر والفيلسوف والشاعر الأمريكي (رالف والدو إمرسون). ولشدة ما كانت أبحاثه حول فقه اللغة (بنية اللغات وتطورها) مثيرة للإعجاب تم استدعاء نيتشه الشاب ليكون رئيس قسم فقه اللغة في جامعة بازل في سويسرا حتى قبل أن ينهي أطروحة الدكتوراه في جامعة لايبزيغ (ألمانيا). حيث كان يبلغ من العمر آنذاك 24 عامًا.

إلا أن نيتشه الذي نعرفه ليس ذلك التلميذ الذي لمع منذ سنواته الأولى وإنما الفيلسوف الأيقوني الشارب في ذروة قوته الفكرية والإبداعية. قال نيتشه مؤلف الكتب والمقالات ذات العناوين الاستفزازية العابثة مثل «المسيح الدجال» و «ما وراء الخير والشر» أن الغرض من عمله هو الإطاحة بالأوثان والمثل العليا. لم يكن لديه صبر على الآراء الدينية أو الفلسفية التي نظرت إلى ما وراء التجربة الإنسانية الأرضية وهاجم بابتهاج طرق التفكير التقليدية بما في ذلك الفلسفة الكلاسيكية بكتابات أشبه بضربات الخنجر.

قيل إن نيتشه ليس للجميع، فعلى الرغم من أن نثره مَرِح وموسيقي إلا أن معناه غالبًا ما يكون مبهمًا، فقد أحب نيتشه أن يكتب الأمثال واحكم والأقوال القصيرة والبديهية التي تتناسب جيدًا مع الملصقات الصغيرة. وعلى الرغم من كون هذه الأمثال ذكية إلا أنها غالبًا ما تطرح أسئلة أكثر من الإجابات. إليكم بعضًا من الفصل الافتتاحي لكتابه «أفول الأصنام»:

حتى أكثرنا شجاعةً نادرًا ما يمتلك الشجاعة لما نعرفه في الحقيقة…

كل الحقائق بسيطة. أليست هذه بكذبة مضاعفة؟

ماذا؟ هل الإنسان مجرد خطأ إلهي؟ أم أن الله مجرد خطأ إنساني؟

حين تقرأ لنيتشه تشعر بأنك في حضرة عبقري نادر إلا أن الكشف عن معنى تصريحاته العظيمة أبقى العلماء في جدل لأكثر من قرن، ولمساعدتنا في فهم العقلية غير التقليدية لنيتشه جرى التواصل مع (ديل ويلكرسون) أستاذ الفلسفة في جامعة تكساس «ريو غراندي فالي» ومؤلف مقال «المدخل الممتاز لفريدريك نيتشه» في «موسوعة الأنترنت للفلسفة». وهنا خمسة من اقتباسات نيتشه بدءًا من الأكثر شهرة والأسوأ سمعة بينها جميعها.

1. ”مات الإله وسيظل الإله ميتًا ونحن من قتلناه.“

صورة: quotefancy

جرى ذكر هذه الأسطر المثيرة للجدل من كتابه «العلم المرح» 1882 كجزء من قصة استعارية غريبة. في القول المأثور رقم 125 من الكتاب كتب نيتشه عن رجل مجنون يتجول في سوق المدينة باكيًا مناديًا “أبحث عن الله! أبحث عن الله!” فيسخر حشد من غير المؤمنين من هذا المجنون ويضحكون عليه فيلتفت إليهم ويجيبهم: “أين الله؟ سأخبركم. لقد قتلناه – أنتم وأنا، كلنا قتلته.”

بالنسبة لشخص مؤمن، يستشف من ادعاء نيتشه بأن “الإله قد مات” بأنه فيلسوف ملحد يدعي انتصار الإنسانية على الدين، أو العقل على الخرافات. لكن (ويلكرسون) يجادل بأن نيتشه لا يقول إن النزعة/الحركة الإنسانية أو نيتشه نفسه قد قتل الإله. يقول (ويلكرسون): ”لا وجود لمنتصر فيما يقوله نيتشه هنا. بل إن ما يشير إليه وما يعتقد بأنه حقيقة تاريخية هو أن المجتمع الأوروبي لم يعد معتمدًا على الدين كاعتماده عليه في السابق.“

كان النصف الثاني من القرن التاسع عشر فترة اضطراب اجتماعي واقتصادي وسياسي هائل. نقلت السكك الحديدية الناس والبضائع والأفكار بشكل لم يسبق له مثيل. أفسحت الممالك القديمة الطريق لقيام الدولة القومية. وقد تحدى داروين الأساس الديني التقليدي للخليقة بنظرياته عن التطور التي قسمت الأرض.

عندما يقول نيتشه “مات الإله” فهو لا يقول فقط إن سلطة الكنيسة قد تم إبطالها على الرغم من اعتقاده بذلك وإنما يقصد أنه لم يعد هناك شيء مطلق. فلا مطلق في الفلسفة ولا في المنطق ولا في الطبيعة، وبالتأكيد ليس هناك مطلق ديني كالخير المطلق أو الشر المطلق.

يقول (ويلكرسون): ”لقد انتهى كل ذلك بحلول القرن التاسع عشر.“

هل يعني ذلك أنه في غياب المطلق دعا نيتشه إلى النفعية الصارمة (الأفعال “صحيحة” إذا كانت تعزز السعادة لمعظم الناس) أو إلى مذهب المتعة الوحشي (السعي وراء المتعة هو قمة/منتهى الخير)؟ بالطبع لا.

يقول (ويلكرسون): ”يؤمن نيتشه أن الإله قد مات، لذا على كل منّا أن يتحدى نفسه ليصبح “نبيلًا” والأمر متروك لنا لمعرفة كيفية القيام بذلك. لكننا لا نفعل ذلك بالسعي البحت للمتعة.“

اقتباس إضافي: ”بعد مصافحة رجل متدين أشعر دومًا بأنه عليَّ أن أغسل يدي.“

2. ”إن ما لا يقتلنا يزيدنا قوة.“

صورة: quotefancy

ربما تتفاجأ حين تعلم أن نيتشه جاء بهذا القول أيضًا مكتوبًا أحيانًا على الشكل “ما لا يقتلك يجعلك أقوى”. ولكن ما الذي قصده نيتشه بالضبط في تصريحه هذا والذي يبدو وكأنه عبارة مبتذلة على كوب قهوة عن المرونة والتكيف. أو يذكرك بأغنية معينة لـ (كيلي كلاركسون)؟

بادئ ذي بدء “هذا غير صحيح” كما يقول (ويلكرسون). هناك الكثير من الأشياء التي قد لا تقتلك، ولكنها قد تجعلك أضعف (جسديًا أو عقليًا أو عاطفيًا) مما كنت عليه قبل ظهورها. يقول (ويلكرسون) إن نيتشه نفسه تحول إلى “الحالة الخضرية” خلال سنواته الإحدى عشرة الأخيرة بعد تعرضه لانهيار وسكتتين دماغيتين من المرجح أن يكون سببهم مرض الزهري. لم يقتله المرض على الفور لكنه في نفس الوقت لم يجعله أقوى.

بدلًا من ذلك يرى (ويلكرسون) تصريح نيتشه على أنه استمرار للموضوعات المقدمة مع “موت الله”. غالبًا ما يُتهم نيتشه بأنه عدمي، وهو شخص يرفض الأخلاق التقليدية والتدين على أساس الاعتقاد بأن الحياة في جوهرها لا تحمل أي معنى.

يقول (ويلكرسون): ”نيتشه يعترف بأن عمله يثير بعض القضايا الصعبة. يمكن اعتبار عمله عدميًا لكن نيتشه يقول إنه يواجه العدمية بشكل مباشر. قد يكون فقدان فكرة الله أمرًا محبطًا والبعض قد يعتبر ذلك عدميًا لكن نيتشه يصر على أنها ليست كذلك.“

بالنسبة لنيتشه، فإن موت الله والمطلقات الأخرى لا يجعل الحياة بلا معنى. بل إنه يحررنا من رماد الدين والأخلاق التقليدية لخلق قيم ونماذج جديدة لإيجاد المعنى. تنبأ نيتشه بولادة الرجل الخارق الذي سيكون “أقوى” نفسيًا وجسديًا مما كان عليه من قبل.

اقتباس إضافي: ”من لا يستطيع أن يطيع نفسه سيُؤمر. هذه طبيعة الكائنات الحية“.

3. ”فقط كظاهرة جمالية يمكن تبرير الوجود والعالم إلى الأبد.“

صورة: quotefancy

إذا مات الإله فأي سلطة نحيي بدل سلطته المطلقة؟ بوصفه فيلسوفًا من أواخر القرن التاسع عشر ربما تتوقع أن يميل نيتشه إلى جانب العقل والمنطق. لكن العقل الصرف والمنطق البحت كانا فارغين وبلا معنى بالنسبة لنيتشه كما الدين، وإن تفسير كون الشيء صحيح بالمنطق ليس بالضرورة أن يضفي عليه معنى.

بالنسبة لنيتشه قمة التعبير عن الروح الإنسانية كانت هي الفن. كان نيتشه موسيقيًا وشاعرًا وفي يوم من الأيام صديقًا مقربًا للملحن الألماني (ريتشارد فاجنر). قبل الخلاف حول قومية (فاجنر) ومعاداة السامية كان نيتشه مفتونًا بالرؤية الفنية الشاملة للملحن والاقتباس أعلاه مأخوذ من كتاب بعنوان «ولادة المأساة» 1872 والذي كتبه نيتشه حين كان واقعًا تحت تأثير سحر (فاجنر).

إذن، ما الذي يعنيه نيتشه في قوله إن الوجود “مبرر” فقط باعتباره ظاهرة “جمالية”؟

يقول (ويلكرسون): ”نحن البشر فريدون في أننا نخلق عالمًا لأنفسنا. إننا نخلق أنظمة كاملة من المعتقدات ونخلق الآلهة، ونخلق الطقوس، ونخلق المعايير الاجتماعية / الأخلاقية. وهذا كله ظاهرة جمالية، وهذا ما يعتقده نيتشه بأننا لم نكن ما نحن عليه لولا هذا النوع من الإبداع.“

الفن بالنسبة لنيتشه ليس مجرد تمرين أو منفذ إبداعي وإنما وسيلة للوصول إلى شعور أعمق بالفهم يتجاور حدود المنطق والعقل. لقد كان من أشد المعجبين بالمآسي اليونانية وتماهى مع الروح “الديونيزية” من المشاعر الجامحة وإحساس الدهشة بدلًا من العقلانية الهادئة للفلسفة الغربية.

اقتباس إضافي: ”لولا الموسيقى لكانت الحياة غلطة.“

4. “العالم هو إرادة القوة ليس إلا، وأنت نفسك أيضًا هذه الإرادة للقوة ليس إلا.“

سندخل في الأشياء العميقة والمربكة، إذ يتفق العلماء على أن أحد مبادئ نيتشه الرئيسية هو شيء يسمى “إرادة القوة” وهذا هو كل ما يتفقون عليه. إن نيتشه لا يعرض حججه بالطريقة الفلسفية التقليدية وغالبًا ما يفضل الأسئلة على الإجابات، لذلك من النادر أن يقول عن شيء أنه “خير” أو “شر” بأسلوب لا يخلو من اللبس. لكن في أواخر كتبه والذي يحمل عنوان «المسيح الدجال» كتبه عام 1888 ونُشر عام 1895 كتب:

ما هو الخير؟ هو كل ما يزيد من شعور الإنسان بالقوة، إرادة القوة، القوة نفسها.

ما هو الشر؟ هو كل ما يولد من الضعف.

ما هي السعادة؟ الشعور بأن القوة تتزايد، وأن المقاومة يتم التغلب عليها.

من زاوية فلسفية، يبدو نوعًا من الوحشية أن تكون القوة خير والضعف شر. ولا عجب في أن يكون (أدولف هتلر) قد أساء تفسير نيتشه باعتباره فيلسوفه الألماني المفضل. لكن (ويلكرسون) يرى “إرادة القوة” من منظور مختلف، مثل طريقة نيتشه لمحاولة شرح كيف تتغير القيم بمرور الوقت. ولأنه لا يوجد شيء مطلق، بما في ذلك القيم أو الأخلاق، فما هو السبب الكامن وراء القوة الذي يجعلهم يتغيرون؟

يشرح نيتشه في دفاتر ملاحظاته أن “إرادة القوة” هي قوة بدائية تتحكم في جميع التفاعلات على المستويين الكوني والإنساني:

فكرتي هي أن كل جسم محدد يسعى إلى أن يصبح سيدًا على كل ما حوله وأن يُوسع قوته (إرادته إلى القوة) ويطيح بكل ما يقاوم توسعه. ولكنه يواجه باستمرار جهودًا مماثلة من الأطراف الأخرى وينتهي الأمر بالتوصل إلى اتفاق “اتحاد” مع أولئك الذين على ارتباط كافٍ به: وبالتالي يتآمرون معًا لبلوغ القوة. وتستمر العملية.

يفسر (ويلكرسون) ذلك بأن البشر لديهم دافع مزدوج: الأول هو الحفاظ على أنفسهم، ولكن الثاني (وربما الأهم) هو تحسنن أنفسهم. هذا ما يعنيه نيتشه بـ “توسيع” إرادته للقوة. وتستمر لعبة شد الحبل بين هذين الدافعين فأحيانًا يكون التحسين عرضة لخطر الحفاظ وأحيانًا يعيق الحفاظ التحسين.

كيف يعيد ذلك الارتباط بالقيم؟

يقول (ويلكرسون): ”تتغير القيم بمرور الوقت، وإذا ما حقّقت في طبيعة أي قيمة محددة، تجدها تكشف عن إرادة قديمة للقوة. إنها تكشف كيف يحاول الناس تعزيز أنفسهم والحفاظ على أنفسهم في نفس الوقت.“

اقتباس إضافي: ”إن إرادتك وقيمك رهن نهر الصيرورة. ما يعتقده الناس من خير وشر يكشف لي إرادة قديمة للقوة“.

5. ”وهذه الحياة السرية نفسها خاطبتني قائلة: ’انظر، أنا من يجب عليها دومًا التغلب على نفسها.‘ “

هذا الاقتباس مأخوذ من «هكذا تكلم زرادشت» 1883 وهي رواية فلسفية يستخدم فيها نيتشه النبي الفارسي القديم زرادشت باعتباره لسان حال لفلسفاته. يعود أحد مواضيع الرواية إلى معضلة “موت الإله”. لقد وصل الجنس البشري إلى أزمة فلسفية تتطلب استجوابًا شاملًا ليس فقط للأخلاق الدينية وإنما للتقاليد الفلسفية الغربية بأكملها.

تناول نيتشه هذا الموضوع مرة أخرى في كتاب «ما وراء الخير والشر» 1886 وخلص إلى أن الاستياء المتزايد من الدين قد خلق ”توترًا عظيمًا للروح … لم تعرفه الأرض أبدًا: مع مثل هذا التوتر في قوسنا يُمكّننا الآن من التسديد لأبعد الأهداف.“

هذا “الهدف الأبعد” هو الرجل الخارق، التطور التالي للبشرية الذي “يتغلب” على ذواتنا الحالية. ساوى (هتلر) بين الرجل الخارق والمثال الجسدي الآري المتمثل في الطول والشعر الأشقر والعينين الزرقاوين. لكن الرجل الخارق لنيتشه هو بطل نفسي لديه الشجاعة الكافية لتشكيل نموذج أخلاقي خاص به من خلال الفحص الذاتي الصارم والصدق في سبيل أن “يعيش أفضل حياة”.

السر الذي تم الكشف عنه لزرادشت من خلال الحياة نفسها هو أن الحياة تدور حول “التغلب” على الذات لتصبح شيئًا أعظم. يقول نيتشه إن المشكلة تكمن في أن قوتنا النفسية تتلاشى دائمًا بسبب القطب المعاكس للرجل الخارق، وهو عدو تحقيق الذات الذي يسميه نيتشه “الرجل الأخير”. الرجل الأخير يبحث عن المتعة والراحة فقط، وليس عن العمل الشاق الذي يتطلبه التغلب على أنفسنا.

يقول (ويلكرسون): ”علينا أن نغوص في أعماق نفسيتنا وأن نسأل أنفسنا أصعب الأسئلة وأن نكون مستعدين للتعامل مع أي إجابات صادقة يمكننا صياغتها“. في «ما وراء الخير والشر» يمجد نيتشه فضيلة الصدق. فهي واحدة من أحدث الفضائل وربما أهمها.

اقتباس إضافي: ”هل كلامي واضح؟ … ’بالتأكيد لا يا سيدي!‘ لنعد من حيث بدأنا“.

مقالات إعلانية