in

هل تُعدّ الدول الغربية دولاً رأسمالية؟

هل تُعدّ الدول الغربية دولاً رأسمالية؟

أولاً دعونا نعرّف الرأسمالية كالتالي:

”النظام الرأسمالي هو نظام اقتصادي يقوم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وخلق السلع والخدمات من أجل الربح. تشمل الخصائص الرئيسية للرأسمالية الملكية الخاصة وتراكم رأس المال والعمل المأجور والأسواق التنافسية.“ (ويكيبيديا)

قد يتغير التعريف قليلاً من وجهات نظر أخرى لكن أعتقد أنه سيفي بغرض مقالنا هذا.

في النظام الرأسمالي المثالي والحر تماماً لا مكان لتدخل القطاع العام أو الحكومة به، ولا مكان لإعادة توزيع الثروات بقوة القانون، ولا مكان لوضع ضوابط على الشركات، فالتنافس هو كل شيء وهو وحده الذي يدير السوق ويدفعه للارتقاء والزيادة بنوعية وكمية المنتج. العرض والطلب هما سيّدا الموقف.

وهنا سنأخذ بلدي، حيث أعيش، المملكة المتحدة كمثال لنرى كمية انطباق تلك المعايير عليه.

قد تقول الأكثرية أن المملكة المتحدة هي بالطبع دولة رأسمالية بامتياز، لكن هل هذا صحيح؟ هل ينطبق تعريف الرأسمالية على النظام الاقتصادي البريطاني؟

في المملكة المتحدة يُموَّل ”النظام الوطني الصحي NHS“ من جيوب دافعي الضرائب وهو يوفر الرعاية الصحية المجانية عالية الجودة للجميع. كما تُموَّل كل الطرقات والبنى التحتية المتقدمة جداً من القطاع العام أيضاً، وتكلف دافعي الضرائب الكثير.

أما إذا أصبحت عاطلاً عن العمل هنا، فسيساندك القطاع العام، ستعطيك الحكومة منزلاً، ومرتبّاً أسبوعياً إلى أن تعود لتقف على قدميك، وذلك كله من أموال دافعي الضرائب أيضاً.

صحيح أن هناك بعض المشردين في البلد، لكنّ أكثرهم من ضحايا الإدمان الذي يفشل الضمان الاجتماعي إلى اليوم في احتوائهم جميعاً، إلا أنّ معدلات الفقر في المملكة المتحدة هي من الأكثر انخفاضاً في العالم، وكذلك متوسط أعداد المشردين.

أما بالنسبة لإعادة توزيع الثروات، فالنظام الضريبي على الدخل من النوع التصاعدي، أي أنه كلما ازداد مدخولك زادت نسبة الضريبة عليه، فالضريبة تبدأ من 20% على الدخل المنخفض وتنتهي بـ40% على الدخل المرتفع، وكلها تذهب الى القطاع العام.

بالإضافة لضريبة القيمة المضافة 20%، وضريبة الوقود التي قد تصل إلى 50% وضرائب الوراثة، وضريبة البلدية، ولائحة طويلة جداً من الضرائب، فكلها تذهب لتمويل القطاع العام كالسكن الاجتماعي ونظام الضمان الاجتماعي، والرعاية الصحية المجانية، والأمن الداخلي، والقضاء، والجيش، وباقي القطاعات العامة.

أما حقوق العمال المفروضة بقوة القانون على الشركات هنا فهي كثيرة، مثل وجود عدد ساعاتٍ معينة لا يُسمح بالعمل لمدة أكثر منها، وعدد أيام عطل معينة، وتحديد أدنى أجر ممكن أن تدفعه لأي عامل في الساعة.

إذاً أليس كل هذا من معالم الدولة الاشتراكية والماركسية الاقتصادية؟ هل يمكن أن نعتبر الدولة التي كتب بها كارل ماركس معظم كتبه، دولة اشتراكيةً؟ لا، ليس بعد.

لأنه في المقابل هناك مساحة ممتازة للقيام بالمشاريع الرأسمالية الخاصة أيضاً. يمكنك هنا الحصول على ترخيص تجاري على الإنترنت بتكلفة عدة جنيهات، فلا عوائق بيروقراطية كثيرة أمام المؤسسات والمشاريع الصغيرة، لكن هناك الكثير من الضوابط، فقوانين حماية المستهلك كثيرة.

فعلى سبيل المثال، شركات الكهرباء والنقل العام كلها خاصة، لكنها تخضع إلى ضوابط وقوانين صارمة تتدخل في أصغر تفاصيل عملها والخدمة المقدمة للزبون وحتى الأسعار.

فصحيح أن المنافسة قد تدفع مزودي الخدمات لتقديم أحسن ما لديهم، لكن هذا لا يحدث دائماً، فأحياناً تستحوذ شركة واحدة على السوق وتقضي على المنافسة وأحياناً تكون المنافسة مستحيلة، فكيف يمكن لشركات القطارات أن تتنافس على سكة حديد واحدة مثلاً؟ أو على جمع القمامة في مدينة واحدة؟ لهذا ترغم الحكومة مزودي الخدمات العامة على تقديم مستوى معين من الخدمة. وحتى المشاريع الخاصة والشركات تخضع لضوابط وقوانين، فلا يكفي أن نترك التنافس ليفضح المطعم الذي لا يلتزم بمعايير صحية بعد أن يفوت الأوان مثلاً.

إذاً ما نوع السوق هنا؟

المملكة المتحدة كأكثر الدول المتقدمة اليوم تتبع نظام سوق يخلط بين أفضل ما في النظم الرأسمالية البحتة والنظم الاشتراكية، فالنظام البريطاني هو ما يُعرف بنظام سوق مختلط.

السوق المختلط يوفر مساحة جيدة من السوق الحرة ويعتمد على القطاع الخاص كثيراً حتى في توليد الطاقة النووية، وضبط مخالفات الوقوف ولكنه أيضاً نظام يقدّر المساواة الاقتصادية التي تجلبها الاشتراكية.

ففي النهاية، نحن نعيش في وطن واحد، لا مجال لترك الناس يموتون جوعاً أو يعيشون في العراء، وفي هذه الدولة المتقدمة لا مجال للسماح لهم بالموت على أبواب المستشفيات. وبهذا أكون قد أوجزت بعضاً من الفلسفة الاقتصادية في المملكة المتحدة وفي معظم دول غربي أوروبا.

مقالات إعلانية