in

هل يجب إعطاء اللقاحات للأطفال؟

اللقاحات

قد يبدو السؤال بلا أي قيمة بالنسبة للكثير من الأشخاص، فاللقاحات للغالبية العظمى من الناس أمر ضروري للغاية وطريقة معروفة للحفاظ على صحة الأطفال ومنع انتشار الأوبئة التي طاردت البشرية لقرون طويلة، كالحصبة والجدري وشلل الأطفال والسعال الديكي وغيرها. لكن وجهة النظر هذه ليست عالمية وموحدة كما قد يخطر بالبال، فلأسباب متعددة تتراوح من المعتقدات الدينية لدى البعض، إلى نظريات المؤامرة والعلوم الزائفة لدى آخرين.

في هذا المقال سأحاول تسليط الضوء على مشكلة تواجه العالم اليوم بشكل خفي بالنسبة للكثيرين، فالحركات المعادية للّقاحات باتت تمتلك نفوذاً كبيراً وعلى نطاق عالمي، وبالاعتماد على بعض المشاهير والبرامج الحوارية التي تخاطب ملايين الناس حول العالم يبدو أن الآراء المعادية للقاحات تزداد يوماً بعد يوم مع إعادتها لأمراض كانت على شفا الانقراض تماماً.

تاريخ الحركة المناهضة للّقاحات

من حيث المبدأ، فالحركة المعادية للّقاحات ليست جديدة تماماً، فهي مستمرة منذ ظهرت اللقاحات أصلاً ولأسباب متعددة، فالأمر الذي بدأ من وجهات نظر دينية متطرفة تصف اللقاحات كتحدٍ للقدرات الإلهية، هذا الأمر ليس غريباً حقاً، فالتشريح كان معارضاً لفترة طويلة لهذه الأسباب وحتى اليوم لا يزال الجدل قائماً حول الاستنساخ والأبحاث على الخلايا الجذعية. وحتى بعد قرون من تطور الطب الحديث اليوم، فالعديد من الجماعات الدينية المختلفة ترفض زراعة الأعضاء ونقل الدم، وبعضها يرفض الطب الحديث بالمجمل كذلك.

الحركات المعادية للقاح الجدري

واحدة من أولى الحركات المناهضة للقاحات ظهرت في المملكة المتحدة في بدايات القرن التاسع عشر، حيث قام الطبيب الإنجليزي إدوارد جينر (Edward Jenner) باكتشاف طريقة للحماية من مرض الجدري، هذه الطريقة كانت تعتمد على إصابة الشخص بنوع من الجدري الخاص بالأبقار عن طريق نقل بثرة من ضرع البقرة المصابة لتحتك بمجرى الدم للشخص، هذه الطريقة تضمن إصابته بحالة مخففة للغاية من المرض سرعان ما تشفى وتترك مناعة دائمة للسلالات الأخرى.

فكرة اللقاح كانت ثورية بالنسبة لحقبة ظهورها، لكنها عانت من اعتراضات واسعة من الناس، فالكثيرون اعترضوا على أن اللقاح قادم من الحيوانات وبالتالي فهو نجس، بينما العديد من رجال الدين اعتمدوا على كون اللقاح آتياً من الحيوانات لوصفه بالكون ”غير مسيحي“ وبالتالي يجب عدم استخدامه أبداً. الأمر استمر بشكل متقلب حتى فرض الحكومة البريطانية لتلقيح الأطفال بشكل إلزامي مما أدى إلى ازدياد الاعتراض الشعبي على اللقاح لمدة أطول.

في نهايات القرن التاسع عشر، أدت مجموعة من حالات الإصابة الواسعة بالجدري في الولايات المتحدة إلى حملات تلقيح متتابعة وعلى نطاق واسع، هذا الأمر قاد إلى عدة حركات مناهضة للقاحات خاصة مع زيارة ناشطين بريطانيين معادين للتلقيح للولايات المتحدة حينها وتشكيل عدة جمعيات ومنظمات مناهضة للقاحات. لاحقاً عام 1902 أدت موجة من الإصابات بالجدري إلى فرض ولاية ماساشوستس للتلقيح الإلزامي، حيث أدت الاعتراضات إلى دعاوى قضائية متعددة انتهت بحكم المحكمة الدستورية الأمريكية بحق الولايات بفرض قوانين قسرية في حالات الأمراض الخطيرة والأوبئة.

الحركات المعادية للقاح DTP (والذي يحمي ضد الخناق، الكزاز والسعال الديكي)

في مطلع السبعينات، بدأت مجموعة من الحركات المناهضة للّقاح الثلاثي في مناطق مختلفة حول العالم في آسيا وأستراليا وأوروبا. وكما سابقاً، فقد كانت الحركة المناهضة للّقاحات بشكلها الأقوى ضمن المملكة المتحدة، حيث انتشرت تقارير متسلسلة من طبيب باسم Gordon Stewart تدعي بكون اللقاح يسبب أمراضاً واضطرابات عصبية متعددة، حيث أدت التغطية الإعلامية المكثفة لزيادة قوة الحركات المناهضة للّقاحات.

قادت مجموعة من الوثائقيات والتقارير الإعلامية والكتب حملة كبيرة معادية للقاح DDT على الصعيد العالمي وفي الولايات المتحدة خصوصاً، حيث أدت الحملة إلى توقف عدة شركات عن تصنيع اللقاح وارتفاع سعره بشكل كبير، وعلى الرغم من أن تقارير متكررة من منظمات طبية ومن منظمة الصحة العالمية ومركز التحكم بالأوبئة الأمريكي كانت قد أكدت سلامة اللقاح وعدم خطورته؛ فانقسام الآراء الطبية في المملكة المتحدة في البداية، ومن ثم التسويق الإعلامي الكبير لمعاداة اللقاحات أديا إلى امتناع الكثيرين عن اللقاحات وإضعاف المناعة الجمعية للأمراض الثلاثة الخطيرة.

الحركات المعادية للقاح MMR (والذي يحمي ضد الحصبة، النكاف والحصبة الألمانية)

مجدداً في عام 1998 ظهرت ادعاءات جديدة في المملكة المتحدة عن كون لقاح MMR يسبب أمراض الأمعاء والتوحد، الأمر ازداد حدة لاحقاً مع نشر الطبيب البريطاني Andrew Wakefield لورقة بحثية في مجلة The Lancet الطبية، الورقة ادعت أن لقاحات MMR ليست مجربة بما فيه الكفاية وليست آمنة، كما تدعي بأن اللقاح يرتبط بشكل كبير بازدياد احتمال مرض التوحد لدى الأطفال.

كما العادة لعبت وسائل الإعلام دوراً محورياً في نشر الأمر مجدداً، وعلى الرغم من أن المجتمع العلمي أثبت خطأ الورقة البحثية وكون الطبيب أصلاً قام بتزوير نتائج الاختبارات واختيار العينات بشكل غير عشوائي.

لاحقاً تم سحب شهادة الطبيب ومنعه من مزاولة الطب مع اعتذار دورية The Lancet عن الورقة العلمية، إلا أن أصداء هذا التصرف مستمرة حتى اليوم في الحرب ضد اللقاحات التي لا تزال تدعي أنها تسبب التوحد.

الحركة المعادية للقاحات عموماً

على عكس الحركات السابقة، فهذه الحركة ليست موجهة ضد لقاح واحد أو مجموعة لقاحات، بل هي تحارب اللقاحات ككل. معتبرة إياها خطراً كبيراً على البشر.

بدأ الأمر عام 1999 مع ادعاءات بكون مادة Thimerosal المستخدمة كمادة حافظة في اللقاحات مادة ضارة، فالمادة الكيميائية التي تتضمن الزئبق ضمن تركيبتها الكيميائية كانت تستخدم في معظم اللقاحات حينها، وعلى الرغم من أن الأبحاث فشلت في إيجاد أي عواقب ضارة لها أو ربطها بالتوحد بأي شكل، فقد قامت شركات الأدوية بالتخلي عن استخدامها في اللقاحات وهو ما اعتبره معادو اللقاحات كاعتراف بالذنب.

على الرغم من إزالة المادة من اللقاحات، فدعم بعض المشاهير للحركة سبب تزايد شعبيتها باستمرار، حيث أن كلاً من Jenny McCarthy وJim Carrey يعدان من أشهر المحاربين ضد اللقاحات، كما لعبت مقدمة البرامج الشهيرة Oprah Winfrey دوراً محورياً بتقوية الحركة عن طريق استضافتها لـMcCarthy في برنامجها والترويج لكتابها الذي يدعي أن اللقاحات سببت إصابة ابنها بالتوحد، وأنها تمكنت من شفاءه لاحقاً بالتعاون مع Jim Carrey وباستخدام حمية خالية من الـGluten (والذي هو بروتين موجود في القمح وغيره من الحبوب ويعاني البعض من حساسية تجاهه).

الحركة الإسلامية المعادية للقاحات

في مطلع الألفية الجديدة صدرت عدة فتاوى ضمن باكستان وأفغانستان تحرم اللقاحات على الناس من قادة دينيين تابعين لطالبان، كما أن فتاوى مماثلة ظهرت في نيجيريا وموريتانيا وعدة بلدان أفريقية أخرى، وعلى عكس الحركات الأخرى المحاربة للقاحات، فهذه الحركة انتقلت للعنف بشكل سريع للغاية مع استهداف وقتل أطباء وممرضين ومسؤولين عن حملات التلقيح عموماً.

الحجة الأساسية للحملة هي كون اللقاحات عموماً وبالتحديد لقاح شلل الأطفال (الذي يفتك بباكستان وأفغانستان بمعدلات عالية) هو مؤامرة أمريكية تهدف لتقليل خصوبة الرجال المسلمين وبالتالي تقليل قدرتهم على التكاثر وإضعاف الإسلام عموماً. وعلى الرغم من أن حكومات كل من باكستان وأفغانستان قد شنتا حملات جدية للقضاء على شلل الأطفال تماماً، فالنتائج المدمرة للحملة المضادة مستمرة، كما أن العمليات الإرهابية ضد من يوزعون اللقاحات تتكرر بشكل دوري.

أضرار الحركات الحديثة المعادية للّقاحات

عبر الأعوام الأخيرة، تسببت حركة معاداة اللقاحات بأضرار كبرى على نطاق عالمي، فعلى الرغم من غياب أي إحصائيات مؤكدة عن أعداد الضحايا والمصابين نتيجة منع الحركة، فالأعداد تقدر بمئات آلاف من المصابين حول العالم بأمراض قابلة للمنع باللقاحات مثل الحصبة وشلل الأطفال والسعال الديكي وغيرها.

يمكن مشاهدة الخريطة التفاعلية الخاصة بوزارة الخارجية الأمريكية والتي تحصي انتشار هذه الأوبئة حالياً، حيث أنه بين عامي 2008 و2014 كانت أفريقيا القارة الأكثر تضرراً مع حوالي 800 ألف إصابة جديدة بأمراض قابلة للمنع أهمها الحصبة والسعال الديكي والحصبة الألمانية، بالإضافة لأفريقيا فالقارات الأكثر تضرراً على الترتيب هي آسيا، أوروبا، أمريكا الشمالية، أوسيانيا (أستراليا) وأمريكا الجنوبية.

هل يجب أن يتم تلقيح الأطفال؟

كما أي مستحضر طبي ودوائي، فاللقاحات كذلك تمتلك أعراضها الجانبية الخاصة بها، عادة ما تكون هذه الأعراض بسيطة تتراوح بين حمى تدوم لأيام أو ورم في مكان الحقنة وأحياناً طفح جلدي بسيط. على أي حال فمن الممكن للقاحات أن تتسبب بردود فعل تحسسية خطيرة وحتى قاتلة، لكن هذه الحالات نادرة للغاية إلى حد بعيد، فاحتمال حدوث رد فع لتحسسي من لقاح الحصبة يتراوح بين 1\100000 و1\مليون مما يجعل احتمال الإصابة بصاعقة أكبر من احتمال الإصابة برد فعل تحسسي للقاح، على أي حال فردود الفعل التحسسية هذه – في حال حدوثها أصلاً – قابلة للعلاج عند إسعاف المصاب بها.

هناك حالات خاصة تستلزم عدم أخذ أية لقاحات للطفل، من هذه الحالات الإصابة بالسرطان أو التحلل الدموي أو متلازمة نقص المناعة المكتسب (AIDS) أو أية أمراض تسبب ضعف الجهاز المناعي للجسم، كما أن هناك تعارضات دوائية بين أدوية معينة ولقاحات معينة بشكل يجعل استشارة الطبيب ضرورية لأخذ اللقاحات. ومن الجدير بالذكر أن لقاحات الإنفلونزا باتت غير منصوح بها مؤخراً، فوفقاً لمركز التحكم بالأوبئة الأمريكي (CDC) فقد أظهرت هذه اللقاحات تأثيرات وفوائد ضعيفة جداً في الأعوام الأخيرة بشكل يجعلها عديمة الجدوى.

على أي حال، فاللقاحات عنصر أساسي من الأنظمة الصحية الحديثة، فمع استخدام اللقاحات تمكننا كجنس بشري من دحر بعض من أخطر الأمراض مثل الجدري الذي شهد آخر انشار له في الصومال عام 1977 وطاعون البقر الذي انقرض رسمياً عام 2011، بالإضافة لأمراض أخرى وصلت إلى شفا الانقراض مثل شلل الأطفال والحصبة والسعال الديكي، إلا أن الجهود المتواصلة للجماعات المعادية للقاحات لعبت دوراً كبيراً في إعادتها إلى الحياة مجدداً مع ظهور حالات جديدة بشكل متزايد في الأعوام الأخيرة.

حالياً، انتقلت الحرب ضد الأمراض بشكل كبير إلى كونها حرباً ضد معادي اللقاحات، ففي البلدان المتقدمة والعديد من بلدان العالم الثالث حتى، لم يعد هناك خطر حقيقي في ظل وجود لقاحات فعالة لأمراض طاردت البشر لقرون، لكن الخطر بات يكمن في نمو الدعم للحركات المعادية للقاحات مما أدى إلى تزايد أعداد الأطفال غير الملقحين وتزايد فرص انتشار أمراض كان يعتقد أنها انقرضت مجدداً.

في سبيل تقليل هذه الأخطار للحد ألأدنى، فالعديد من البلدان مثل أستراليا والبلدان الأوروبية وبعض الولايات الأمريكية مثل كاليفورنيا، باتت تفرض اللقاحات بشكل قسري أو تستخدمها كشرط للحصول على خدمات معينة، فالأطفال الذين لا يتم تلقيحهم ممنوعون من الدراسة في المدارس الحكومية في كاليفورنيا، وكذلك فالأشخاص الذين يرفضون تلقيح أطفالهم في أستراليا يخسرون أي دعم اجتماعي حكومي، علماً أن أكثر من نصف الأستراليين يحصلون على دعم اجتماعي أكبر من الضرائب التي يدفعونها.

في النهاية، منذ اكتشاف لقاح الجدري عام 1796 وحتى اليوم، فقد تحسنت حياة البشر بشكل كبير وانخفضت مخاوف الأمراض بشكل تنازلي معاكس للارتفاع المستمر لمعدل العمر المتوقع للبشر، هذا التغيير الكبير في حياتنا يعود للطب الحديث عموماً، وللقاحات بالأخص والتي غيرت حياتنا، حيث انتقلنا من خطر الإصابة بمرض يقتل 20% من المصابين ويشوه الناجين بشكل دائم إلى التغلب عليه بشكل كامل خلال القرنين الماضيين، وإن كنا نريد الإكمال في هذا الطريق فمن الضروري اتباع الأسلوب العلمي والأوراق البحثية الموثقة بدلاً من كلام المشاهير أو مزوري التجارب.

مقالات إعلانية