in

إليك أكثر وحدات المرتزقات قوة ونفوذاً عبر التاريخ

”لن يذهبوا للجحيم، لأن الشيطان حتما سيخاف من تركهم يدخلون منطقته.“

حركة الحشاشين

المرتزقة عبارة عن محاربين يُستأجرون للمشاركة في النزاعات مختلف الأطراف، دون أن يكونوا منتمين بأي شكل من الأشكال للقوات النظامية للحكومات، وقد كان لهم دور كبير عبر معظم التاريخ.

على الرغم من أن حظوظهم انخفضت مع نهضة الجيوش الوطنية لمختلف الأمم في مطلع القرن الثامن عشر، فإن المرتزقة استمروا في ملء فراغ لطالما برعوا في ملئه منذ القدم، وهو ما خوّلهم من الاستمرار في التواجد حتى يومنا هذا.

لقد اختبر المرتزقة، الذين أصبحوا اليوم يعرفون باسم ”متعاقدون عسكريون خواص“، نوعاً من الانتعاش منذ سنة 2003 مع عملية غزو العراق من طرف الولايات المتحدة الأمريكية، ومنه جمعنا لك في مقالنا هذا على موقعنا «دخلك بتعرف» قائمة تضم أعتى وأشد وحدات المرتزقة وأكثرها تأثيراً عبر التاريخ:

عندما اكتشف الخلفاء العباسيون غباء استئجار المرتزقة دون القدرة على التحكم فيهم:

المقاتلون السلاجقة الأتراك.
المقاتلون السلاجقة الأتراك.

كانت الخلافة العباسية ثاني خلافات السلالات المتوارثة التي حكمت الإمبراطورية الإسلامية. في أوج قوتهم، تزعم العباسيون بلاداً امتدت من المحيط الأطلسي إلى الحدود الصينية، ومن آسيا الوسطى إلى حدود الهند، غير أن حظوظهم أخذت منعطفاً خطيراً عندما استعان الخلفاء الأقل كفاءة منهم بالمرتزقة الأتراك، ثم فشلوا في السيطرة عليهم والتحكم فيهم.

بدأ الأمر كله مع الخليفة المعتصم في القرن التاسع ميلادي: لقد كان الخليفة المعتصم أصغر أبناء أشهر الخلفاء الراشدين، وهو هارون الرشيد. قام المعتصم بتكوين جيش خاص به يتألف من المرتزقة الأتراك والعبيد، ثم حولهم إلى ما عرف بالحرس التركي، الذي ساعده على تأمين الخلافة لنفسه في سنة 833.

غير أن هؤلاء المرتزقة انخرطوا في أعمال سلب ونهب اعتباطية جعلت سمعتهم تسوء كثيراً بين المسلمين، لذا في محاولة منه للتخفيف من الاحتكاك والتواصل بين شعبه وجيشه الخاص من المرتزقة، عمد الخليفة المعتصم بنقل عاصمة دولته من بغداد إلى سمراء في سنة 835، ساهمت هذه الخطوة في تهدئة الأوضاع نوعاً ما لبرهة من الزمن، لكنها لم تحل جوهر المشكلة المتمثلة في عدم القدرة على السيطرة على المرتزقة الأتراك.

بلغت الأمور ذروتها في سنة 861 فيما أصبح يعرف بـ”فوضى سامراء“ أو الحرب الأهلية العباسية. بدأ الأمر عندما اغتال الحرس التركي الخليفة المتوكل بالله ثم عوضوه بشقيقه المنتصر. لم تدم خلافة الخليفة الجديد سوى ستة أشهر، قبل أن يقوم الأتراك باغتياله هو الآخر، ثم عقدوا اجتماعا من أجل تحديد خليفته، الذي وقع فيه الاختيار على الخليفة المستعين.

فرّ هذا الأخير في سنة 865 غير أن المرتزقة لاحقوه وأسروه وقتلوه بالطبع. ثم عينوا خليفة جديداً وهو المعتز، ولكن عندما أخذ يتجنبهم أو بالأحرى يتجنب أوامرهم له، قاموا بالإطاحة به وتصفيته في سنة 869، ثم عوضوه بدمية أخرى، وهو الخليفة المهتدي الذي حاول هو الآخر الإمساك بزمام أمور مملكته، وعندها قُتل أيضاً واستُبدل في سنة 870.

انتهت هذه الفوضى والحرب الأهلية العباسية أخيراً عندما عينوا خليفة جديداً قَبِل دوره كدمية بين أيديهم، وظلت حال الخلافة العباسية على هذا المنوال لمدة أربعة قرون أخرى، مختزلة في مجرد ظل لما كانت عليه يوماً ما من القوة، وتلخصت أدوار خلفائها في مجرد دمى بشرية يلعب بها المرتزقة الأتراك مثلما يشاؤون.

انتهت هذه المعاناة أخيراً في سنة 1258 عندما غزا المغول بغداد وأعدموا آخر الخلفاء العباسيين من خلال لفه في سجادة والدوس عليه بقوائم أحصنتهم.

الملك الغراب ومرتزقته ”الجيش الأسود“:

مشاة الجيش الأسود في إحدى القلاع، حوالي سنة 1480.
مشاة الجيش الأسود في إحدى القلاع، حوالي سنة 1480.

يبدو إيقاع اسم الملك الغراب ومرتزقته الجيش الأسود وكأنه أمر خرج مباشرة من عقل (جورج آر آر مارتين) —مؤلف رواية صراع العروش— واسع المخيلة، غير أن الاسم في الواقع يعود إلى ملك حقيقي وجيش حقيقي، الذي أصبح يشتهر بكونه يتضمن أعتى مقاتلي أوروبا خلال النصف الثاني من القرن الخامس عشر. باختصار، كان الملك (ماتياس كورفينيوس) الهنغاري (1443-1490) الذي يترجم اسمه إلى ”الملك الغراب“ قد جمع جيشاً من المرتزقة أصبح يعرف باسم الجيش الأسود من أجل درء تقدم الأتراك العثمانيين.

عندما توفي ملك هنغاريا (لاديسلوس الخامس) أبتراً —لم يترك خلفه وريثاً— في سنة 1457، تجمع أعيان وأسياد هنغاريا في شهر يناير من سنة 1458 من أجل انتخاب ملك جديد. انتهى بهم المطاف باختيار ولد يبلغ من العمر 14 سنة اسمه (ماتياس كورفينوس) وذلك من أجل تجنب حرب أهلية كانت تلوح في الأفق بين بعض الجهات المنشقة المتناحرة. كانت الخطة تقضي بأن يحكم عم الملك (ماتياس) بالوصاية عنه إلى أن يبلغ سن الرشد، غير أن هذا المراهق الصغير أبهر الجميع ببراعته في إدارة شؤون الدولة باستقلالية تامة منذ البدء.

كانت الشؤون العسكرية في قمة مشاغل الدولة التي استحوذت على اهتمام الملك (ماتياس)، لم يكن قد مضى عليه خمسة سنوات من اعتلاء عرش هنغاريا وهاهم الأتراك العثمانيون قد غزوا القسطنطينية وأطاحوا بالإمبراطورية البيزنطية. حول العثمانيون المشحونون بالثقة الزائدة في النفس أنظارهم نحو غزو هنغاريا.

خرج (ماتياس) ضد كل التوقعات وقام بفرض ضرائب على نبلاء هنغاريا متجاهلا عواء احتجاجاتهم واستخدم كل تلك الأموال من أجل تجنيد 30 ألف جندي مرتزقة، كانوا أساساً ينحدرون من ألمانيا وبولندا وبوهيميا وصربيا، ومن هنغاريا بعد سنة 1480.

تم تنظيم المرتزقة في جيش يتكون من خليط من المشاة الخفيفة التي تؤدي مهامها حول المشاة المدرعة أو الثقيلة، وكان مدعوماً بفرسان مدرعين ومدججين بالسلاح. وقد كانوا قد استعانوا باختراع عسكري حديث آنذاك وهو استخدام الأسلحة النارية، فكان كل جندي رابع من الجيش الأسود مسلحاً بالقربينة –أشبه بالبندقية اليوم–. أصبح مرتزقة (ماتياس)، الذين عرفوا لاحقاً باسم الجيش الأسود، قوة إقليمية ذاع صيتها في أوروبا الوسطى والبلقان واستطاعوا صد العثمانيين لعقود كاملة.

(فريدريك تاونسند وارد) و”الجيش الذي لا يقهر“:

وحدة مدفعية تابعة ”للجيش الذي لا يقهر“.
وحدة مدفعية تابعة ”للجيش الذي لا يقهر“.

بينما كانت الحرب الأهلية تتقد في الولايات المتحدة الأمريكية في ستينيات القرن التاسع عشر، كانت حرب أهلية أخرى أكثر دموية تشتعل في الجانب الآخر من الكرة الأرضية في الصين تحديداً: وهي ”انتفاضة التايبينغ“. لقد كانت مزيجا من تمرد الفلاحين والبسطاء واضطراب في أحد المذاهب المسيحية الجديدة، التي قادتها شخصية صينية غريبة، قيل أنه رجل فشل في اجتياز اختبار الالتحاق بصفوف الإداريين والحكوميين في الصين فأصابه انهيار عصبي وعند تعافيه أعلن عن نفسه ”الشقيق الأصغر“ لليسوع.

أسس لنفسه مذهبا وجمع له أتباعاً وأسس ما أسماه مملكة تايبينغ السماوية، وهي دولة مناهضة للحكومة الصينية آنذاك والتي شنت حربا شعواء ابتداء من سنة 1851 إلى غاية سنة 1864 ضد سلالة (كينغ) الحاكمة في الصين. بحلول زمن انهزام التايبينغ في الصين، فقد ما ينوف عن 30 مليون شخص حياته في صراع اعتبر الأكثر دموية في التاريخ إلى أن اندلعت الحرب العالمية الثانية.

في بداية هذه الحرب الأهلية الصينية، كان المتمردون التايبينغ يغيرون بشكل متكرر على جيوش سلالة (كينغ) وينتصرون عليها بسهولة، وعندما اقتربوا من مدينة (شنغهاي) في سنة 1860، استعان المجتمع التجاري والمالي في المدينة بموارده كلها من أجل استئجار الأمريكي (فريديريك تاونسند وارد) من أجل قيادة قوته المرتزقة لحماية المدينة وردع الخطر المحدق بها، فنجح (وارد) وقوة مرتزقته التي أصبحت تعرف باسم ”الجيش الذي لا يقهر“ في قلب طاولة الحرب على التايبينغ.

على الرغم من أن جيشه لم يتعدّ الخمسة آلاف رجل، إلا أن أفراده الذين تلقوا تدريبا جيدا تمكنوا من الإغارة على جيوش التايبينغ الأكبر عددا وعدة والانتصار عليها في عدة معارك، ومنه تمكنوا من تأمين مدينة (شنغهاي). ثم أصبحت قوة الجيش الذي لا يقهر تعمل بمثابة رأس حربة في مقدمة هجمات جيش سلالة (كينغ) الصينية المضادة على معاقل التايبينغ وقواتهم، فساعدت الجيش الإمبراطوري على السيطرة على قلاع التايبينغ وحصونهم على طول نهر (يانغتزي).

لم يشهد (واند) سقوط التايبينغ وانتصار جيشه الأخير ذلك أنه قتل في معركة في سنة 1862، ثم انتقلت قيادة جيشه إلى ضابط بريطاني يدعى (تشارلز غوردون) الملقب بـ”الصيني“، الذي قاد الجيش الذي لا يقهر إلى أن سحقت ثورة التايبينغ نهائيا في سنة 1864.

الفايكينغ البيزنطيون: الحرس الفارانجي:

الحرس الفارانجي.
الحرس الفارانجي.

يميل الانتماء لوحدات المرتزقة أن يكون من تخصص عشاق المغامرات من خلفيات مختلفة، الذين يجتمعون ببعضهم البعض تحت قيادة رجل واحد من أجل مهمة محددة، أو حملة ما، أو حرب معينة. على إثر ذلك، نادراً ما تستمر وحدات المرتزقة لأكثر من بضعة سنوات قبل أن تتفكك بمجرد أن ينتهي الصراع الذي سمح بظهورها في بادئ الأمر، وهو الجانب الذي يتميز فيه الحرس الفارانجي عن بقية وحدات المرتزقة ويشكل استثناءً، حيث أن تاريخه كوحدة مرتزقة دام لعدة مئات السنوات، ابتداء من أوائل القرن العاشر إلى غاية القرن الرابع عشر ميلادي.

في القرن التاسع للميلاد، توغل الفايكينغ السويديون عميقا فيما يعرف اليوم بروسيا وأكرانيا، وبحلول سنة 850 كانوا قد شكلوا بلداتهم وإداراتهم الخاصة في (كييف) و(نوفغورود). انطلاقا من هناك، هيمن الفايكينغ على بلاد (السلاف) المحيطة كطبقة حاكمة من حضارة جديدة أصبحت تعرف باسم (الروس الكييفيون). كان أمراء الروس الكييفيون يستعينون بخدمات المقاتلين القادمين الجدد من البلاد الإسكندنافية، والذين كانوا يعرفون باسم الفارانجيين، وهو مصطلح يعني الغريب الذي ينتمي لخدمة عسكرية أو اتحاد من التجار أو المقاتلين.

بحلول أوائل القرن العاشر ميلادي، كان بعض هؤلاء الفايكينغ الفارانجيين قد توغلوا بعمق أكثر جنوباً، وأبحروا عبر البحر الأسود، وأغاروا على القسطنطينية والأراضي البيزنطية. غير أن بعضهم خدم تحت راية الأباطرة البيزنطيين كمرتزقة أُجراء، وابتداء من سنة 902، بدأت سجلات التاريخ المعاصرة تصف قوة تتألف من حوالي 700 مقاتل فارانجي شاركت في الحملة البيزنطية على (كريت).

في سنة 988، طلب الإمبراطور البيزنطي (باسيل الثاني) المساعدة العسكرية من حليفه الأمير (فلاديمير الأول) أمير (كييف). أرسل الحاكم الروسي 6000 من أكثر مقاتليه طيشاً الذين كان يعاني مشكلة في دفع مستحقاتهم في جميع الأحوال. أحسن الإمبراطور استخدام ما أرسل به إليه الأمير الروسي ضد أعدائه، ثم أعاد تنظيمهم وهيكلتهم إلى ما أصبح يعرف بنواة الحرس الفارانجي. كأجانب، لم يكن للمقاتلين الفايكينغ أية روابط أسرية، ومنه لم تكن لهم أية انتماءات أو ولاء سياسي قد يدخلهم في المنظمات السياسية والجماعات المتكابلة في عالم السياسة البيزنطي، وقد جعلهم هذا أكثر ملائمة لكونهم حراساً شخصيين.

غير أن دورهم لم يتلخص في حرس شخصي للقصر الإمبراطوري فقط، بل رافقوا الإمبراطور في حملاته العسكرية، وشكلوا قوة مشاة الجيش البيزنطي.

أثبت الحرس الفارانجي عن جدارته في أرض المعركة مع مرور الوقت، وأصبحت وحدتهم تمثل نخبة المقاتلين في الجيش البيزنطي وقد تلقى أفرادها أجوراً أعلى من نظرائهم البقية في الجيش. بالإضافة إلى الأجور العالية، كانوا يُمنحون في الغالب امتياز تحصيل الغنائم الأولى بعد النصر في المعارك، ومن بين الامتيازات الأخرى التي منحت لهم لكونهم القوة الأساسية في القصر الإمبراطوري هو أنه كان بإمكانهم سلب ممتلكات الإمبراطور ونهبها بمجرد وفاة هذا الأخير.

المرتزقة السويسريون: نخبة الجنود المشاة الأوروبية:

مشاة المرتزقة السويسرية.
مشاة المرتزقة السويسرية.

خلال ما ينوف عن مائتي سنة ابتداء من القرن الرابع عشر إلى القرن السادس عشر، كان تقريباً كل من يستطيع تحمل تكاليف المقاتلين حاملي الرماح السويسريين المرتزقة يستعين بخدماتهم دون تردد. طور المرتزقة السويسريون المشاة سمعة قوية بينما كانوا يدافعون عن حرياتهم ضد لوردات (هابسبرغ) الذين كانوا يحكمونهم، حيث ظلوا يقهرون جيوش أعدائهم التي كانت تتألف من فرسان مدرعين، خاصة في معركتي (مورغارتن) في سنة 1315 ومعركة (لوبين) في سنة 1339.

أمنت معركتا (مورغاتران) و(لوبين) للمرتزقة السويسريين سمعتهم التي راحت تسبق حضورهم بأنهم نخبة المقاتلين الأوروبيين، وما زاد شهرتهم الواسعة انتصاراتهم اللاحقة ضد جيرانهم بينما راحوا يوسعون حدود كونفيدراليتهم السويسرية.

لم يكن المقاتلون في المرتزقة السويسرية يحملون في أنفسهم أية نوايا نبيلة، فلم يكونوا يشعرون بأي حاجة في أسر أي من أعدائهم ثم طلب فدية بعد ذلك، وبدل ذلك كانوا يقتلون كل أعدائهم بدون رحمة ولم يكونوا يطلبون أية هدنة أو تعاطفا كما لم يكونوا يظهرونه.

أصبح الطلب على هؤلاء المقاتلين المشاة كبيراً جداً، ذلك أنهم كانوا يهزمون بشكل روتيني فرساناً ولوردات عتداء وجيوشاً كانوا أسياداً للمعارك والحروب لقرون عديدة، وكان مجرد وجودهم في المعركة يرعب أعداءهم ويقوض معنوياتهم. على سبيل المثال، كان الملوك الفرنسيون يرفضون بشكل قاطع الخوض في حروب أو معارك إلا إذا كان المرتزقة السويسريون إلى جانبهم فيها.

كان السويسريون أكثر من سعداء لعرض خدماتهم كمرتزقة، لكن على خلاف معظم وحدات المرتزقة الأخرى، لم يكونوا يعرضون خدماتهم فرادى، وبدل ذلك كان مؤجروهم المحتملون يتواصلون ويتعاقدون مباشرة مع الحكومات السويسرية المحلية من أجل تأجير خدمات ميليشياتها. كان هذا ما ميّز المقاتلين السويسريين عن بقية وحدات المرتزقة التي كانت تتشكل بشكل أساسي من مجموعة من المغامرين الذين اجتمعوا من خلفيات مختلفة لغرض واحد ثم ينتهي الأمر.

كان المرتزقة السويسريون الذين لا يتم تأجيرهم إلا كوحدات ميليشيات كاملة في الواقع عبارة عن وحدات عسكرية مدربة تدريباً ممتازاً وتمرن أفرادها إلى جانب بعضهم البعض لسنوات، كما كانوا مرتبطين ببعضهم البعض بروابط أسرية، أو كانوا جيراناً لبعضهم أو أصدقاء، وقد منحهم هذا نسقا قوياً كمجموعة متراصة وجعل رؤيتهم يؤدون عملهم في أرض المعركة أمراً يُحتفى به حقاً.

وحدات الـ(لانسناختس) الألمانية التي أطاحت بالمرتزقة السويسرية عن عرشها:

لانسناختس.
لانسناختس.

كانت بداية الـ(لانسناختس) الألمانية مثل نسخة رجل فقير عن حاملي الرماح السويسريين المهيبين، غير أنها في أوائل القرن السادس عشر طورت من فعاليتها وأثبتت كونها جديرة باسم كبير خلال عدة معارك انتصرت فيها، ثم واصلت سلسلة انتصاراتها لتزيح المرتزقة السويسرية عن عرشها كنخبة وحدات المرتزقة في أوروبا.

تماما مثل السويسريين، كانت واحدات الـ(لانسناختس) الألمانية تتشكل من رجال رماح ينتظمون في تشكيلات مربعة، لكنها طورت من هذه التشكيلة العسكرية من خلال دعم أجنحتها بجنود مشاة مسلحين بأسلحة نارية، وحراب-فؤوس، وسيوف.

تشكلت أولى وحدات الـ(لانسناختس) في سنة 1487 عندما أمر الإمبراطور الروماني المقدس (ماكسيميليان الأول) القائد السوابي —من سوابيا في ألمانيا— (يورغ فون فروندسبرغ) بأن يشكل وحدات قتال مرتزقة. قام (فروندسبرغ) الذي أصبح يعرف لاحقا باسم أب الـ(لانسناختس) عمداً بتكوين وحداته الجديدة على نموذج حاملي الرماح السويسريين، وقام بالاستعانة بخدمات مدربين سويسريين من أجل تدريب رجاله.

بحلول ذلك الزمن، أصبحت التشكيلة العسكرية السويسرية وتكتيكاتها التي تعتمد على التشكيلات الضيقة لحاملي الرماح وحروب القتال المباشر على مسافات ضيقة، نمطاً قديماً وصارت بشكل أكبر أكثر عرضة للهزيمة على يد الأسلحة النارية والمدفعيات.

جمعت وحدات الـ(لانسناختس) تكتلات من رجال يحملون الرماح ويقاتلون بها على الطريقة السويسرية، وكان كل تكتل يتضمن حوالي 200 رجل غير أن دروعهم كانت أخف مما كان يعني أنهم كانوا أكثر سرعة ورشاقة وحركة في أرض المعركة من نظرائهم السويسريين، وكان من المقرر لهم أن يقاتلوا المرتزقة السويسريين بعد أن يحدثوا فوضى في صفوفهم وتشكيلاتهم بفعل أسلحتهم النارية –القربينة– وسلاح مدفعيتهم.

عندما التقى الـ(لانسناختس) والمرتزقة السويسريون في أرض المعركة، كانت الأمر أشبه بكلبين شرسين في مشاجرة داخل حفرة: لم يكن هنالك من مجال للتعاطف ولا للهدنة من كلا الطرفين، وعرفت تلك الحرب باسم ”الحرب الشرسة“. كانت التطويرات التكتيكية التي أدخلتها الـ(لانسناختس) على تشكيلاتها على شاكلة القتال تحت دعم من الأسلحة النارية، هي ما منحها الأفضلية في تلك الحرب، ومنه نجح رجالها في معركة (مارينيانو) في سنة 1515 في هزيمة المرتزقة السويسرية.

نال الـ(لانسناختس) على إثر ذلك سمعة مهيبة على أرض المعركة وسمعة سيئة للغاية خارجها، حيث اشتهروا بسلوكاتهم المشينة وكانوا غير منضبطين لحد بعيد، كما لم يكن لديهم رادع ولا ضمير فيما يتعلق بالخوض في أعمال سلب ونهب وكذا نيل ما يرغبون فيه بقوة.

قادت سمعتهم في العنف والسلب والاعتداء وإحداث المجازر أحد المؤرخين المعاصرين بالتعليق على أن الـ(لانسناختس) لن يذهبوا للجحيم، لأن الشيطان كان خائفا من تركهم يدخلون منطقته.

المرتزقة الكلتيون في العالم القديم:

المقاتلون الكلتيون
المقاتلون الكلتيون

خلال القرون التي سبقت غزو يوليوس قيصر لبلاد الغال وجعلها تابعة لروما، كان الشعب الكلتي (أو السلتي)، الذي كان يهيمن على معظم الأراضي الأوروبية الواقعة شمال نهري (بو) والدانوب، يحظى بسمعة مهيبة أرعبت الكثير من الأمم. كان الرومان على وجه الخصوص يعتبرون السلتيين البرابرة —الذين كانوا يشيرون إليهم على أنهم غاليون— أكبر تهديد في وجه أمّتهم، وعلى مر قرون ظلت الأمهات الرومانيات يسكتن بكاء أبنائهن من خلال تهديدهم بأنهم إن لم يتوقفوا عن البكاء على سبيل المثال فسيسمعهم الكلتيون المرعبون.

كان للرومان سبب وجيه لهذا الخوف، حيث أنه عبر معظم تاريخ روما في فجر حضارتها، كانت العشائر والقبائل السلتية تهيمن على معظم الأراضي الأوروبية شمال نهر (بو) وعلى طول معظم الساحل الأدرياتيكي الإيطالي.

في سنة 387 قبل الميلاد، هزم رجال القبائل الكلتية تحت قيادة رجل يدعى (برينوس) أحد الجيوش الرومانية، ثم زحفوا على روما من أجل الاستيلاء عليها ونهبها. لقد كانت تلك مغامرة لن تجرأ أو تتمكن أية قوة أجنبية في محاولتها مرة أخرى لثمانية قرون في المستقبل.

كان المقاتلون السلتيون في تلك الحقبة يشتهرون بنوعية أسلحتهم الجيدة، وشجاعتهم، وشراستهم في القتال، وكذا صرخاتهم المدوية في ساحات المعارك التي تدب الرعب في قلوب خصومهم، جعلتهم سمعتهم هذه سلعة مطلوبة للغاية كقوة مرتزقة. ابتداء من القرن الرابع قبل الميلاد، وخاصة بعد تقسيم الإمبراطورية التي تركها الإسكندر المقدوني العظيم إلى دويلات يونانية متناحرة، أصبح الجميع يستعين بخدمات المرتزقة السلتيين من صقلية إلى آسيا الصغرى، وبالإضافة إلى قتالهم لصالح عدة ممالك يونانية، قاتل السلتيون أيضاً لصالح مملكة قرطاج وشكلوا قسما معتبرا من جيش حنبعل الذي سار به إلى روما خلال الحرب البونيقية الثانية.

شكل المقاتلون السلتيون المرتزقة أيضاً صخرة دفاع في جيوش سلالة البطالمة الحاكمة في مصر خلال القرن الثالث قبل الميلاد، وتم إدراجهم في الجيش المصري ضمن القوات الرسمية للدولة. على سبيل المثال، أجّر بطليموس الثاني أربعة آلاف مرتزق سلتي كانوا قادمين من البلقان بمساعدة (أنيغونيدس) المقدوني، وقد ساعدوه عندما لعبوا دوراً محورياً في دحر التحدي الذي رفعه ضده أخوه نصف الشقيق للاستيلاء على العرش المصري.

غير أن المرتزقة السلتيين قاموا لاحقاً بمحاولة التمرد على الملك لإزاحته عن كرسي العرش، وبعد أن سحق تمردهم هذا، ألقى بهم بطليموس في جزيرة صغيرة على نهر النيل لكي يموتوا جوعاً.

غير أن الأمر لم يستمر على هذه الحال، حيث استمر البطالمة في الاستعانة بالمرتزقة السلتيين، الذين جعلهم انعدام وجود روابط تربطهم بالسكان المحليين وسيلة مثالية لسحق أية انتفاضة أو تمرد شعبي، وبقوا في خدمة البطالمة إلى النهاية، وقد اشتهرت آخر حاكمة من سلالة البطالمة وهي (كليوبترا) باستخدامها لهم في حروبها.

الإوزات البرية واللواء الإيرلندي في فرنسا:

الإوزات الإيرلندية البرية.
الإوزات الإيرلندية البرية.

بعد ”الثورة الكبيرة“ في إنجلترا بين سنتي 1688 و1689، سار الملك الجديد (ويليام الثالث) البروتستانتي على رأس جيشه نحو إيرلندا من أجل إخضاع الجزيرة وسحق آخر المناصرين اليعاقبة —نسبة للملك جيمس— لسلفه الكاثوليكي الملك (جايمس الثاني). بعد أن انهزموا أمام الملك (ويليام) في معركة (بوين) سنة 1690، فرّ الملك السابق (جايمس) إلى أوروبا تاركا مناصريه الكاثوليكيين الإيرلنديين ليحاولوا بأنفسهم السيطرة على الوضع واسترجاع العرش المخلوع. على الرغم من مساعيهم الحثيثة في هذا، هُزم اليعاقبة الإيرلنديون بشكل نهائي في معركة (أوغريم) سنة 1691 وأُجبروا على الاستسلام.

تم عقد السلام وفقاً لمعاهدة (ليمريك) الموقعة في شهر أكتوبر سنة 1691، وقد عرض الملك الإنجليزي الجديد على الإيرلنديين اليعاقبة بموجبها الاستعداد لأن يدينوا له بالولاء، وأما من لم يرغب في ذلك فبإمكانه الرحيل عن إيرلندا متى شاء والانضمام إلى (جايمس) المخلوع والمنفي في فرنسا. فيما أصبح يعرف لاحقاً على أنها ”هجرة الإوز البري“، غادر 14 ألف رجل مصحوباً بـ10 آلاف امرأة وطفل إيرلندا إلى الأبد باتجاه فرنسا.

غداة وصولهم إلى فرنسا، خدم الإوز البري على شكل مرتزقة لصالح الفرنسيين، وعلى مدى القرنين التاليين، تم إدراج ”اللواء الإيرلندي“ في الجيش الفرنسي الذي تشكل أساساً من المهاجرين الإيرلنديين في سنة 1691. خلال هذه الفترة، كانت صفوفهم تزداد تدريجيا من خلال انضمام المزيد من القادمين الجدد إليها من إيرلندا. كانت السفن الفرنسية التي تهرّب البراندي والنبيذ إلى داخل إيرلندا تهرّب لدى عودتها ”الإوز البري“ من أجل دعم صفوف اللواء الإيرلندي في الجيش الفرنسي.

كان الكثير من المنخرطين الجدد يبحثون عن المغامرة، بينما كان كل ما رغب فيه البعض الآخر هو كسب لقمة العيش ببساطة، وكان معظمهم يبحث عن فرصة لقتال العدو اللدود لإيرلندا وهم الإنجليز. خدم الآلاف من الرجال الإيرلنديين على إثر ذلك في صفوف الجيش الفرنسي خلال القرن الذي تلى معاهدة (ليمريك)، فقاتلوا لصالح الفرنسيين في عدة معارك وحروب، وأثبتوا جدارتهم من خلال تحقيقهم للنصر في عدة معارك ضد البريطانيين، على شاكلة معركة (فونتينوي) في سنة 1745.

بعد الثورة الفرنسية؛ وصل وجود وحدة ”الإوز البري“ ككيان منفصل ومستقل إلى نهايته عندما تم إدخال الوحدات العسكرية الأجنبية بشكل رسمي في الجيش الوطني الفرنسي.

أعظم جنرال مرتزق في القرن السابع عشر:

(ألبريخت فالنستاين).
(ألبريخت فالنستاين).

ربما كان أعظم جندي مرتزق في القرن السابع عشر هو (ألبرت فينزل يوسيبيوس فون فالنستاين) 1583-1634، وهو جندي من بوهيميا أحاط بفن الحرب والمعارك شأنها شأن أي مجال عمل ومبادلات تجارية آخر. على الرغم من أنه كان بروتستانتياً، فإنه ترقى ليصبح في قيادة جيوش الإمبراطور الروماني المقدس الكاثوليكي خلال حرب الثلاثين عاماً، فقاتل لصالح الكاثوليك، ثم غير ولاءه للقتال لصالح البروتستانتيين، ثم غير ولاءه مرة أخرى ليقاتل لصالح الكاثوليك.

ولد (فالنستاين) لوثرياً، غير أنه خدم آل (هابسبرغ) الكاثوليك في سنة 1604. راح يتملق رؤساءه الكاثوليك واليسوعيين الحاضرين في بلاطهم من خلال تحول ظاهري إلى الكاثوليكية. تماما مثل معظم الخطوات التي اتخذها (فالنستاين) في حياته، كان تحوله إلى المسيحية الكاثوليكية بعد أن كان بروتستانتياً أمراً نفعياً لا غير، حيث دبر له أحد اليسوعيين في البلاط الملكي زيجة من امرأة مسنة لكنها فاحشة الثراء. سمحت له ثروات زوجته وأراضيها الواسعة وملكياته العقارية، التي ورثها عند وفاتها في سنة 1614، بالارتقاء لمصاف أكثر الشخصيات نفوذاً في عالم آل (هابسبرغ).

قاتل (فالنستاين) في عدة معارك وحملات عسكرية، ونال لنفسه شهرة واسعة وذاع صيته على أنه قائد ممتاز ذو حنكة عسكرية متميزة. عندما اندلعت حرب الثلاثين سنة، خشي آل (هابسبرغ) أنه سينتهي بهم المطاف في مواجهة (فالنستاين) البروتستانتي المولد، لكنه علم أن خدمته للكاثوليك الأكثر ثراء من البروتستانتيين ستعود عليه بفائدة أكبر، لذا عرض عليهم خدمته وجيشاً يتكون من 30 ألف رجل إلى مائة ألف يضعهم تحت تصرف الإمبراطور الروماني المقدس (فرديناند الثاني).

توجه بعدها (فالنستاين) البروتستانتي المولد لتدمير الجيوش البروتستانتية وسحق القضية البروتستانتية في بلده الأم بوهيميا. لقد أدى عملاً متقناً وممتازاً على وجه الخصوص في معركة الجبل الأبيض في سنة 1620 إلى درجة أنه مسح من وجه الأرض قرنين من التقاليد البروتستانتية القوية، التي تعود جذورها إلى انتفاضة (جان هوس) في أوائل القرن الخامس عشر. من معقل بروتستانتي في وسط أوروبا، تحولت بوهيميا بعدها إلى حصن كاثوليكي، وبقيت كاثوليكية إلى يومنا هذا.

بعد سحقه للقضية البروتستانتية في بوهيميا، اتجه (فالنستاين) بعدها إلى تحطيمها في شمال وغرب ألمانيا. غير أن نجاحاته الساحقة وطموحاته الكبيرة بالإضافة إلى مخاوف تشير إلى أنه كان يتحضر لتغيير محل ولائه جعلت من الإمبراطور الروماني المقدس (فرديناند الثاني) يعمد لإزالته من قيادة جيوشه في سنة 1630. لقد كان ذلك بمثابة فسحة كان البروتستانتيون في أمس الحاجة إليها من أجل لملمة شتاتهم وإعادة تنظيم صفوفهم، فقادهم الملك السويدي (غوستافوس أدولفوس) في سلسلة من الانتصارات المبهرة ضد جيوش الإمبراطور الروماني. ففكر الإمبراطور (فرديناند الثاني) أن جنرالاً كفؤاً ولاؤه محل شك أفضل بكثير من جنرالات موالين لكن عديمي الكفاءة، لذا أعاد توظيف (فالنستاين)، فأعاد هذا الأخير الاستقرار للوضع من خلال هزيمة (أدولفوس) في معركة (ألتي فيست) سنة 1632 ثم قتله في معركة (لوتزن) في وقت لاحق من نفس السنة.

غير أن حنق (فالنستاين) كان في تزايد مستمر إزاء معاملة الإمبراطور السيئة له، وفي حركة نادرة كان لا يفعلها عادة، لم يتمكن من إخفاء رغبته في تغيير موضع ولائه والذود عن القضية البروتستانتية من خلال الانضمام إلى السويديين بمجرد أن يتفاوض على اتفاق يرضيه ويرضي الطرف الآخر. وصل هذا النبأ إلى مسامع الإمبراطور الذي قرر استئصال المشكلة في مهدها وأمر باغتياله في سنة 1634، وهو ما حدث بالفعل.

(جون هاوكوود) والسرية البيضاء في إيطاليا:

جدارية (جون هاوكوود).
جدارية (جون هاوكوود).

كان أعظم جندي مرتزق في أوروبا في القرن الرابع عشر هو السير (جون هاوكوود) 1320-1394، وهو جندي مرتزق إنجليزي، اشتهر بشق طريقه بالقوة عبر نخبة المجتمع الإيطالي حيث اشتهر باسم (جيوفاني أكوتو) الذي يعني (جون المحنك). كقائد لوحدة مرتزقة قوية جدا، لعب (هاوكوود) دورا مهما في الحروب والنزاعات السياسية التي دارت في إيطاليا في القرن الرابع عشر، ثم راح يغير محل ولائه في عدة مناسبات بين الدويلات المتناحرة في شبه الجزيرة الإيطالية.

بدأ مسيرته المهنية العسكرية في فرنسا خلال حرب المائة عام ضمن صفوف جيش الملك (إدوارد الثالث) الإنجليزي، الذي قلّده منصب فارس نظيراً عن أدائه النموذجي في الحرب الآنف ذكرها، غير أن تلك الحرب سرعان ما توقفت مؤقتا بموجب معاهدة سلام عقدت في سنة 1360، لذا غادر (هاوكوود) فرنسا متجها نحو مناطق توتر سياسي ونزاع عسكري في إيطاليا من أجل كسب لقمة العيش، وفعل ذلك على رأس عصبة من المرتزقة الأشدّاء.

غداة وصوله إلى إيطاليا، انضم (جون هاوكوود) إلى وحدة مرتزقة إنجليزية تعرف باسم ”السرية البيضاء“. سرعان ما ترقى (هاوكوود) في سلم قيادتها حتى انتخب قائدا جنرالا في سنة 1364. قام بعد ذلك بوضع بصمته على السرية البيضاء من خلال تبني القوس الطويل الإنجليزي كسلاح وكذا التكتيكات العسكرية التي أثبتت نجاعتها في حرب المائة عام ضد فرنسا. كما فرض نظاما صارماً على الجنود في سريته، وعمد إلى تخفيف دروعهم ومعداتهم العسكرية مما جعلهم يشتهرون بخفة حركتهم وسرعتهم في أرض المعركة. حولت تعديلات (هاوكوود) السرية البيضاء إلى وحدة مرتزقة نخبة كان الطلب على خدماتها مرتفعاً جدا آنذاك.

في سبعينيات القرن الرابع عشر، خدمت السرية البيضاء بقيادة (هاوكوود) تحت لواء البابا، لكن عندما راح هذا الأخير يماطل في دفع مستحقات الوحدة وقائدها قرر (هاوكوود) أن يأخذ حقه بأية طريقة ممكنة، وعندما أرسله البابا من أجل إخماد نار تمرد في (سيتا دي كاستيلو)، أسر (هاوكوود) المدينة وأبقى عليها تحت سيطرته كنوع من الابتزاز فقرر أن لا يغادرها حتى ينال مستحقاته من البابا عن آخر فلس. كان البابا آنذاك لا يملك المال الكافي، لذا وجد نفسه مجبراً على الاستثمار في المدينة نفسها من خلال جعلها ملكية لـ(هاوكوود) مقابل خدماته التي لم يلق أجراً نظيراً لها.

بين سنتي 1372 و1378، غير (هاوكوود) محل ولائه عدة مرات، فكان تارة يخدم البابا وتارة يخدم منافسه (دوق ميلان)، الذي تزوج في نهاية المطاف بابنته غير الشرعية في سنة 1377. في سنة 1378، بعد أن شب بينه وبين حماه الجديد خلاف، غير (هاوكوود) موضع ولائه من جديد من خلال توقيع عقد مع منافس مدينة ميلان وهي مدينة (فلورنسا)، حيث تم تعيينه قائدا جنرالا على جيوشها. بقي (هاوكوود) في (فلورنسا) إلى أن قرر في نهاية المطاف أن يبيع ممتلكاته كاملة في إيطاليا وأن يتقاعد في إنجلترا، لكن هذا لم يتحقق لأنه توفي قبل ذلك بفترة وجيزة في سنة 1394.

أعظم جندي مرتزق في العالم القديم: (فانيس) الهاليكارنوسي:

الملك قمبيز وهو يأسر الملك المصري إبسيماتيك.
الملك قمبيز وهو يأسر الملك المصري إبسيماتيك.

كان (فانيس) الهاليكارنوسي —حوالي القرن السادس قبل الميلاد— جنرالا مرتزقاً إغريقيا خدم الفرعون المصري أحمس (570- 524 قبل الميلاد). خلال حرب اندلعت بين مصر وبلاد فارس، غير (فانيس) محل ولائه وانضم لجيش الملك الفارسي قمبيز الثاني، ولعب دورا مفتاحياً في مساعدة الفرس على هزيمة زعيمه السابق أحمس الثاني.

اندلعت هذه الحرب مثلما شاع بسبب طبيب عيون ممتعض، الذي أُرسل إلى البلاط الفارسي من طرف الفرعون أحمس الثاني عندما طلب الملك الفارسي قمبيز الثالث من الفرعون أن يرسل إليه بطبيب من أجل علاج مشكلة في بصره. كان الطبيب ساخطا على الفرعون بسبب إرساله كل تلك المسافة إلى بلاد الفرس بعيدا عن عائلته وأهله، لذا قرر الانتقام من خلال نصح الملك الفارسي أن الحل في علاج مشكلة بصره يتجلى في أن يطلب من الملك المصري أحمس أن يرسل إليه بابنته المفضلة.

كان الطبيب الممتعض يعلم جيدا أن هذا المطلب سيضع أحمس الثاني في مأزق كبير ذلك أنه لن يتمكن ببساطة قبول الطلب ومشاهدة ابنته المفضلة تتحول من أميرة إلى محظية في بلاط الفرس، كما أنه برفضه سيدخل في حرب خاسرة مع الملك الفارسي صاحب الجيش الأكثر قوة وبطشاً.

قام أحمس الثاني باللجوء إلى حيلة يائسة حينما قرر إرسال ابنة فرعون سابق بدلا من ابنته إلى الملك الفارسي، وسرعان ما وصلت هذه الأخيرة إلى حضرة الملك قمبيز، فأخبرته بأن أحمس يحاول خداعه من خلال إرسال ابنة شخص آخر، فاهتاج قمبيز الذي كان يتصيد أدنى الأعذار من أجل غزو مصر، وأعلن الحرب عليها في النهاية.

اختار أحمس توقيتاً مضطرباً وسيئا للغاية لإهانة قمبيز الثالث، لأنه كان قد وقع بينه وبين حليفه المرتزق الجنرال اليوناني (فانيس) خلاف شديد شعر من ورائه هذا الأخير بالإهانة، فاستغل الوضع وارتحل إلى بلاد فارس من أجل الانضمام إلى الملك قمبيز في حملته ضد مصر انتقاماً. أرسل أحمس قتلة مأجورين من أجل قتله أو أسره قبل أن يصل إلى حضرة قمبيز، لكنه تمكن في النهاية من الوصول بعد أن مر بعدة عقبات وبعد أن تم أسره ثم فر من الأسر من خلال خداع آسريه وجعلهم يسرفون في الشرب. قام على فور وصوله إلى بلاط قمبيز بأن أمدّه بأفضل الطرق المناسبة لغزو مصر، وذلك مرورا بمناطق نفوذ القبائل العربية بعد أن يشتري صمتها وينال حق العبور الآمن من خلال الدفع لها بسخاء.

بحلول ذلك الزمن، كان الملك أحمس قد توفي، وخلفه ابنه إبسيماتيك الثالث، الذي كان غاضبا للغاية من (فانيس) وحاقدا عليه، لذا خدغ أبناء الجنرال اليوناني من أجل لقائه ثم اعتقلهم وأعدمهم وجعل دمائهم تستسقى من جثثهم ومزجها بالنبيذ الذي راح يستسيغه هو ورفقاؤه.

انتقم (فانيس) من هذا الفعل الشنيع من خلال قيادة الجيش الفارسي في هزيمة مصر واحتلالها، ثم أسر الملك (إبسيماتيك الثالث)، وبعدها خطط لإعدام أبناء الملك المصري من خلال حمل الملك الفارسي قمبيز على الاعتقاد بأنهم يكيدون للإطاحة به من خلال إثارة انتفاضة.

(فرانسيسكو سفورزا)، أكثر المرتزقة نجاحا في إيطاليا في عصر النهضة:

فرانسيسكو سفورزا.
فرانسيسكو سفورزا.

كان (فرانسيسكو سفورزا) 1401-1466 أكثر الجنود المرتزقة نجاحاً في إيطاليا في عصر النهضة، لقد كان مرتزقاً جنرالاً وكان ينقلب على رؤسائه ومؤجريه كلما سنحت له الفرصة، فراح يغير محل ولائه عدة مرات، وفي النهاية نصب نفسه في منصب دوق ميلانو، وأسس لسلالة (سفورزا) الحاكمة في ميلانو التي ظلت تؤثر على السياسة الإيطالية لقرن من الزمن.

كان (سفورزا) ابناً غير شرعي لقائد مرتزق إيطالي، وبدأ يرافق والده في حملاته لعسكرية منذ حداثة سنه. سرعان ما اشتهر بشدة بأسه وقوّته الكبيرة، وأصبح مشهوراً بقدرته على ثني قضبان الحديد بيديه العاريتين. عندما توفي والده غرقاً خلال إحدى المعارك البحرية في سنة 1424، تولى (سفورزا) القيادة، وأثبت كونه مخططا حربياً لامعاً وقائداً عسكريا مغواراً من خلال قيادة مرتزقة والده في سلسلة من الانتصارات.

مضى (سفورزا) لاحقاً للقتال لصالح عدة قادة إيطاليين، من بينهم البابا نفسه، والنابوليتانيون، ودوق ميلانو (فيسكونتي)، الذي قاتل (سفورزا) لصالحه وضده في عدة مناسبات خلال العقدين التاليين. في سنة 1433، خلال واحدة من اللحظات التي اتفق فيها (سفورزا) مع دوق ميلانو، طلب يد ابنة (فيسكونتي) غير الشرعية التي كانت طفله الوحيد أيضاً.

بعد سنة لاحقاً، انقلب على حماه بانضمامه لمنافس دوق ميلانو، وهو (كوسيمو دي ميديتشي) الفلورنسي. في سنة 1438، قاتل (سفورزا) لصالح الفلورنسيين ضد حماه الذي ألحق به هزيمة نكراء. وفي سنة 1441، أعاد ترقيع علاقته مع حماه دوق ميلانو مرة أخرى وتزوج أخيراً بابنة هذا الأخير. بعد سنتين لاحقاً، أي في سنة 1443، غير محل ولائه مرة أخرى وقاتل ضد والد زوجته.

عندما توفي دوق ميلانو في سنة 1447 ولم يترك له وريثا شرعياً انتفض سكان مدينة ميلانو وراحوا يطالبون بتحويل مدينتهم إلى جمهورية، فاستعانوا بخدمات (سفورزا) وجعلوا منه قائدهم العسكري. اندلع بعدها صراع ثلاثي الأطراف بين الجمهورية الميلانية، ومدينة البندقية المنافسة، و(سفورزا) نفسه. عندما وقع الميلانيون معاهدة سلام مع مدينة البندقية ضد رغبة (سفورزا) في سنة 1449، انقلب عليهم وحاصر المدينة وجوع أهلها إلى أن استسلموا وسلموها إياه، فدخلها وأعلن عن نفسه الدوق الجديد لميلانو في سنة 1450 مؤسسا لسلالة حاكمة ظلت تحكم ميلانو لقرن من الزمن.

تحصل (فرانسيسكو سفورزا) على ما تحصل عليه ليس لأنه ورثه عن سلفه بل لقدرته الهائلة وحنكته ومهاراته المتفوقة في الإلمام بالأمور والمشكلات، ثم مضى لدعم مكتسباته وتأمينها بالشكل اللازم من أجل التأسيس لسلالته الحاكمة من بعده، جعله ذكاؤه ورجاحة عقله وروحه الانتهازية يمثل شخصية ومواصفات ”الأمير“ في تصور الفيلسوف (ميكيافيلي) أحسن تمثيل.

الآنجلو-ساكسون الذين وصلوا إلى إنجلترا كمرتزقة ثم استولوا عليها واستوطنوها:

النبيل الروماني-البريطوني (فورتيجرن) وهو يرحب بقادة الساكسون (هينغيست) و(هورسا).
النبيل الروماني-البريطوني (فورتيجرن) وهو يرحب بقادة الساكسون (هينغيست) و(هورسا).

خلال القرن الرابع للميلاد، كان المغيرون الساكسون يعيثون فسادا في بريطانيا التي كانت آنذاك مقاطعة رومانية. ثم في إحدى المرات، عقد المواطنون الرومان-البريطونيون صفقة مع الساكسون كمرتزقة من أجل وقف نظرائهم الساكسون المعتدين عند حدهم، فاستقروا في الأراضي البريطانية بعد أن وعدوا بالدفاع عنها ضد جميع الهجمات الخارجية.

بمجرد استقرارهم في بريطانيا، راح الساكسون يشتكون من أن الإمدادات الشهرية التي كان الرومان-البريطونيون يعدونهم بهم كانت تتأخر عن مواعيدها، فعُعقد مؤتمر من أجل حل هذا النزاع بين النبلاء من السكان الأصليين بقيادة (فورتيجرن) واثنين من قادة الساكسون البرابرة وهم (هينغست) و(هورسا). غير أن الفكرة الجوهرية التي كانت تدور في أذهان الساكسون حول حل هذا النزاع كانت تتمثل في الاغتيال المفاجئ للبريطونيين خلال المؤتمر، ولم يستثنوا سوى (فورتيجرن)، ثم أعلنوا عن أن الاتفاق الذي يجمع الطرفين لاغٍ وباطل بسبب فشل المحليين في الالتزام بجانبهم منه، ثم شنوا هجومات ضارية وخاطفة ضد بريطانيا، وأجبروا (فورتيجرن) على توقيع معاهدة تخلى لهم بموجبها عن الشرق الجنوبي الإنجليزي.

غير أن الساكسونيين لم يكونوا سعداء حقا بهذه الاتفاقية، لذا استمروا في مهاجمة البريطونيين والإغارة عليهم، فاندلعت حرب غزو كانت تهدف للاستيلاء على كامل المقاطعة البريطانية، ثم تهجير سكانها المحليين وتعويضهم بمستوطنين جرمانيين، فانضم إليهم شعب الأنجل من منطقة (شلاسفيك-هولستين) الواقعة بين الدنمارك وألمانيا، بالإضافة إلى شعب اليوت من منطقة (جوتلاند) في الدنمارك اليوم.

استمرت الحرب لحوالي 20 أو 30 سنة، حتى فاز البريطونيون في معركة (مونس بادونيكوس) المهمة للغاية حوالي سنة 500 ميلادي. ساهم هذا الانتصار الكبير في كبح تقدم الساكسون لبرهة من الزمن، الذين كانوا قد سيطروا على نصف المقاطعة البريطانية الرومانية بحلول ذلك الزمن. لقد كانت تلك الحقبة الزمنية من الحرب التي أطلقت العنان لأساطير على شاكلة الملك (آرثر)، الملك البطل الذي قاد البريطونيين ضد الغزاة الساكسون.

على الرغم من أن الملك (آرثر) عبارة عن شخصية أسطورية، فإن علم الآثار يدعم توقف هجومات الساكسون حوالي سنة 500 للميلاد بالدليل، وسرعان ما انعكس نمط توسع الساكسون بسرعة نحو الشرق والاستيلاء على جميع الأراضي هناك، وبدأت المستعمرات البريطونية تتوسع ناحية الشرق في مناطق سيطرة الساكسون الذين أجبروا على التراجع والتخلي عن الأراضي التي احتلوها في السابق.

غير أن هذه الانتصارات البريطونية كانت مؤقتة هي الأخرى ولم تدم طويلاً، حيث جمع الأنجلو-ساكسون شتاتهم وعادوا مجدداً لمساعيهم التوسعية ناحية الشرق على حساب البريطونيين، وفي نهاية المطاف احتلوا وسيطروا على جميع إنجلترا اليوم. أما البريطونيون من السكان الأصليين فقد فقدوا معظم أراضيهم الصالحة للزراعة والإنتاج، وأجبر آخر نسلهم على التراجع حتى مناطق من (كورنوال) والويلز اليوم.

مقالات إعلانية