in

”مناطيد النار“ التي ابتكرها اليابانيون لنقل قنابلهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية باستخدام التيارات الهوائية فقط!

مناطيد النار

في الخامس من شهر مايو سنة 1945، اصطحب القس (آركي ميتشال) زوجته الحامل في شهرها الخامس ومجموعة تتألف من خمسة أطفال من كنيسته إلى نزهة في الطبيعة المحيطة بغرض صيد الأسماك في المناطق الجبلية بالقرب من منطقة (بلاي) في ولاية (أوريغون) الأمريكية. أوصل (ميتشال) المجموعة الصغيرة إلى مكان بالقرب من طريق جبلي ثانوي حيث نزلوا من السيارة من أجل مواصلة التسلق سيرا على الأقدام عبر الغابة بينما واصل هو القيادة إلى قمة الجبل، وصلت المجموعة في نهاية المطاف إلى منطقة تعرف باسم (ليونارد كريك) وهو جدول صغير يتدفق في أعالي الجبال، وهناك قرروا التوقف لتناول وجبة الغداء.

بينما كان (ميتشال) يفرغ صندوق السيارة من الأمتعة، سمع أحد الأطفال يقول: ”أنظروا إلى ما وجدته، إنه منطاد“، هرعت (إليز) زوجة (ميتشال) والأطفال البقية لرؤية ما عثر عليه، وبعد لحظات دوّى صوت انفجار عنيف عكّر صفو المنطقة وهدوءها، قُتلت على إثره (إليز ميتشال) زوجة القس إلى جانب كل من (شيرمان شوماكر) و(إدوارد إينجن) و(جاي جيفورد) و(خوان باتزكي) و(ديك باتزكي)، الذين تراوحت أعمار معظمهم بين إحدى عشر وأربعة عشر عاما، كان هؤلاء الأشخاص الوحيدين الذين قضوا جراء اعتداء نفذته القوات اليابانية على أراضي أمريكية خلال الحرب العالمية الثانية.

كان ما اكتشفته زوجة القس (آركي ميتشال) ومجموعة الأطفال قبل مقتلهم هو عبارة عن ”قنبلة منطاد“ أو كما عرف بـ”منطاد النار“ الذي حلّق على مسافة ثمانية آلاف كيلومتر كاملة عبر المحيط الأطلسي ليحط على جبل (جيرهارت)، حيث بقي قابعا منتظرا أن يلمسه أحد ضحاياه لتتفعل آلية التفجير داخله، وكان أحد خبراء تفكيك القنابل لاحقا بعد تفحصه لبقايا القنبلة قد اقترح أن يكون أحد الأطفال الضحايا قد ركلها بقدمه مما جعلها تنفجر.

كانت (مناطيد النار) اليابانية اختراعا في غاية الدهاء صمم ليغطي الخسارة الكبيرة التي تكبدتها القوات الجوية اليابانية خلال الحرب في منطقة المحيط الهادئ، فلم يكن لدى اليابانيين طائرات كبيرة تحلق على مسافات طويلة من أجل إلقاء القنابل على الأراضي الأمريكية على شاكلة طائرات الـ(بي – 29) التي كانت يملكها سلاح الجو الأمريكي، والتي كان بإمكانها إلقاء القنابل وإحلال الدمار على مدن كاملة، كما لم تكن اليابان تملك حاملات الطائرات التي قد تنقل ما تبقى لديها من طائرات مقاتلة قليلة عبر المحيط لتشتبك في معارك جوية مع نظيرتها الأمريكية وتدمر أهدافها في المدن الأمريكية، لذا كان على الخبراء العسكريين اليابانيين هنا أن يأتوا بطريقة أخرى جديدة كليا وغير مكلفة لمساعدتهم على تنفيذ الهجمات على عدوهم الأمريكي.

قبل عقدين من اندلاع الحرب العالمية الثانية، اكتشف عالم الأرصاد الجوية الياباني (واسابورو أويشي) تدفقا للتيارات الهوائية عالية الارتفاع التي تعرف الآن باسم ”التيارات النفاثة“ تمتد عابرة المحيط الأطلسي، وأجرى (أويشي) مجموعة من التجارب باستخدام مناطيد أطلقها من مواقع مختلفة في اليابان، ونجح في تأكيد وجود هذه التيارات الهوائية القوية والمستمرة التي تتدفق من الغرب إلى الشرق.

لسوء الحظ، اختار (أويشي) نشر أبحاثه بلغة غريبة ونادرة لم يكن يتحدث بها سوى قلة قليلة من الناس عرفت باسم لغة الـ(إيسبيرانتو)، ومنه خيم الغموض التام على أعماله إلى أن اكتشفها الخبراء العسكريون اليابانيون الذين أدركوا أن بإمكانهم استخدام هذه التيارات الهوائية القوية التي تتدفق على ارتفاعات عالية كوسيلة نقل لقنابلهم عبر المحيط الهادئ وصولا إلى الأراضي الأمريكية.

خريطة تبرز حركة المناطيد العابرة للمحيط الهادئ انطلاقا من اليابان
خريطة تبرز حركة المناطيد العابرة للمحيط الهادئ انطلاقا من اليابان

خلال فترة دامت خمسة أشهر انتهت في شهر أبريل من سنة 1945، أطلق اليابانيون حوالي 9000 منطادا ناريا، وكان عُرض كل واحد منها هذه المناطيد المملوءة بغاز الهايدروجين عشرة أمتار وكان يحمل بضع مئات الكيلوغرامات من المتفجرات والقنابل الحارقة.

كان يُتحكم في مسار وحركة هذه المناطيد بدقة، بحيث لم يكن يسمح لها أن يزيد ارتفاعها أو ينخفض عن تسعة آلاف متر، وهذا باستخدام تقنية تعمل على تفعيل آلية تقوم بدورها بالتخلص من بعض الأوزان تتمثل في أكياس رملية موصولة بالمنطاد في كل مرة يوشك فيها على الانخفاض عن المستوى المطلوب، أو تقوم بنفخ المزيد من غاز الهايدروجين في حال ما أوشك على الارتفاع أكثر من المستوى المطلوب.

وعلى مدى ثلاثة أيام، كان المنطاد يحلق فوق المحيط الهادئ مستقلا التيارات النفاثة عالية الارتفاع، وفي اليوم الثالث بالضبط تطلق آلية موقوتة شحنة القنابل فوق الأراضي الأمريكية، هذه القنابل التي كانت ذاتية التفجير من أجل منع العدو من عكس هندستها التكنولوجية.

من بين مناطيد النار الـ9000 التي أطلقتها اليابان، وصلت 300 منها إلى الساحل الغربي للقارة الأمركيية الشمالية امتدادا من ألاسكا إلى المكسيك وناحية المناطق الداخلية وصولا إلى تكساس و(وايومينغ) و(ميتشيغان). سقطت معظم هذه المناطيد في مناطق بعيدة عن المناطق السكانية ولم تتسبب في أضرار أو خسائر تذكر على الرغم من كونها تسببت في إثارة بعض المخاوف والقلق، التي كان أكبرها الخوف من تسببها في اندلاع حرائق مهولة.

حشدت الولايات المتحدة حوالي 2700 فردا من رجال المطافئ ووزعتهم في مناطق مفتاحية على طول الغابات الساحلية للمحيط الهادئ، مجهزين بجميع المعدات اللازمة لإخماد ومحاربة أية حرائق في حالة اندلاعها، كما أرسلت الطائرات المقاتلة لاعتراض هذه المناطيد وإسقاطها قبل وصولها المجال الجوي الأمريكي، وهو الأمر الذي تبين مستحيلا فيما بعد لأنها كانت تحلق على ارتفاع كبير جدا لم تكن الطائرات مصممة للوصول إليه، كما كانت سرعتها كبيرة للغاية بحيث لم تتمكن المقاتلات من إسقاط سوى عشرين منطاد فقط.

قنبلة منطاد معروضة في المتحف الحربي الكندي في ولاية (أوتاوا)
قنبلة منطاد معروضة في المتحف الحربي الكندي في ولاية (أوتاوا)
منطاد النار
منطاد النار

في بادئ الأمر، لم يصدق أحد أن تلك المناطيد كانت تأتي مباشرة من اليابان، لكن عندما قام الخبراء الجيولوجيون بدراسة وتحليل ذرات الرمل الموجودة في الأكياس الرملية التي تضمنتها المناطيد من أجل موازنة ارتفاعاها، تبين لهم من خلال تركيبات المعادن التي احتوت عليها وبعض الكائنات البحرية المجهرية الأخرى أن مصدرها كان اليابان دون شك، كما تعمق الجيولوجيون في دراستهم تلك لدرجة تعقبوا مصدر القنابل ليجدوه في شاطئ بالقرب من مدينة (إيشينوميا) على جزيرة (هونشو)، وبعد إرسال دوريات استطلاعية للمنطقة اكتُشف وجود منشآت كبيرة لإنتاج الهايدروجين في المنطقة، التي تم تدميرها فور ذلك.

فعلت الحكومة الأمريكية كل ما بوسعها من أجل التعتيم الإعلامي على قصة مناطيد النار، وذلك من أجل سببين أولها: حرمان اليابان من أي معلومات قد تكون قيمة بالنسبة لها حول فعاليتها، والسبب الثاني هو عدم رغبة الحكومة في إثارة رعب وفزع السكان.

في أثناء ذلك، كانت السلطات اليابانية تنشر تقارير مفادها أن تلك القنابل كانت تصيب أهدافا مفتاحية في خريطتها الحربية، وتسببت في مقتل الآلاف وجرح مئات الآلاف من الأمريكيين في الأراضي الأمريكية. كانت اليابان تروج لهذه الإشاعات بهدف الحفاظ على روح المعنويات لدى الشعب والجيش الياباني عالية لحثهم على مواصلة القتال دون كلل، لكنهم كانوا يعلمون في قرارة أنفسهم أن تلك المناطيد كانت فشلا ذريعا آخرا، ومع تدمير منشآت إنتاج الهايدروجين التي كان مخطط القنابل المنطادية يعتمد عليها بشكل أساسي، أمر الجنرال الياباني (كوسابا) بوقف المهمة في نهاية المطاف.

لم تقم الحكومة الأمريكية بإزالة التعتيم الإعلامي عن قضية مناطيد النار هذه إلا بعد مصرع مجموعة المتنزهين التي ذكرناها في أول المقال، وذلك لإدراك السلطات لجانب مهم جدا وهو أنه لولا ذلك التعتيم الإعلامي لعلم السكان بأمر تلك القنابل ولاحتاطوا منها، ولما وقعوا ضحية لها في المقام الأول.

يوجد اليوم متنزه صغير في الموقع حيث انفجر منطاد النار وتسبب في مقتل الأشخاص الستة السابقي الذكر حيث ينتصب مقام تذكاري مع لوحة برونزية تحمل أسماء وأعمار الضحايا الستة، وبالقرب من المقام التذكاري توجد شجرة ماتزال تحمل ندوب وآثار ذلك الانفجار.

المقام التذكاري الذي ينتصب في منطقة متنزه (ميتشال).
المقام التذكاري الذي ينتصب في منطقة متنزه (ميتشال).
بقايا منطاد نار انفجر بالقرب من مزرعة في (شمال داكوتا) في أغسطس سنة 1945.
بقايا منطاد نار انفجر بالقرب من مزرعة في (شمال داكوتا) في أغسطس سنة 1945.

مقالات إعلانية