in

لماذا ألقت الولايات المتحدة بأربع قنابل نووية على إسبانيا؟

طائرة B-52 تطلق قنبلة

مع قدوم عام 1960، عاشَ العالَم أصعب مرحلةٍ في الحرب الباردة، إذ كانَ المعسكر الغربي في مواجهةٍ نووية مع الاتحاد السوفييتي، فكلٌّ منهما كان بحوزتِهِ من هذه الأسلحة ما يكفي لتدمير الطرفين بشكلٍ محقّق، إلّا أنه على عكس ما يُخيَّل للبعض، فأكثر هذه الأسلحة كانت عبارة عن قنابل ثقيلة، وليست رؤوساً نووية محمولة على الصواريخ.

على إثرِ ذلك، أطلقَ الجنرال (توماس باور) برنامجاً يقضي بأن تحلّق طائرات B-52 Stratofortress في الجو حول المناطق الصديقة لمدة ساعة لاستطلاع الأهداف السوفياتية العدوة، أطلق على حالة التأهب القصوى هذه اسم عملية «قبة كروم» Chrome Dome، فكانت هذه الطائرات تحلّقُ لآلاف الكيلومترات، عابرةً قارّاتٍ بأكملها في بعض الأحيان، ولتحقيق ذلك كانَ لابدّ أن تتزوّد بالوقود وهي تحلّق في الجو.

جزء من حطام طائرة B-52 الأمريكية التي كانت تحمل القنابل النووية الأربعة على متنها، والتي تحطمت بالقرب من (بالوماريس) في إسبانيا
جزء من حطام طائرة B-52 الأمريكية التي كانت تحمل القنابل النووية الأربعة على متنها، والتي تحطمت بالقرب من (بالوماريس) في إسبانيا

لم تكن كل هذه الطائرات، وكلُّ هذه القنابل، وكل هذا الاحتدام، لتنتهي على خير عاجلاً أم آجلاً، وهذا ما حصل عام 1966.

حلّقت إحدى طائرات B-52 من قاعدة Seymour Jounson في ولاية (كارولينا الشمالية) الأمريكية حاملةً معها قنبلةً هيدروجينية رباعية من نمط B28RI، واتخذت خط مسارٍ من القارة الأمريكية عبر المحيط الأطلسي باتجاه الحدود الأوروبية مع الاتحاد السوفييتي قبل أن تعود إلى القاعدة الأميركية. في رحلتِها هذه، كانت الطائرة في حاجة لتعبئة الوقود وهي تحلق في الجو مرتين: مرّة بعد انطلاقها، ومرّةً قبل عودتها، وكِلا المرتَين حدثتا فوق الأجواء الإسبانية.

قد يتساءل أحدكم كم تبلغ قوة قنبلة B28RI؟

في حقيقة الأمر، إنّ هذه القنابل الأربعة تمتلك قوةً تدميرية تزيد بنسبة 25٪ عن كلّ ما استُخدِم من أسلحة ومتفجرات في الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك قنبلتي (هيروشيما) و(ناكازاكي)، أي أنّ طائرة B-52 كانت لتمسحَ بلداً صغيراً من على وجهِ الخريطة لو ألقت بحمولتها عليه.

أكبر قطعة من حطام الطائرة الأمريكية الناقلة للوقود بعد تحطمها إثر حادثة اصطدام جوي مع طائرة الـB-52 في سماء الجنوب الشرقي لإسبانيا.
أكبر قطعة من حطام الطائرة الأمريكية الناقلة للوقود بعد تحطمها إثر حادثة اصطدام جوي مع طائرة الـB-52 في سماء الجنوب الشرقي لإسبانيا.

في صباح الـ17 من يناير عام 1966، كان من المفترض أن تلتقي طائرة B-52 مع طائرة تحمل وقوداً قادمة من قاعدة (مورون) الأمريكية الجوية في إسبانيا، يروي الرائد (لاري مسينجر) تفاصيل ما جرى في هذا اليوم المصيري:

”كانت طائرتنا خلف طائرة الوقود محلّقةً في الجو بسرعةٍ عالية، حتّى تجاوزناها قليلاً. في علم الطيران، هناك إجراء يتّبعَه طاقمُ طائرة الوقود عادةً حين يشعر بقُرب طائرةٍ أخرى، فيُخطِرها: ”ابتعد. ابتعد. ابتعد“. ما حصل أنّنا لم نتلقَّ هذا الإخطار، فلم نشعُرْ بخطورة الموقف إلى أن تفجّرَ الوضعُ فجأةً، وغدا الجحيمُ أمامَ مرأى عيوننا.“

حطام الطائرة الناقلة للوقود.
حطام الطائرة الناقلة للوقود.

مزّقت فوهة جهاز التعبئة في طائرة الوقود جسم الطائرة B-52، وتحطّمَ الجناحُ الأيسر، وأدى الاصطدام الذي حصل إلى انفجار طائرة الوقود ومقتل الطاقم المكوّن من أربعة أشخاص، فظهرت في السماء كرة نار لامعة شاهدها طاقم طائرة B-52 أخرى كانت تبعدُ كيلومترين عن الموقع، أما فيما يتعلق بطاقم طائرة الـB-52 المنكوبة فقد تمكنوا من الخروج منها والقفز بالمظلات بينما كانت تهوي نحو الأرض بسرعة كبيرة.

فريق البحث عن القنبلة النووية في مخيم (كامب ويلسن) في فترة استراحة الغداء، على سواحل مدينة (بالوماريس) الإسبانية.
فريق البحث عن القنبلة النووية في مخيم (كامب ويلسن) في فترة استراحة الغداء، على سواحل مدينة (بالوماريس) الإسبانية.

كلُّ هذا حصل عالياً فوق سماء مدينة (بالوماريز) الهادئة والمعروفة بصيد السمك، ولحسن الحظ سقطت ثلاثة قنابل قريبا من المدينة، فانفجرت اثنتان منهما بفعل الاصطدام غير أنها لم تطلق طاقتها النووية ومن لم تلحق أضراراً كبيرة، والثالثة سقطت دون أن تنفجر، أما الرابعة فاختفَت عن الأنظار، تبيّنَ فيما بعد أنّ جزيئات البلوتونيوم قد انتشرت في كامل أرجاء المنطقة البالغة مساحتُها 260 هكتاراً، الأمرُ الذي تطلّبَ سنواتٍ للتخلُّص منها، لحُسنِ الحظ، لم يكن هناك ضحايا على الأرض من جراء هذا الحادث.

إحدى القنابل التي فقدت أثناء الحادثة مثلما عثر عليها.
إحدى القنابل التي فقدت أثناء الحادثة مثلما عثر عليها.

لقد كانت تلك فترة الحرب الباردة، وانتشرت مخلّفات شديدة السمية على طول الساحل الإسباني، وسرعان ما عثر على القنابل الثلاث، بينما بقي مكان القنبلة الرابعة مجهولاً.

مضت أيامٌ كثيرة دون العثور عليها، ولم يكن هناكَ من دليلٍ يشيرُ إلى أنّ هذه القنبلة بحوزةِ ثُلّة من الإرهابيين، أو جواسيس من الاتحاد السوفيتي، أو بحوزة مجموعة من السكان الفضوليين.

فيما بعد، صرّح أحد الصيادين بأنه رأى جسماً غريباً يسقط في البحر المتوسط، الأمرُ الذي جعل قوى البحث تعتقد بأنّ القنبلة قد سقطت في عُمق البحر، ورغم مشقّة المهمة، تمكّنَ فريق البحث من العثور على القنبلة باستخدام بعض المعادلات الرياضية و27 سفينة وغواصة.

على

جنرال القوات الجوية الأمريكية (ديلمار ويلسن) على اليسار، وأدميرال القوات البحرية الأمريكية (ويليام غيست) على اليمين يتفحصان القنبلة النووية الرابعة التي عثر عليها في عرض البحر بعد استخراجها.
جنرال القوات الجوية الأمريكية (ديلمار ويلسن) على اليسار، وأدميرال القوات البحرية الأمريكية (ويليام غيست) على اليمين يتفحصان القنبلة النووية الرابعة التي عثر عليها في عرض البحر بعد استخراجها.

بعد رحلةِ بحثٍ استمرّت 80 يوماً عثروا على القنبلة المفقودة أخيراً، وبينما كانت تُنقَل بتروٍّ من عُمق البحر إلى سطحه، انزلقت وضاعت من جديد، ليعثروا عليها مجدّداً بعد أسبوعٍ من البحث، لتتكلّلَ عملية نقل القنبلة هذه المرة بالنجاح.

تُعرَف هذه الواقعة اليوم باسم «واقعة بالوماريز».

جندي أمريكي مجهول الهوية يحقق في حطام الطائرة B-52
جندي أمريكي مجهول الهوية يحقق في حطام الطائرة B-52

مقالات إعلانية