in

جهاز ميكانيكي غامض من العصور الرومانية القديمة قد يكون أقدم ”جهاز كمبيوتر“ اخترعته البشرية على الإطلاق!

في العصور القديمة، لم يُكن يُنظر إلى البحر المتوسط على أنّه حاجز ما بين بلدان العالم القديم بل العكس، حيث كان أفضل وسيلة تربط بين بلدان البحر الأبيض المتوسط وتُسهل النقل والتجارة فيما بينهم، وفي الجزء الشرقي من هذا البحر ما بين جزيرتي (كريت) و(بيلوبونيز) تقع جزيرة (أنتيكيثيرا)، أي في منتصف الطريق البحري للسفن بين آسيا الصغرى وإيطاليا، لكن شاطئها الصخري شكل في الماضي، وحتى يومنا هذا، خطراً كبيراً على السفن التي كانت تُصاب بأضرارٍ جسيمة أو تتدمر بسبب الصخور.

حوالي عام 65 قبل الميلاد، واجهت سفينة رومانية هذا الحظ العاثر عندما كانت تُبحر اتجاه غرب المتوسط، حيث غرقت السفينة في قاع البحر وغرقت حمولتها بالكامل، هذه الحمولة التي كانت تتضمن بضائع تجارية وبعض الأغراض الثمينة.

بعد غرقها، بقيت هذه السفينة منسيةً حتى عام 1900 بعد الميلاد، ففي ربيع ذلك العام لاحظ صيادون يقومون بالغوص في الماء لاستخراج الإسفنج يداً برونزية في قاع البحر على عمق 45 متر، لذا قاموا بإخبار السلطات اليونانية التي قامت بإرسال فريق بحث قام باكتشاف سفينة غارقة، وأصبحت تُعرف هذه السفينة بحطام (أنتيكيثيرا).

اكتشاف غامض

موقع جزيرة (أنتيكيثيرا) في الخريطة.
موقع جزيرة (أنتيكيثيرا) في الخريطة.

في عام 1901 نجح الغواصون باسترجاع العديد من الكنوز القيمة من حطام هذه السفينة، وقد شملت هذه الكنوز تماثيل برونزية وتماثيل رخامية وعملات نقدية ومجوهرات وتحف زجاجية، وأكثر من 200 من القوارير، وقد كانت العديد من هذه الكنوز سليمة غير مصابة بأي ضرر، كما قاموا باسترجاع عدة مزهريات مصنوعة بشكلٍ جيد جداً، والعديد من التحف الأخرى، وبعض القطع الفنية الأثرية.

من بين الأشياء التي استطاع الغواصون استخراجها من هذا الحطام كان صندوقاً خشبياً ارتفاعه قرابة 35 سم وطوله قرابة 18 سم وعرضه نحو 8.6 سم، بداخل الصندوق وجد الغواصون قطعاً نحاسية متآكلة بدأت تتحلل سرعان ما أخرجها الغواصون من الماء.

أخذت السلطات اليونانية كل ما وجدته في حطام هذه السفينة ووضعته في متحفٍ في أثينا، وسرعان ما بدأ علماء الأثار بالاهتمام بهذا الكنز التاريخي ودراسته، لكنهم صبوا اهتمامهم على الأشياء الثمينة كالتماثيل والمجوهرات ولم يلتفت أحد في البدء لهذا الصندوق الغامض.

بعد مرور قرابة عام، قام عالم أثار يُدعى (فاليريوس ستايس) بالنظر بشكلٍ أعمق إلى محتويات هذا الصندوق الخشبي، وكانت المفاجأة حين لاحظ وجود ما يشبه الترس المسنن، لذا بدأ العلماء يدرسون هذه القطع النحاسية المتآكلة المؤلفة من 4 أجزاءٍ رئيسية، وبينما قاموا بإزالة التآكل والترسبات بصبرٍ كبير، استطاعوا تمييز 82 جزءاً بشكلٍ واضح، من بينهم حوالي 30 من التروس المسننة البرونزية، أكبرها بحجم نحو 14 سم، ويملك 223 سناً.

سويةً شكلت هذه القطع بالإضافة إلى التروس المسننة آلية ميكانيكية معقدة، وقد استنتج (فاليريوس ستايس) أنّها نوعٌ من آلات الحساب الفلكي، وأصبحت هذه الآلة تُعرف بآلة (أنتيكيثيرا)، لكن معظم الباحثين قالوا أنّ هذه الآلة متطورة جداً ويستحيل أن تكون صُنعت في القرن الأول قبل الميلاد، بل استنتجوا أنّها على الأغلب صُنعت بعد عقودٍ من ذلك التاريخ ثم غرقت في البحر واستقرت بالصدفة فوق حطام سفينة (أنتيكيثيرا).

حطام سفينة (أنتيكيثيرا)
حطام سفينة (أنتيكيثيرا)

لهذا السبب توقفت الأبحاث حول آلة (أنتيثيكيرا) لمدة عقود طويلة، ولم يُباشر مجدداً بهذه الأبحاث حتى خمسينيات القرن العشرين، وذلك عندما قام بروفيسورٌ من جامعة (يال) يُدعى (ديريك جون دي سولا برايس) مُتخصص بتاريخ العلوم بالاهتمام بهذه الآلة، حيث قام خلال العقدين التاليين بالبحث في تاريخ وآلية هذه الآلة، وقد استخدم في بحثه هذا الأشعة فوق السينية وأشعة غاما، قبل أن يقوم أخيراً في عام 1974 بنشر بحثٍ مكون من 70 صفحة يضم ما اكتشفه حول هذه الآلة.

في هذا البحث وضّح (ديريك) أنّ هذه الآلة تعود فعلاً إلى القرن الأول قبل الميلاد، وأنّ (فاليريوس) كان على حق قبل سبع عقود عندما توقع أنّها ساعة فلكية، فبعد أن قام البروفيسور (ديريك) بفحص التروس المسننة بدقة استنتج أنّ هذا الجهاز كان يُستخدم لتوقع مكان النجوم والكواكب في السماء في أي تاريخٍ. كان هذا الجهاز يعمل عبر تحريك الترس المسنن الأكبر الذي يمثل العام، والذي سيحرك بدوره التروس المسننة الأخرى التي تُمثل حركة الشمس والقمر وبعض الكواكب.

شكوكٌ متبقية

إعادة بناء نموذج عن آلية (أنتيكيثيرا)
إعادة بناء نموذج عن آلية (أنتيكيثيرا).

من خلال الطريقة التي تم صنع بها هذه الآلة ومن أسلوب عملها يُمكن القول أن آلة (أنتيكيثيرا) هي أقدم جهاز مشابه للكمبيوتر معروف في التاريخ، حيث صُنعت قبل 2100 عام من الآن، لكن وجودها وآليتها المعقدة جداً، وتصميمها وطريقة تصنيعها، كُل هذا يُوحي بوجود آلات سابقة مُشابهة تم تطويرها للوصول إلى هذا النموذج المتطور، أي أنّ الكمبيوتر الأول أو مُشابه الكمبيوتر الأول قد يُكون صنع قبل قرونٍ من ذلك حتى.

بعد أنّ عرضت أبحاث البروفيسور (ديريك) أنّ هذه الآلة هي شبيهة بالكمبيوتر تعود إلى ما قبل ميلاد يسوع المسيح، بدأت الأبحاث لفهم الغاية من هذه الآلة بشكلٍ أدق، ولفهم كيف كان يتم استخدامها، فبينما كانت أبحاث البروفيسور (ديريك) هي من مهدت الطريق فإنه في وقت نشرها ولسنينٍ بعدها كان العلماء يعتبرونها مُقنعة لكن ليست حاسمة.

بعد أن استطاع الباحثون إلقاء نظرة أدق إلى الجهاز أصبح من الواضح بالنسبة لهم أنّ هذه الآلة هي آلة حسابٍ من نوعٍ ما، لكن من غير الواضح إن كانت تعمل بالطريقة التي استنتجها البروفيسور (ديريك) أم لا، لكننا نعلم الآن أنّ هذه الآلة سمحت لمستخدميها بمعرفة كيف ستبدو السماء لعقودٍ تالية، وهذا تضمن موقع الشمس والقمر وأدوار القمر وطرق الكواكب وحتى مواعيد حدوث الخسوف.

ذكر الكثير من الكتاب القدماء مثل (شيشيرون) وجود آلاتٍ مشابهة لها، لكنها كانت الوحيدة التي تمكنا من استرجاعها، وقد فقدت هذه التكنولوجيا للأسف خلال العصور الرومانية، والآلة الوحيدة التي نعرفها فُقدت في البحر في ذلك العصر، لذا فُقدت أسرار هذه التكنولوجيا لمدة ألفي عام.

جزء من الكتابات التي عثر عليها على ظهر آلية (أنتيكيثيرا)
جزء من الكتابات التي عثر عليها على ظهر آلية (أنتيكيثيرا)

استفاد الباحثون الحاليون كثيراً من تطور تكنولوجيا المسح والكشف والتصوير خلال السنين الماضية، ففي العقود الأولى بعد اكتشاف آلة الأنتيكيثيرا لم يستطع الباحثون فحصها بشكلٍ دقيق وتمييز تفاصيلها، وذلك بسبب تآكل معدنها الشديد، لذا لم يستطيعوا فك ألغازها، فبينما كان بإمكان الباحثين تمييز أحرف وكلماتٍ يونانية، فإن حالة التآكل الشديدة جعلت فهم هذه الكلمات مستحيلاً، فقد قال أحد الباحثين: ”في السابق كنا نستطيع تمييز كلماتٍ معزولة، لكن كان هناك العديد من الأحرف والكلمات غير المقروءة… اليوم نملك نصاً واضحاً يُمكن قراءته باليونانية القديمة، يُمكننا فهم ماذا كانت هذه النصوص تُخبر الناس حينها“.

بفضل تقنيات التصوير المُتقدمة، كالتصوير بالأشعة السينية ثلاثية الأبعاد، تمكن الباحثون من قراءة أكثر من 3400 حرف منقوش على هذه الآلة بشكلٍ جيد، وبينما يُعد هذا رقماً كبيراً إلا أنّ العلماء يُقدرون وجود قرابة 20 ألف حرفٍ على هذه الآلة، لذا فنحن ما زلنا بحاجةٍ إلى المزيد من العمل.

النصوص المُسترجعة كشفت الألغاز الأخيرة

إنّ النصوص التي تم استرجاعها باستخدام تقنيات التصوير المعاصرة أثبتت كونها مفيدة جداً في حل ألغاز آلة أنتيكيثيرا الغامضة، حيث يُمكن القول أنّ الكتابة مُشابهة لدليل الاستخدام الذي تضعه اليوم الشركات المصنعة مع الآلات التي تقوم ببيعها، وذلك كي يستطيع المستخدم استعمال الآلة بشكلٍ جيد.

حطام سفينة (أنتيكيثيرا).
حطام سفينة (أنتيكيثيرا).

على سبيل المثال، فإنّ أحد النصوص المحفورة على ظهر الألة هو عبارة عن قائمة تُعدد وتشرح جميع إعداداتها، حيث تشرح معنى كل رقم وأهميته، وبفضل هذا النص تحديداً أصبحنا نعرف اليوم أنّ واجهة هذه الآلة كانت بالأصل تحتوي على عرضٍ لكواكب تتحرك مشيرة للأبراج، كما كانت هناك مؤشرات ودوائر تُمثل القمر والشمس والمريخ والمشتري وزحل ومساراتها حول الأرض.

للأسف لم ينجُ جهاز العرض هذا حتى يومنا هذا، حيث يبدو أنّه تآكل بسبب مياه البحر المالحة التي بقي فيها لمدة 2000 عام، وبينما قام الباحثون بتوقع وجود جهاز عرضٍ مشابه إلا أنّ توقعاتهم هذه بقيت مجرد تخمينات بدون أي دليل، وذلك حتى حولتها وسائل التصوير الحديثة إلى حقيقة أكيدة.

تشرح نصوص أخرى محفورة على الجهاز إعدادات تشكيلات النجوم والكواكب في مواعيد مختلفة من السنة، هذا سمح للباحثين من التأكد أنّ صانع الجهاز أو من طلب صنع الجهاز كان عالم فلك، كما استطاع الباحثون تمييز كلام مكتوب من طرف شخصين مختلفين على الآلة، هذا أوحى للباحثين أنّ الآلة لم تُصنع من قبل شخصٍ واحد، بل على الأغلب قام عالم فلكٍ ما بتكليف ورشةٍ لتقوم بصنع هذا الجهاز وفق تعليماتٍ وتفضيلاتٍ محددة قام بوضعها.

إعادة بناء نموذج آلية (أنتيكيثيرا) اليوم.
إعادة بناء نموذج آلية (أنتيكيثيرا) اليوم.

استطاع الباحثون عبر العمل على تواريخ المشاهدات السماوية الموصوفة بهذه النصوص تحديد مكان عالم الفلك الذي كان يستخدم هذه الآلة، حيث توصلوا إلى أنّه كان يقيم في مكانٍ على خط عرض 35 درجة شمالاً، أي أنّه لم يكن يقطن مصر لأنها تقع جنوب الخط، بينما تقع اليونان شمال الخط، لكن المكان الذي كان يقع على هذا الخط في العالم القديم كان في جزيرة (رودس) الواقعة في جنوب اليونان وذلك بقرب شواطئ تركيا.

بعد معرفة مكان صناعة الجهاز (جزيرة رودس)، والمكان الذي غرقت فيه السفينة التي تحمله (جزيرة أنتيكيثيرا)، توقع الباحثون أنّ آلة (أنتيكيثيرا) كانت في طريقا إلى شارٍ لها قاطنٍ في شمال غرب اليونان قبل أن تغرق السفينة التي تحملها، وكنتيجةٍ يمكن القول أنّ جزءاً كبيراً من لغز آلة أنتيكيثيرا تم حله، لكن المشكلة تكمن في عدم معرفة الغاية من هذا الجهاز، أو كما وصف أحد الباحثين الأمر: ”نحن نعرف اليوم بشكلٍ جيد ما الذي تقوم به هذه الآلة، لكن لما قد يرغب أحدٌ ما بامتلاك آلةٍ مماثلة؟ من ناحيتي أظن على الأرجح أنّ هذا الجهاز صُنع كجهازٍ تعليمي، كجهازٍ ليس للأبحاث بل لتعليم الناس حول علم الفضاء والأمور المشابهة“.

يعتقد آخرون أنّ هذا الجهاز يُستخدم بهدف أبحاث علم الفلك وذلك عن طريق توقع حركة النجوم ومجموعات الكواكب في محاولةٍ لتوقع المستقبل، وبينما تستمر الأبحاث والجدل، يبقى اكتشاف هذا الجهاز دلالةً على عظمة التوق العلمي لدى الإنسان منذ القدم.

مقالات إعلانية