التقط القمر الصناعي (تيرا Terra) التابع لوكالة ناسا الأمريكية تلك الصورة أسفل هذه الفقرة عام 2006، وإن دققنا النظر جيداً، نستطيع رؤية خدوشٍ عميقة في قلب الصحراء، تشكّلت تلك الحفر والخدوش جرّاء 60 سنة تقريباً من التعدين (استخراج المعادن) في هذه المنطقة.
تقع هذه المنطقة في الجزء الغربي من منغوليا الداخلية، والتي تقع في الصين، على الرغم من اسمها. فعبر التاريخ، كانت منغوليا بأكملها تحت الاحتلال الصيني، لكن عندما انهارت سلالة (تشينغ) في أوائل القرن العشرين، أعلنت منغوليا استقلالها عن الحكم الصيني، عدا جزء واحدٍ من منغوليا، وهو ما أصبح يُعرف بـ منغوليا الداخلية، أما الأجزاء الباقية فهي ما شكّلت دولة منغوليا الحالية، والتي يُطلق عليها البعض اسم (منغوليا الخارجية). شاهدوا الخريطة في الأسفل لتعرفوا أكثر:
السياسة أمرٌ معقد حقاً، فما دفع الصين إلى الاحتفاظ بهذا الجزء من منغوليا، وعدم السماح بقيام دولة منغولية كاملة، هو أن هذا الجزء الكبير يعجّ بالمصادر الطبيعية –وهي مصادر ثمينة جداً وإلا لما كانت الصين تمنع جارتها من تشارك تلك المصادر.
تنتج المناجم في تلك المنطقة العناصر والمعادن الأرضية النادرة، وهي 17 عنصراً كيميائياً، وهي العناصر الضرورية والأساسية للكثير من التقنيات والأدوات والأجهزة الحديثة التي يستخدمها الناس بشكل يومي، كالأجهزة الذكية والحاسبات المحمولة والكاميرات والبطاريات القابلة لإعادة الشحن والسيارات الكهربائية والهجينة وأجهزة التلفاز…
أُطلقت تسمية «العناصر الأرضية النادرة» على 17 عنصراً كيميائياً بسبب قلة وندرة الأماكن التي كانت تُستخرج منها سابقاً، لكنها أصبحت متوفرة اليوم بتراكيز ونسب أعلى على الأرض. تُستخدم تلك العناصر باعتبارها محفزات (وسطاء) وكمادة فسفورية (مادة تمتص أنواع من الطاقة وتصدرها على هيئة ضوء مرئي) وفي الصقل والتلميع. أما من ناحية التطبيقات، فتدخل العناصر في صناعة نظارات الرؤية الليلية والأسلحة دقيقة التوجيه ومعدات الاتصال ومعدات نظام تحديد الموقع GPS والليزر وأنظمة الرادار والسونار.
تملك العناصر الأرضية أيضاً خواص مغناطيسية وكهربائية تساعدنا في بناء أغراض ومعدات أصغر وأسرع وأخف وأقوى، كمغناطيس النيوديميوم على سبيل المثال والمستخدم في صناعة الأقراص الصلبة ومكبرات الصوت والهزاز على جهازك المحمول… ولها استخدامات حديثة أيضاً، فالقوة الهائلة لتلك المغانط ساهمت في ابتكار تطبيقات جديدة ضمن مجالات لم تعهد استخدام المغانط، فدخلت المجال الطبي وأحدثت فرقاً هائلاً.
بالرغم من اسمها، لم تعد تلك المعادن نادرة بعد الآن. فـ السيريروم، وهو أحد العناصر النادرة، يحتلّ المرتبة الخامسة والعشرين من حيث توفره على سطح الأرض، وهو متوفر بكميات أكبر من النحاس على سبيل المثال. حتى الثوليوم واللوتيشيوم، وهما أقل العناصر النادرة وفرة على الأرض، لكنهما متوفران أكثر بـ 200 مرة من الذهب. لكن المشكلة تكمن في صعوبة استخراج وتعدين تلك العناصر، وذلك لأنه من النادر العثور عليها بتراكيز عالية كفاية لاستخراجها بشكل اقتصادي.
حتى الآن، تنتج الصين رقماً مهوّلاً من تلك العناصر، حيث بلغت نسبة إنتاجها من جميع العناصر المتوفرة على سطح الكوكب نحو 97 بالمئة، أي أن الصناعة في أنحاء العالم تعتمد بشكل جوهري على الصين. حتى أن ثلثي تلك النسبة تُستخرج من المنجم المصوّر في الأعلى. ذاك الحصن الذي تسيطر عليه الصين، وتعتمد عليه في إنتاج وتوزيع تلك العناصر الثمينة، هو أحد الأسباب التي جعلت من صناعة الأدوات والأجهزة سابقة الذكر في الصين صناعة ضخمة ومربحة.
خلال العقد الماضي، بدأت الصين تخفيض صادراتها من العناصر النادرة إلى البلدان الأخرى، في محاولة لتجويع منافسيها على ما يبدو. تدعي الصين أن القيود على الصادرات هدفها حماية البيئة والمعادن النادرة من الاستثمار المفرط. لكن ذلك ليس صحيحاً على الإطلاق، فمستوى التلوّث في مدينة باوتو Baotou المجاورة لمناجم بايان أوبو (120 كيلومتراً إلى الجنوب) مثيرٌ للاشمئزاز، حيث تحوي المدينة المصانع والمصافي المخصصة لمعالجة تلك العناصر، والمؤلم أن عدد سكانها يبلغ 2.6 مليون نسمة!
وصف (تيم موغان)، وهو صحفي في الـ BBC، بحيرة صنعية مليئة برواسبٍ طينية سوداء وغير سائلة تماماً، وبالطبع، هي سامة بلا شك. كتب (موغان) في تقريره التالي:
”تحاذي عشرات الأنابيب شاطئ البحيرة، ويُقذف منها سيلٌ من الفضلات الكيميائية السوداء والكثيفة، وهي قادمة من المصافي التي تحيط بالبحيرة. رائحة الكبريت وضجيج الأنابيب يهيمن على كلّ شيء، فتشعر وكأنك في الجحيم“.
وأضاف:
”هناك الكثير من محطات الطاقة العاملة على الفحم هنا في باوتو، وتتموضع بالقرب من الأبراج السكنية المبنية حديثاً. فحيثما تنظر، بين الأبراج السكنية غير المكتملة ومواقف السيارات ذات الطابقين، ستجد غابةً من أبراج المصافي تعلوها ألسنة اللهب، وصفاً غير منتهي من أبراج الأسلاك الكهربائي. يعبق الجوّ برائحة الكبريت، وبشكل دائمٍ. إنه منظر صناعي مضى عليه الزمن في أوروبا وأمريكا“.
السيد (لي غويرونغ Li Guirong) هو السكرتير العام لأحد أفرع الحزب الشيوعي في المنطقة ، وأحد سكان هذه المدينة الذين يجرؤون على التحدث عن هذه القضية. أوضح السيد (لي) ما يلي: ”قبل بناء المصانع، كانت هذه المنطقة عبارة عن حقول على مدّ البصر. حلّت هذه الرواسب المشعة محلّ نباتات البطيخ والباذنجان والطماطم“.
بدأت عمليات استخراج المعادن عام 1958، وفي نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، بدأت المحاصيل في القرى المجاورة تموت. أوضح (لي) تعقيباً على هذا الموضوع: ”لم تنمُ النباتات بشكل جيّد، كانت تُزهر بشكل طبيعي، لكن في بعض الأحيان لم تحمل النباتات ثماراً، وإذا حملت، كانت رائحتها وطعمها مقرفتين“. بعد مرور عشر أعوام، لم تنم الخضراوات إطلاقاً، وأصبح الهواء مشبعاً بأبخرة حمض الكبريتيك وتراب الفحم، أما التربة والمياه الجوية فأصبحتا مشبعتين بالمواد السامة.
نددت منظمة التجارة العالمية بممارسات الصين المتمثلة باحتكار تلك العناصر النادرة والقيود التجارية التي فرضتها على استيرادها. حاولت دولٌ أخرى إيجاد مصادر بديلة في أستراليا وأوروبا والأمريكيتين وأفريقيا. نضبت معظم المناجم في تلك الدول عندما خفّضت الصين الأسعار العالمية في تسعينيات القرن الماضي، أما إعادة الإنتاج في تلك المناجم فتتطلب عدداً لا بأس به من السنوات. هناك خيارٌ آخر وهو إعادة تدوير النفايات الالكترونية. فوفقاً لإحدى التقارير الإخبارية [بالإنجليزية]، تحوي اليابان وحدها نحو 300 ألف طن من العناصر النادرة مخزنة في الإلكترونيات غير المُستخدمة.
من المثير للسخرية أن 30 بالمئة فقط من المخزون العالمي للعناصر النادرة موجود في الصين، بالرغم من أن الأخير تهيمن على سوق تلك العناصر. أما الدول الأخرى فتقلق جداً حيال تلوّث البيئة الذي سينجم عن تعدين تلك العناصر، وهو مسوّغ حقيقي كما لاحظنا. فعلى سبيل المثال، اقتُرح مشروع تعدين العناصر النادرة في وسط إسبانيا، وكان من المفترض أن يوفر هذا المشروع ثلث حاجة أوروبا سنوياً. لكن السلطات الإقليمية تدخلت وأوقفت المشروع بسبب العواقب البيئية والاجتماعية. يبدو أن الأمور مختلفة في الصين، فالبيئة هناك لا تحتلّ قائمة الأولويات.
تحدّث (موغان) عن فكرة مهمة، فقال: ”لم تهيمن الصين على سوق العناصر النادرة بسبب وفرتها في تلك المنطقة، بل السبب هو قبول الصين بالعواقب البيئية الناجمة، وهو أمرٌ لا تتحمّله الدول الأخرى“.
من المعروف عن الحكومات الصينية استهتارها بموضوع البيئة، ولكن عندما يصبح الخطر وجودي، هل ستبقى الصين على مواقفها؟