in

عندما خسر الغرب ثمار معركة الماراثون

معركة الماراثون

بينما كان الفرس يبنون امبراطوريتهم على أنقاض البابليين، يضمون تحت حكمهم العديد من الشعوب والثقافات التي لا يمكن أن يجمعها باختلاف ألسنتها وثقافاتها إلا إله واحد يتجسد بالملك—الإله يحكم باسم السماء— تذوب بوجوده عظمة الرجال وتتجسد الشعوب به ويتكلم التاريخ عنه فقط، كانت أوروبا عبارة عن مدن، وكل مدينة عبارة عن دولة متجانسة ثقافيا، تحكم إما بنظام جمهوري كأثينا وروما، أو ملكي كاسبارطة وسرقوسة، وكان الدافع الوطني كافيا لجمع كلمة المدينة الدولة.

كانت النزعة الفردية خاصة من خصائص أوروبا، كان المحاربون يقاتلون في سبيل المجد والخلود في التاريخ، و تطلع الرياضيون للفوز على خصومهم ليسجلوا انتصارا لذواتهم ويكافؤون بتماثيل تخلد جمال أجسامهم وانتصاراتهم، لم يكن تاريخهم تاريخ ملوك؛ بل تاريخ شعوب وأفكار.

في عام 490 قبل الميلاد وصلت جيوش داريوس الأول (أعظم ملوك الامبراطورية الفارسية الأخمينية) إلى اليونان لاستكمال فتوحاته، كانت جيوش داريوس عبارة عن أمم مختلفة لا تبالي باليونان، وكان ضمن جيوشه مرتزقة يونان من يونان الآسيوية تقاتل بني جلدتها بفتور، التقت الجيوش الفارسية إذا صح التعبير بجيش أثينا في سهل الماراثون، كان الاثينيون يقاتلون دفاعا عن أرضهم ومصالحهم ويتفوقون على عدوهم بمعرفتهم أرض المعركة وأجسادهم الرياضية.

انتصر حينها الاثينيون وحافظوا على خصائص اليونان وأوروبا المتوسطية، كان هذا النصر مقدمة لبناء الإمبراطوريات في الغرب، فسرعان ما استفادت أثينا من نصرها وبنت أسطولا بحريا باعتبار أن أي جيش فارسي سيعبر اليونان لا يملك إلا البحر طريقا، وبهذا الأسطول تحولت لعاصمة إمبراطورية يونانية، لكن سرعان ما انهارت بسبب مقاومة اليونانيين والرومان لها، فقامت على أنقاضها إمبراطورية المقدونيين -وهم أقل اليونان شأنا- التي من خلال جيلين فقط من الحكام وصلت إلى الهند، فوجد الإسكندر نفسه واقعا في فخ الشرق وطلب من رعاياه السجود له ولكن سرعان ما قتل الإسكندر وتخلص الأوروبيون من غزو الفكر الشرقي لهم وبدأ الغزو الثقافي اليوناني للشرق بعد موته، فالاسكندر كان يحلم بدمج الثقافات الشرقية مع اليونانية لتشكيل ثقافة عالمية واحدة ولكن خلفاءه كانوا متعصبين جداً للثقافة اليونانية ويعتقدون بتطورها عما سواها.

وبدأ تحويل المشرق إلى الثقافة اليونانية بعد أن دخل في فلكها سياسياً وعسكرياً، فدخلت المدراس الفلسفية اليونانية للشرق، ومعها اللغة اليونانية و آلهتها وتبدلت أسماء المدن إلى أسماء يونانية؛ الأردن أصبح فيلادلفيا وجبيل أصبحت بيبلوس وهلم جرا، كما تم تأسيس مدن يونانية لتصبح عواصم للبلاد اليونانية في المشرق عوضا عن المدن الآرامية والفينيقية كأنطاكيا في سوريا والإسكندرية في مصر، وأصبح المشرقيين يتكلمون ويتسمون بأسماء يونانية -عدا الطبقات الدنيا- ويشاركون بالألعاب الرياضية عراة، وبالرغم ما شاب الحكم من مظاهر أبهة شرقية، باختصار كانت اليونان تقطف ثمار معركة الماراثون.

وبينما كان ميزان القوى ينتقل إلى روما، كان المشرق قد أصبح هيلينيا، وورثت روما المشرق من اليونانيين، وكانت المدن العظمى فيه مثل أنطاكية والإسكندرية يونانية التأسيس.

لم تقف ثمار الماراثون عند المشرق بعد أن ضمت إلى الجمهورية الرومانية، فامتدت تكتسح روما، فالثقافة الرومانية فقيرة وتفوقت بالنظام والقانون وليس بالفكر والأدب، وتحول الفاتحون الرومان إلى مغلوبين ثقافيا، وانتشرت الثقافة واللغة والآلهة اليونانية في روما، انتقلت التماثيل اليونانية إلى روما تزينها بعد أن نهبها الضباط الرومان، ولم يخل بيت من بيوت الأشراف من معلم يوناني، فكتب فرجيل شاعر روما الأول الانياذة معتمداً على الالياذة اليونانية.

كانت روما دولة تتكلم اللاتينية وتكتب باليونانية، وبفضل نظامها دخلت مرحلة الإمبراطورية العالمية وأمدت العالم بما يسمى السلم الروماني، هذا السلم كان وبالا على النظام الاجتماعي، فقد تم تسريح الفيالق ليجد الجنود أنفسهم بلا عمل، وقطف ثمار الفتوحات الأشراف الذين سيطروا على الأراضي التي فتحتها الجيوش المسرحة، واعتمدوا على العبيد في زراعتها، انتشر الفقر وفقدت الآلهة رونقها، وتلاه حشود البرابرة على الحدود والفوضى السياسية بعد مقتل كومودوس ابن ماركوس أورليوس.

في هذه المرحلة من عدم الاستقرار كان الشرق يتحضر للهجوم من جديد، ففي هذه الفترة كان المسيح الذي بشر بمملكة السماء ينتصر مستغلا حالة الفراغ الروحي والأخلاقي للغرب، والفوضى التي ازداد على أثرها ميل الشعوب الرومانية لفكرة مملكة السماء حيث ينتشر العدل والرخاء.

كانت الدولة أساس الحضارة الغربية الوثنية، بينما كان الدين هو أساس الحضارة الشرقية، وهذا كان حال المجتمع المسيحي الصاعد، فقد كان ولاؤه لمؤسسته الدينية وليس للدولة، هذا التناقض بين الثقافتين ادخل الدولة والمجتمع المسيحي في صراع وجودي، ولقد التقى المسيح والقيصر بالمجتلد فانتصر المسيح على القيصر.

وجد الاباطرة الرومان أنفسهم يحكمون إمبراطورية متعبة مهددة من الداخل والخارج على حد سواء، أمر الإمبراطور أورليان الذي انتصر على زنوبيا بتشييد الأسوار حول المدن، معترفا بذلك بضعف الفيالق على حماية الدولة، وتبعه ديقلديانوس الذي وجد نفسه بالمأزق الذي وقع به ملوك الشرق والاسكندر الأكبر، فهو يحكم إمبراطورية على وشك الانهيار لا تملك مؤسسات تحفظ وجودها، فاعتمد طريقة حكام الشرق بحكم الدولة، فحول ديقلديانوس العبادة؛ من عبادة عبقرية الإمبراطور إلى عبادة شخصه بوصفه تجسيداً لجوبتير، واتخذ لنفسه تاجا وأثوابا من الحرير والذهب، وأحذية مرصعة بالجواهر، وابتعد عن أعين الناس في قصره وحتم على زائريه أن يمروا بين صفين من خصيان التشريفات والحجاب وأمناء القصر ذوي الألقاب والرتب، وأن يركعوا ويقبلوا أطراف ثوبه.

كان هذا يعني التخلي عن ثمار معركة الماراثون والعودة إلى النظريات التي قام عليها حكم ملوك الشرق، ومن هذه الملكية الشرقية الصبغة، جاء نظام الملكيات البيزنطية والأوروبية حتى الثورة الفرنسية، ولم يبق بعد هذا إلا أن يتحالف الملك الشرقي صبغة مع دين شرقي، وهذا ما حدث عندما جاء قسطنطين.

لقد اعتمد قسطنطين في الحرب الأهلية التي أوصلته للحكم على فيالق شكل غالبيتها رعايا مسيحيون، وكان يشعر بالامتنان والإعجاب بهذه الطائفة، فبالرغم من كونهم أقلية، فقد كانوا أقلية متماسكة على عكس الأغلبية الوثنية التي كانت شيعا، ويتميزون بالفضائل التي افتقدها المجتمع الوثني بمرور الزمن، وكانوا مطيعين لاساقفتهم الذين علموهم اطاعة رؤوساءهم المدنيين ولقنوهم حق الملوك المقدس، وقد كان قسطنطين يبحث عن الملكية المطلقة ورأى بالمسيحية ونظامها أداة لتوحيد البلاد وتهدئتها وحكمها.

عندما أراد توحيد الدولة والبلاد تحت حكم دين واحد، بدأ هذا الدين بالانشقاق، استخدم الدولة لتوحيد هذا الدين، واتخذ لنفسه عاصمة شرقية، وللدولة دينا شرقيا، واعتمد على أنظمة الحكم الشرقية في حكم دولة غربية المنشأ، تراجع الفن وحظرت الألعاب الأولمبية بعد حين لارتباطها بالوثنية، وأصبحت الفلسفة تجذيفا، وأغلقت ”جستنيان“ (مدرسة الفلسفة في أثينا) عام 528 معلنا بذلك هزيمة الغرب أمام الشرق بعد 1000 عام من معركة الماراثون.

مقالات إعلانية