وصلت الدولة العثمانية إلى ذروتها في عهد سليمان القانوني وفي عهده أيضا زرعت بذور فنائها، ففي عهده بدأ عصر مراكز القوى في الدولة واستشرى الصراع على النفوذ بعد أن كان منصب الصدر الأعظم في عهد أبيه ”سليم القاطع“ يؤدي بصاحبه إلى الإعدام، أصبح هذا المنصب حلما لكل من يريد السيطرة على الدولة.
في عام 1536 أصدر السلطان سليمان الأمر بقتل إبراهيم باشا البرغالي أو الافرنجي، أكبر فاتح إسلامي، وبالتالي خسر المخطط الاستراتيجي الأخطر في الدولة وأخذ منصب الصدارة كبار من ضباط الانكشارية الذين كانوا يتزلفون لزوجات السلطان، بدأ عندها دور الجمود في الدولة ولكن رهبة وعظمة السلطنة أجلت تجلي هذا الدور إلى حين، ففي عام 1565 قاد السلطان هجوما بحريا فاشلا على مالطا، التي يحكمها تنظيم عسكري من بقايا الحملات الصليبية على الشرق، يدعى تنظيم فرسان مالطا، ويعتبر بعض المؤرخين أن الدولة وصلت لذروتها بهذا الحصار وبدأت بالانحطاط من بعده حيث بدأ مصطلح الهزيمة يدخل قاموس العثمانية.
كان الهدف من الحملة على مالطا هو السيطرة على شرق المتوسط، وبعدها تحقيق حلم محمد الفاتح بالسيطرة على روما، تيمنا بنبوءة الرسول محمد، وعليه كان الدافع الديني أساسياً في وضع الأهداف وكان حصار مالطا جزءا من سلسلة معارك بحرية باءت كلها بالفشل في تحقيق هذا الهدف.
تتابع الأحداث وصولا إلى معركة ليبانتو:
توفي السلطان سليمان عام 1566، وورثه ابنه سليم الثاني المشهور بجهله وعدم كفاءته، ولكن دون أن يغير شيئا بهيكل الدولة كما فعل أجداده من قبله، فحافظ على الوضع الذي كانت عليه الدولة أيام أبيه، وأسند إدارة الدولة إلى صدره الأعظم ”صوقولو باشا“ الألباني الأصل، الذي قرر الاستمرار بسياسة السيطرة على شرق المتوسط، ووضع الأهداف للسيطرة على جزيرة قبرص كمقدمة ضرورية للسيطرة على إيطاليا وتأمين الطريق البحري مع مصر.
”فتح“ قبرص واستنفار أوروبا:
وصلت عام 1570 سفن الأسطول العثماني بقيادة ”مصطفى لالا باشا“، قريب الصدر الأعظم ومنافسه، إلى قبرص المستعمرة التابعة للبندقية، كان من الواضح أنه بعد قبرص ستكون البندقية هي الهدف التالي، فتوجه الدودج حاكم البندقية إلى روما راجياً من البابا بيوس الخامس توحيد المسيحيين الذين أنهكهم التنافس على إيطاليا.
بالنسبة لإسبانيا كان المتوسط عبارة عن حديقة خلفية، فوجودها يعتمد على السيطرة على الأطلسي، ولكن الحروب الإيطالية جعلتها ملزمة بحماية إيطاليا وإلا وصل الصراع إلى السواحل الاسبانية نفسها، فعقد البابا بيوس الخامس في 5 أيار 1571 معاهدة بين فيليب الثاني ملك أسبانيا وجمهورية البندقية وجنوى وبعض الدول الصغيرة التي تدور في فلك إسبانيا، تنص على التحالف في عمل حربي بحري ضد الدولة العثمانية، حيث قال في إحدى رسائله لملك إسبانيا ”لا توجد أي دولة مسيحية قادرة على أن تقف لوحدها بوجه العثمانية، يجب على الدول المسيحية أن تتوحد لتكسر الغرور التركي“، كان الهدف من هذا التحالف إنقاذ قبرص.
أوروبا تملك النخبة:
كان من ميزات ”فيليب الثاني“ قدرته على تعيين الرجل المناسب في المكان المناسب، فاختار أخاه غير الشقيق والابن لـ”كارلوس الخامس“، الدون خوان، صاحب الـ24 عاماً وحاكم النمسا وهولندا الإسبانية لاحقا، والذي قمع ثورة الأندلسيين بقسوة من قبل، وصاحب المهارات الدبلوماسية كقائد عام للأسطول، حيث أن قيادة هذا الأسطول تحتاج إلى مهارات دبلوماسية أكثر منها عسكرية، وبهذا التعيين تم الحفاظ على التحالف الهش بين الدول المتنافسة.
كان الأسطول الأوروبي ”الأرمادا“ مكونا من 70000 فردا، منهم 28000 جنديا، والباقي بحارة وجذافون، وطواقم إصلاح موزعة على 295 سفينة، 208 منها سفن حربية، و114 سفينة تابعة للبندقية تتألف طواقمها من رجال أحرار -حيث أنه يمكن للجذافين أن يقاتلوا عند الحاجة- يقودها ”فينييرو“ المخضرم والخصم اللدود لـ”جنوى“ و”أندريا دوريا“، و70 سفينة تابعة لاسبانيا يقودها أندريا دوريا البحار من أصل جنوي والمشهور بمحاربة العثمانيين، والباقي من دول التحالف المقدس الصغيرة.
العثمانية تفتقد إلى رجالاتها الذين جعلوها دولة عالمية:
كان الأسطول السلطاني يجوب المتوسط بحثاً عن الأسطول الأوروبي، ويدل هذا على وصول معلومات للديوان السلطاني عن الاتفاقية العسكرية، عبر الهلال الحديدي -المؤسسة الاستخباراتية التي أسسها سليم الأول-، ولكن المعلومات لا تفيد من لا يستطيع الاستفادة منها، فقد كان السلطان سليم الثاني أميا مقارنة بأجداده، والصدر الأعظم صوقولو باشا يسعى لأن لا يرث أحد منصبه وهو على قيد الحياة، وعموماً كان من الممنوع في الدستور العثماني على السلطان والصدر الأعظم قيادة معارك بحرية، فوقع عبء التصدي للاسطول الاوروبي على اثنين من كبار ضباط الانكشارية: الأول ”برتو باشا“ الوزير الثاني والمنافس لصوقولو باشا، والثاني قائد البحرية العثمانية ”مؤذن باشا“ والذي كان والي مصر من قبل.
عند هذه النقطة أصبح الهلال الحديدي غير ذي نفع، فبرتو باشا ومؤذن باشا كانا من ضباط البر الانكشارية، وتم فرضهما على البحرية من باب الصراع على النفوذ داخل الدولة، فبالرغم من أن تعداد الأسطول بلغ 400 سفينة، إلا أنه عند حلول الخريف تم اتخاذ القرار بتوزيع السفن على الموانئ للصيانة، لأن الاساطيل لا تبحر عادة في هذه الفترة بسبب الأمواج العاتية، فبقي من الأسطول 184 سفينة تحت قيادة الجنرالين ذهبت لقضاء الشتاء في ميناء ليبانت في اليونان، وبسبب تعقب الأسطول الأوروبي لشهور، كانت العديد من السفن بحاجة إلى الصيانة، وقام عدد لا بأس به من القباطنة بترك الأسطول هنا أو هناك، بإذن أو بدون إذن، لقضاء الشتاء عندما شاهدوا سفنهم رست في الموانئ وتوقعوا أن لا يحدث صدام في موسم الأمواج.
كان معظم الجذافة في الأسطول من الأسرى المسيحيين، وهذا عنصر مهم في تحليل المعركة، وعموما كان يوجد نقص بعدد الجذافين، وبذلك تجمعت أسباب هزيمة ليبانت التي كسرت هيبة الدولة العثمانية.
قبيل المعركة:
عادت الكشافة البنادقة بقيادة جيل داندارا من السواحل اليونانية بأخبار جمعوها عن المحليين اليونانيين تقول بأن الأسطول العثماني يعاني نقصا بالرجال والسفن، وبناء على هذه المعلومة الخطيرة قرر الدون خوان -جون- البحث عن الأسطول العثماني والاشتباك معه، واتخذ الأسطول التشكيلات القتالية.
عند اقتراب الارمادا من ليبانت، جمع برتو باشا أميرالات البحر وناقشوا الخطر الداهم، وبسبب اختلاف الرأي انفض الاجتماع بدون أي قرار، فقد رأى الاميرالات وهم أصحاب الخبرة أن تبقى الاساطيل قرب القلاع البحرية حيث يتم استدراج الأرمادا إلى مدى مدافع القلاع فيتم استهدافها بالمدفعية الثقيلة ثم بعد ذلك يتم ملاحقة الأرمادا إلى أعالي البحار بعد أن تكون قد تكبدت خسائر بالمعدات والمعنويات، أما برتو ومؤذن باشا فقد اختاروا المبادرة بالهجوم ولكن بالقرب من الشواطئ، فقد كانوا هم المسؤولين أمام الديوان وكانت الأوامر قد صدرت بالهجوم، هنا قال مؤذن باشا الجملة المشهورة التي تنم عن جهله والتي سجلها التاريخ ”من هو ذاك ”الكلب الكافر“ حتى نخافه؟ إني لا أخاف على رأسي أو منصبي فقد جاءت الأوامر من الديوان بالهجوم“، ولم يجد صياح أولوج باشا والي الجزائر الإيطالي الأصل و أميرال البحر المخضرم نفعاً: ”أين الذين حاربوا مع بربروسا؟ لماذا لا يتكلمون؟ أحرب بحرية في الساحل؟“
المعركة:
جرت معركة ليبانت التي كانت من أكثر المعارك البحرية دموية في التاريخ، وأكبر معركة بحرية في عصر النهضة حيث تجمع 80% من السفن الحربية في المتوسط في نفس المكان الذي جرت فيه معركة ”أكتيوم“ بين كليوبترا وأغسطس قبل 1500 عام، والتي انتصر فيها الغرب على الشرق.
قتل مؤذن باشا وغرقت سفينة برتو باشا واستطاع والي الجزائر أولوج باشا تدمير أسطول مالطا عن آخره دون أن يخسر سفينة واحدة، ثم أمر الجناح الايمن بالانسحاب حيث لم تعد ترجى فائدة من المركز والجناح الأيسر.
كانت الخسائر فادحة للطرفين، خسر العثمانيون 148 سفينة، وكان مجموع القتلى والجرحى في صفوفهم 20000، أما الجذافون المسيحيون الـ30000 فقد تم تخليصهم من البحرية العثمانية، وكانت خسائر الأرمادا تقدر بـ8000 قتيل و20000 جريح وعددا قليلا من الأسرى، وفقد ”سرفانتس“ كاتب رواية ”دون كيشوت“ ذراعه اليمنى خلال المعركة حيث كان قد خرج من الأسر العثماني منذ مدة قليلة.
نتائج المعركة:

كانت المعركة كارثة عسكرية للعثمانيين، ولكن نصرا سياسيا، فخلال عدة شهور كان قد تم بناء الأسطول من جديد وبينما كان الأوروبيون ينحتون التماثيل لتخليد المعركة كان العثمانيون يبنون الأسطول، وقعت البندقية اتفاقية مع العثمانية تدفع فيها تكاليف الحرب وتعلن تنازلها عن قبرص، بينما قرر الأسطول الاسباني عدم الدخول في مواجهة مع العثمانية بعد اختلافه مع البنادقة وبسبب الخسائر التي تكبدها في ليبانت، لم تحقق المعركة أي شيء للأوروبيين، ولكنها أثبتت أن العثمانية يمكن هزيمتها بعد أن كانت لا تهزم.
توفي البابا بيوس الخامس في عام 1572، أحال برتو باشا نفسه للتقاعد بعد المعركة وتمت ترقية والي الجزائر أولوج باشا الذي دمر أسطول مالطا في المعركة إلى قائد البحرية العثمانية، حيث تحرك في العام الموالي وهاجم سواحل إيطاليا على البحر الأدرياتيكي والتيراني بـ220 سفينة، وكانت هذه السفن هي نفسها السفن التي ستسترجع تونس من أيد الإسبان، بدأت البحرية العثمانية بالتراجع بعد هذه المعركة وعانت من نقص المجندين وضعف التسليح مقارنة بالاساطيل الأوروبية، وانتهى حلم الفاتح بفتح روما إلى سقوط اسطنبول بيد الانجليز عام 1920 وفقا معاهدة سان ريمو.