in

عندما كان البريطانيون قديماً يستأجرون نُسّاكاً ليزينوا بهم قصورهم

ناسك في صومعته

لو كنت أحد أسياد القوم في الحقبة الجورجية في إنجلترا لكنت مالكاً لقصر ريفي مترامي الأطراف، الذي يتضمن حديقة مزينة بشكل فاخر ومعقد، والتي للأسف ما كانت لتكون كافية لإثارة إعجاب ضيوفك وزوارك.. لا، بل كنت لتجد نفسك في حاجة لشيء إضافي آخر، ألا وهو ”ناسك“ يعيش فيها ليضفي عليها نوعاً من الروحانية.

لطالما كان النّساك الحقيقيون، الذين اعتزلوا المجتمع وابتعدوا للعيش في منأى عنه من أجل الوصول إلى درجات عليا من التنوير الروحي، لطالما كانوا جزءا من المنظر الديني العام لبريطانيا على مر عدة قرون، غير أن موضة إضافة النساك للملكيات العقارية لأغراض جمالية ظهرت في القرن الثامن عشر، وانبثقت عن تأثير طبيعي طغى على الحدائق البريطانية آنذاك.

كان مزيّن الحدائق المشهور (لانسلو براون) 1715–1783 من الرواد الذين حملوا شعلة هذه المقاربة الطبيعية، التي أسدلت ظلالها على الأسلوب الفرنسي القديم المعمول به في تزيين حدائق القصور، على غرار الأرضيات المعشوشبة المشذبة بطريقة أنيقة، والوشائع المشذبة بعناية شديدة لتجعلها تبدو مثل أجسام مستطيلة الشكل، وممرات الحصى ذات الأشكال الهندسية المتنوعة، واعتمد بدلا من هذا الأسلوب القديم ممرات أفعوانية ذات أشكال متنوعة، التي تمر عبر بحيرات صغيرة ذات منظر رومانسي، ومجموعة من الأشجار المتنوعة.

كان أسلوب تزيين الحدائق الجديد هذا يتضمن غالباً صومعات فاتنة كان يتم بناؤها بواسطة الآجر أو الحجر، أو حتى أجذع الأشجار وفروعها، وكانت الكثير من هذه الصومعات مزينة من الداخل بواسطة رفوف أو عظام من أجل إضفاء جو روحاني مثالي على المكان.

صومعة في (ووترستون)، في ريف (ويستميث) في إيرلندا.
صومعة في (ووترستون)، في ريف (ويستميث) في إيرلندا – صورة: Oxford University Press

مع هذه الموضة الحديثة في بناء صومعات في الملكيات العقارية الريفية، كانت الخطوة المنطقية التالية تملي إعمارها بناسك فعلي، ليس واضحا بعد من كان أول من أطلق هذه الموضة، لكن في نقطة ما من أوائل القرن الثامن عشر أصبح ينظر إلى وجود ناسك مقيم في القصر يتأمل الوجود بهدوء وصمت، ويشارك الزوار من حين إلى آخر بعضا من حكمته الروحانية، على أنه أمر كان لابد من وجوده من أجل منظر الحديقة المنزلية المثالي.

كان من الصعب جدا العثور على نساك حقيقيين، لذا كان على مالكي الأراضي الأثرياء أن يبدعوا، قام بعضهم بوضع إعلانات في وسائل الإعلام المتاحة آنذاك، عارضين الطعام والمأوى وراتبا محترما لكل من كان مستعدا لتبني حياة العزلة التامة. وضع (الموقر تشارلز هاميلتون) أحد هذه الإعلانات بعد أن قام بشراء متنزه (باينشيل)، وهي ملكية عقارية في (كوبهام) في (سوري)، وقام بإعادة بناء مظهر حدائقها بشكل موسع.

أنشأ (هاميلتون) في حديقته بحيرة، وكهوفاً، وجسراً صينياً، ومعبدا، وصومعة، ثم وضع إعلانا يفيد بأنه كان ينشد ناسكا للعيش هناك في الصومعة داخل حديقة قصره لمدة سبعة سنوات مقابل مبلغ 700 جنيه إسترليني، الذي يعادل بأرقام اليوم حوالي 77 ألف دولار.

لم يكن مسموحا لهذا الناسك بالحديث مع أي أحد، كما كان ممنوعا عليه قص شعره، أو مغادرة الملكية العقارية. للأسف الشديد، اكتشف لاحقا وجود هذا الناسك المتطوع في حانة محلية بعد مجرد مضي ثلاثة أسابيع على إقامة العقد، فتم على إثر ذلك فسخ العقد، ولم يقم بعدها (هاميلتون) بتعويضه، وقد يكون السبب وراء ذلك هو الصعوبة الكبيرة في جذب ناسك جاد.

كان من بين أكثر النساك شهرة في الحقبة الجورجية (الأب فرانسيس)، الذي كان يعيش في متنزه (هاوكستون بارك) في (شروبشاير) في صومعة صيفية مصنوعة من جدران حجرية، وسقف من الخلنج، وباب اصطبل. داخل الصومعة، كان (الأب فرانسيس) يجلس على طاولة مليئة بالأغراض الرمزية، على شاكلة جمجمة، وساعة رملية، وكرة زجاجية، بينما كان يتبادل أطراف الحديث مع زواره الذين كان يمنحهم الإرشاد الروحي وكان يقص عليهم منافع طبيعة الوحدة والعيش بتلك الطريقة.

كان الالتقاء بناسك حقيقي مصدر جذب كبير للناس، وكان أمراً ذا شعبية كبيرة لدرجة أن آل (هيل)، الذين كانوا يملكون المنتزه الذي عاش فيه (الأب فرانسيس)، وجدوا أنفسهم مجبرين على إقامة حانة خاصة بهم التي أطلقوا عليها اسم (هاوكستون آرمز)، من أجل إرضاء طلبات ضيوفهم الكثيرين.

صورة لأحد النساك من سنة 1787
صورة لأحد النساك من سنة 1787 – صورة: Wellcome Images/Wikimedia Commons

بينما كان بعض مالكي القصور والملكيات العقارية يعانون في سبيل العثور على ناسك جيد وملتزم وجاد، فإن بعض الناس كان قد جذبهم هذا الدور في الواقع، وهو ما يقف شاهدا عليه هذا الإعلان من سنة 1810 الذي يقول:

”رجل شاب، يرغب في اعتزال العالم والعيش كناسك، في أي مكان مناسب في إنجلترا، مستعد للتعامل مع أي نبلاء أو أسياد قد يرغبون في أن يكون لديهم واحد [ناسك]. أرسلوا رسائلكم إلى (ساينت لورنس)، واتركوها في مبنى السيد (أوتون) الشقة رقم 6 في (كولمان لاين) في (بلايموث)، مع ذكر المبلغ الذي سيتم تقديمه، وكل التفاصيل الأخرى“.

للأسف لا يمكننا معرفة ما إن كان أحد ما قد رد على هذا الإعلان أم لا، وبينما لم يكن النبلاء في تلك الحقبة قادرين على جذب نساك حقيقيين للعيش في صومعات حدائق قصورهم، فإن عددا من الحلول المبتكرة تم اعتمادها.

في سنة 1763 تمكن خبير النباتات (غيلبرت وايت) من إقناع شقيقه الكاهن (هينري وايت) أن يضع جانبا غفارته (رداء الكاهن) من أجل أن ينتحل صفة ناسك حكيم في قصر (جيلبرت سيلبورن) من أجل تسلية ضيوفه. كانت الآنسة (كاثرين باتي) واحدة من هؤلاء الضيوف التي كتبت لاحقا في يومياتها أن: ”في منتصف فترة تناول الشاي زارنا ناسك عجوز جعلني مظهره أصاب بالذهول، جلس لبعض الوقت معنا ثم ذهب بعيدا. بعد تناول الشاي اتجهنا ناحية الغابة وعدنا إلى الصومعة من أجل رؤيتها تحت أضواء المصابيح ليلا، فبدت جميلة بكل تأكيد، لن أنسى السعادة التي شعرت بها في ذلك اليوم“.

أما في حالة لم يكن هناك شقيق خاضع مستعد للتخلي عن حياته والتظاهر بمظهر الناسك، كان مالكو الحدائق يفرشون الصومعات ببعض الملحقات التقليدية التي ترتبط بالنساك ارتباطا وثيقا، على غرار ساعة رملية، وكتب، ونظارات طبية، حتى يفترض الضيوف والزوار أن ناسكا ما يعيش فعلا في ذلك المكان، وأنه ربما كان غائبا لفترة وجيزة ويعود.

قام البعض حتى بنقل هذا الأمر إلى مستويات أخرى تماما، بوضعهم لدمى أو دمى آلية متحركة في مكان الناسك لتحل محله. يوجد أحد الأمثلة على هذا في (وودهاوس) في (وومبورن) (ستافوردشاير) بإنجلترا، حيث أضاف (سامويل هيلي) في منتصف القرن الثامن عشر ناسكا ”ميكانيكيا“ داخل صومعته، الذي قيل أنه كان يتحرك ويعطي انطباعا أنه كان شخصا حيا بالفعل.

استُعمل على ما يبدو ناسك ميكانيكي آخر في منتزه (هاوكستون) لتعويض (الأب فرانسيس) الذي كان يعيش هناك بعد وفاته، غير أن هذا الناسك الميكانيكي تلقى نقدا حادا من طرف أحد السواح من القرن الثامن عشر، الذي قال فيه: ”يبدو الوجه طبيعيا بما فيه الكفاية، غير أن الجسد ممتلئ ولم يتم العمل عليه بالشكل الكافي، كان التأثير ليكون أفضل بأشواط لو أن الباب وضع على زاوية الجدار وليس بمواجهة الشخص الذي يدخل الصومعة. كان السائح بعد الدخول يرى (القديس فرانسيس) صدفة، هذا مع كون صوت الأجراس وانفتاح باب آخر يؤدي إلى مبنى مظلم داخل الصومة يجعل التأثير أقل عفوية وطبيعية“.

كانت موضة توظيف نساك مقلدين للزينة عابرة، وقد يكون ذلك راجعا لصعوبة العثور على نساك جديين وتوظيفهم، غير أن هذه الظاهرة تقوم فعلا بمنحنا نظرة إلى داخل تنامي السياحة خلال الحقبة الجورجية، حيث كانت الطبقات الراقية قد بدأت تستكشف العقارات الريفية، وكان يُنظر إلى الناسك على أنه مصدر جذب آخر إلى جانب المعابد والنوافير التي كانت موجودة في الحدائق الحديثة آنذاك.

اليوم، يمكننا اعتبار أن الاهتمام بالنساك مازال قائما، ففي نهاية شهر أبريل من سنة 2017، انتقل ناسك جديد يبلغ من العمر 58 سنة ويعرف باسم (ستان فونيتريخت) إلى صومعة في (سالفيلدن) في النمسا في أعالي الجبال.

قام خمسون شخصا بتقديم طلب لشغل هذا المنصب، على الرغم من عدم وجود الإنترنيت، والمياه، أو التدفئة. ترحب هذه الصومعة التي ظلت مشغولة على مر 350 سنة بدون انقطاع، ترحب بالزوار للقدوم والاستمتاع بمحادثة روحانية مع الناسك المقيم فيها، كما أنها تستقبل الكثير من الضيوف والزوار.

مقالات إعلانية