in

الصراعات الاجتماعية في بلاد سومر

عرف المجتمع السومري شكلين من الصرعات، أحدها أفقي بين مختلف التشكيلات الاجتماعية، وبناء على شكل الإنتاج وانعكاساتها على الوضعية الاجتماعية بين الفلاحين والرعاة، كما عرفت صراعاً عمودياً طبقياً، فكيف بدت تلك الصراعات، وما مدى نجاح الاسطورة السومرية بنقل الهم الاجتماعي آنذاك.

التركيبة الاجتماعية

عرف المجتمع السومري نوعين من الإنتاج (الزراعة والرعي) كونت نوعين من التشكيلات المجتمعية، أما في البادية فقد فكانت قبائل المارتو – كما يرد اسمها في النصوص السومرية – تجوب بادية الشام والرافدين على شكل قبائل مهاجرة ومستقرة على حواشي المدن السومرية، ولعل الكلمة المناسبة للتعبير عن التشكل المجتمعي للمارتو هو (القبيلة) التي زودتنا بها اللغة العربية، وتحديدها بذاك التشكيل المجتمعي الوشائجي المترابط في مكان واحد بأعداد أكبر مما يمكن أن نسميه (عشيرة).

قد لا تكون على أرض واحدة ولا رابط بينها سوى رابطة الدم مقامة أساساً على منطق الجد الواحد، بينما تشكلت المدن السومرية من تعدد لكل من هبط من الجوار ممتهنا الزراعة مباشرة، وتحدثوا بلسان سومري واحد قطنت كل عشيرة حياً، وهذا التعبير (الحي) استخدمته اللغة العربية للتعبير عن العشائر القاطنة في مدن في أماكن متقاربة كما يفهم من ملحمة جلجامش (سيد كلاب) في أوروك، ولعله حي من أحياء أوروك بنفس المعنى المذكور آنفا.

الصراعات الأفقية

كان من الطبيعي أن الزراعة وما تطلبته من حاجات صناعية وتشكل أجهزة الدولة، أن تكون أكثر إنجازا حضارةً من البادية، لينشأ نوع من الصراع بين صاحب الحضارة المشيدة وبين القبائل الرعوية:

– دموزي وأنكمدو:

صراع (دموزي) الراعي مع الفلاح (أنكيمدو) على الزواج من (إنانا) عشتار والخيار لعشتار:

”الرجل القريب إلى قلبي، الذي سلب مني روحي؛ والذي تطفح عنابره؛ دون أن يضطر للعزق. الذي صوامعه لا تتوقف عن سكب الحبوب؛ هو الفلاح الذي امتلأت عنابره حَباً“.

مما يثير حفيظة دموزي الراعي:

”ما لديه أكثر مني هذا الفلاح؟ إن قدم لي طحينه الأسود؛ فأنا أعطيه نعجتي السوداء“.

ويبدأ دموزي بسرد منتجاته ومقارنها بمنتجات الفلاح فكل ما لدى الفلاح لديه المقابل، لتنهي القصة بطريقة مفاجأة بأن تختار إنانا الأقل تحضراً، وكان من المفترض من الناحية المنطقية أن تختار الفلاح، ولكن بالنظر إلى منطق آخر من حيث انتماء الأنوثة إلى الطبيعة الوحشية وما قبل التحضر في الميثولوجيا الرافدية؛ يبدو اختيار (إنانا) موفقا ومنسجما مع تطلعاتها الرمزية نحو البدائية.

أما الفلاح وعلى ما يبدو كان إقطاعياً مما أشارت إليه إنانا أنه تأتيه الحبوب دون أن يعزق الأرض، بل هناك من يتكفل بهذا العمل بينما كان دموزي هو من يقوم برعاية أغنامه، بل الأكثر مفاجأة تلك النهاية التصالحية بين دموزي وأنكيمدو، الذي سيدعى إلى حفل زفاف دموزي ويأتي بالهدايا مما أنتجت أرضه، وذاك في نفس السياق الثقافي السومري المتمفصل على الحلول السلمية لأكثر المواقف حرجا وخطورة.

كما أن اختيار إنانا للراعي يؤكد ما ذكرته آنفا من أن السيرورة التاريخية لم ترتب الزراعة على نحو بعدي للرعي، بل إن طيبة الراعي وحسن خلقه واكتنازه على المعنى الأخلاقي كان أكثر جاذبية من تحضر أنكيمدو.

وعلى خلاف النسخة الابراهيمية (قابيل وهابيل) التي أبت أن تنتهي إلا بجريمة قتل، كما صورت النصر الاخلاقي للراعي هابيل على الفلاح قابيل، وذلك لانتماء القصة للعصر الذي حسمت فيه المعركة لصالح الزراعة ومدن الحضر، بينما عوقب الراعي (دموزي السومري) قابيل الابراهيمي، لتعكس مرة أخرى مرارة الحياة الحضرية وتجاوزاتها الاخلاقية، وضرورة عقابها.

– مارتو البدوي الشغوف:

كما تتعرض قصة (مارتو) الراعي لإيحاءات غاية في الأهمية من الناحية الحضارة، فكما مر سالفاً أن السومريون أطلقوا عليهم أسم المارتو الذي تحول لإله في الميثيولوجية السومرية للدلالة على الشعوب العمورية الطائفة في البادية، مما يجعلنا نعيد النظر في الترميز السومري لشخصية أنكيدو المتوحش على أنه لم يكن فردا؛ بل كل شعب كامل انخرط منذ فجر التاريخ مع السومريين لدعمهم العسكري، فتقول الأسطورة أن مارتو القاطن حواشي مدينة نيناب شغف بابنة إله المدينة وسيدها حبا، وفي عيد المدينة تميز مارتو بغلبته في مصارعات العيد على أقرانه:

”دهش نوموشدا بمارتو؛ فقدم له الفضة لكنه رفضها، أهداه أحجارا كريمة لكنه رفضها. كلا إنما أريد؛ هو الزواج من ابنتك (آدنيجكيدو)“.

ويوافق سيد نيناب وإلهها، بل وتصر الأميرة عليه وقد تعلق قلبها به رغم عزل رفيقتها لها.

– أنكيدو:

في نموذج أكثر وضوحا للنقلة البدائية إلى عالم المدينة بكل تعقيداته في مثال أنكيدو، إذ أن المبرر الأول لوجوده في بداية الأمر هو طغيان جلجامش الأمير المحارب:

”لم يترك جلجامش إبنا لأبيه؛ ولم تنقطع مظالمه عن الناس ليل نهار. ولم يترك جلجامش عذراء لحبيبها؛ ولا ابنة المقاتل ولا خطيبة البطل. وأخيرا سمع الآلهة شكواهم“.

فقامت الآلهة أورورو بخلق مثيل له في البادية من الصلصال تصفه الأسطورة:

”يكسو جسمه الشعر؛ وشعر رأسه كشعر المرأة؛ لا يعرف الناس ولا البلاد؛ ولباس جسمه مثل (سموقان)؛ ومع الظباء يأكل العشب، ويسقي مع الحيوان في موارد الماء“.

هذه الجو الذي رافق أنكيدو وهو في الوحشية سيبقى ملازماً له إلى حين موته، وفي سياق متصل وردت بعض النصوص السومرية عن زمان جميل مضى وانقضى:

”قديما مضى زمن لم تكن فيه أفعى ولا عقرب، لم يكن فيه كلب وحشي ولا ذئب، لم يمن هناك خوف ولا رعب، والرجل لم يكن له خصم“.

وهو شكل آخر للحنين لمرحلة ما قبل الحضارة، لكن الإله (أنكي) سيثير البلبلة التي تشير نصوص أخرى في ضلوع أنكي في بديات التحضر ولربما بتعزيز النزعات القومية.

الصراعات الطبقية وثورة أور كاجينا الاجتماعية

لكن لن تدوم هذه الحالة طويلاً، فقد تحول موظفو المعبد إلى أشباه مرابعين يجنون أرباحهم مما تنتجه يد الفلاحين، بالإضافة إلى ملكيات الأراضي الصغيرة التي بدأت تتوسع بفعل الاستصلاح، إذ لا يوجد إشارات لعمليات بيع للأرض بل اعتبر الوعي السومري أن عملية الابتياع عيباً ومنافياً للأخلاق، وخاصة إن كانت من غني، وهو ما ستشير إليه أول ثورة أخلاقية في مدينة كيش حيث دفع المصلح (أوركاجينا) بقيادة ثورة إصلاحية منع التسلط على أملاك الفقراء.

كانت أول ثورة في العالم تطلق شعار (الحرية) بلفظها السومري (أمارجي) [وتعني حرفيا (الأم الرحم) وفيه دلالة قوية على حرية الإنسان في عصر ما قبل الحضارات التي فقدها نسبيا مع نشوء المدن مقابل الرخاء والاستقرار.] بمعناها التحرري الطبقي من لهاث الأغنياء للربح بدعم من السلطة الحاكمة، فمدينة لاغاش (لكش) التي قامت بشكل بارز على القوى العسكرية والتي سيدوم صراعها للسيطرة على المدن السومرية أمداً طويلاً؛ وخاصة صراعها المستدام مع (أوما) [أوما: (تل جوخة) الواقعة غرب مدينة الرفاعي بـ(23)كم.] الذي استهلك الكثير من مواردها، فنشأت طبقة من تجار الحرب التي لا ترحم، وتوسعت الهوة بين الأغنياء والفقراء:

”وضع ناظر السفن يده على السفن، وقبض ناظر الماشية على الماشية صغيرها وكبيرها، واستحوذ ناظر صيد السمك على مصائد الأسماك ومواضع صيدها“.

كما يروي المؤرخ السومري المعاصر لتلك المرحلة كشاهد عيان قبل 4500 سنة، فبالإضافة إلى الضرائب الباهظة على الصوف وعلى المعاملات المدنية في الطلاق، التي يسوقها المؤرخ ربما كمثال عن جهاز كامل للمعاملات المدنية كما يشكو (الإشاكو) وهو الكاهن الأعلى فهو:

”أما عن المعبد وأملاكه فقد أستحوذ عليها الإشاكو على أنه ملك له، استعملت الآلهة لحرث أرض الإشاكو المخصصة لزراعة البصل، وفوق ذلك فموظفي المعبد البارزين لاسيما طبقة (السنجا) اغتصبت حميرهم وثيرانهم“.

”وحتى الموت لم يخلص من الجباة وجماع الضرائب، فحين يريد أهل الميت دفن ميتهم تتكاثر حولهم مجموعة من الموظفين الطفيليين لأخذ الضرائب من أهل الميت“، إلى أن تتحرك ثورة اجتماعية بقيادة (أوركاجينا) الذي مكن حرية الموطنين وأعاد الأمور إلى نصابها، وأعاد للمواطن السومري حريته التي فطر الإنسان عليها، وتظهر الصراعات الطبقية على أشدها في عبارات الشاعر الذي يورد أنه لو كان بيت الفقير بجوار بيت الثري الكبير وأراد الغني شراءه وأصر على ذلك، ورفض السعر المنطقي للبيت فلا يحق للغني الاستحواذ على بيت الفقير عنوة بعد ثورة (أوركاجينا)، كما أنه لو هيأ ابن الفقير بركة للصيد فلا يجرؤ أحد على أن يسرق سمكها.

إذن لم تبدو النقلة إلى الزراعة والاستقرار الحضري أمرا بسيطا بل ولادة متعسرة لمجتمع جديد حمل معه قدراً من المعاناة فاقت قدرة الانسان على تحملها، فمن الصحيح أن الانسان بسط سيطرته على مقدرات الطبيعة، وجعل من الصراع معها أسهل، لكنه في المقابل ولد نوعاً آخر من الصراعات التي لم يكن يحسب لها حساب، مما جعل الانسان السومري يعيد النظر بقيمة ما حققه على أنه انتصار بطعم الهزيمة إن صح التعبير.

مراجع:

  • قاسم الشواف: ديوان الأساطير، دار الساقي، بيروت، ط1، 1997، ج1 و2 و3.
  • طه باقر: ملحمة جلجامش، وزارة الإرشاد سلسلة الثقافة الشعبية، العراق.
  • صموئيل كريمر: من ألواح سومر: تر: طه باقر، مكتبة المثنى، بغداد، مؤسسة الخانجي، القاهرة.

مقالات إعلانية