in

عندما أسقطت طائرة عسكرية نفسها برصاصات مدافعها في مفارقة فيزيائية حيّرت المهندسين

طائرة إف 11 تايغر

لقد كان ذلك زمنا تنافسياً وعنيداً في مجال الطيران.. في سنوات الخمسينات من القرن الماضي، لقد بدا وكأنه في كل أسبوع كان يتم تحطيم الأرقام القياسية الخاصة بالسرعة، وذلك في مسعى حثيث نحو الوصول إلى السرعة الفائقة، وقد ساهمت الطائرات النفاثة المخترقة لجدار الصوت، التي تم تطويرها منذ عقد من الزمن على ذلك التاريخ، قد جلبت معها تحديات جديدة للطيارين والمهندسين والمصممين، كما جلبت معها أيضا أخطاراً كبيرة.

في سنة 1952، قامت شركة (غرومان) لهندسة الطائرات بتمويل دراسة تهدف إلى تكييف تصميم طائرة F9F Cougar وإدخال بعض التعديلات المطورة عليها في مجال علوم الآيرودينامية، التي من شأنها تمكين الطائرة من تحقيق أداء سرعة فائقة لسرعة الصوت.

بحلول سنة 1953، انتهت الدراسات وأعمال التطوير وظهر هذا التصميم الجديد ليبدو أنه لم يعد يشبه كثيرا التصميم الأصلي لطائرة الـ(كوغر)، حيث تم تجهيزه بتركيبة أجنحة مغايرة تماماً، كما تم فيه التخلي عن استعمال الجنيحات لصالح دفات الدحرجة الكابحية من أجل التحكم في التفاف ودوران الطائرة، بالإضافة إلى تثبيت شرائع ذات نهايات حادة في مقدمتها من أجل تحسين مناوراتها لدى التحليق بسرعة منخفضة، وكذا تجهيزها بأجنحة قابلة للطيّ من أجل أن يتسع أكبر عدد ممكن منها على متن حاملات الطائرات الضيقة.

تم تجهيز هذه الطائرة أيضاً بمحرك ارتكاسي من طارز Wright J65-W-18 تم تصنيعه تحت ترخيص شركة (كورتيس – رايت)، كما تم إمدادها أيضاً بغرفة احتراق مساعدة ذات طاقة هائلة، التي كان بإمكانها جعل سرعتها تتعدى ماك 1.1 على ارتفاع عشرة كيلومترات.

تم تجهيز هذه الطائرة كذلك بأربعة نقاط تعليق من أجل صواريخ جو – جو AIM-9، بالإضافة إلى أربعة مدافع Colt Mark-12 من عيار 20 ميليمتر، التي كان باستطاعة كل مدفع منها إطلاق 125 طلقة في الشحنة الواحدة.

في يوم الجمعة 21 سبتمبر سنة 1956، قام طيار الاختبار لدى شركة (غرومان) وهو (طوماس أتريدج) البالغ من العمر 33 سنة بالتحليق بالطائرة F11F (تايغر) الجديدة كلياً في رحلة جوية تجريبية لاختبار أدائها فوق مياه المحيط الأطلسي، كان (طوم أتريدج)، الذي كان طيارا سابقا لدى البحرية الأمريكية وأباً لثلاثة أبناء، معتاداً على الطيران فوق البحار، وقد كانت هذه المهمة لاختبار أسلحة الطائرة بالنسبة له مهمة سهلة جدا، وطريقة مثيرة لإنهاء الأسبوع.

وُلد (طوماس أتريدج) في سنة 1923 لشمّاس من أصول إيرلندية في ولاية (نيوجيرسي)، تخرج بعدها من أكاديمية النخبة (فيليبس إكسيتر) في سنة 1942 بينما كانت غيوم الحرب العالمية الثانية تتلبد وتلقي بظلالها على العالم، ثم انخرط (أتريدج) المتزوج حديثاً آنذاك في صفوف البحرية الأمريكية، وهناك تم إرساله إلى المحيط الهادي حيث حلق بطائرة Hellcats ضمن فوج القوات الجوية الواحد والعشرين على متن حاملة الطائرات الأمريكية (بيلو وود).

في شهر يونيو سنة 1944، انخرطت الوحدة التي كان ينتمي لها في عمليات دعم جوي للعمليات العسكرية الأرضية التي كانت تجري في (غوام)، تلتها هجمات جوية مخططة على (بالو) و(لوزون) و(ليتي)، كما شارك في المعركة الثانية في حرب البحر الفيليبيني، حيث وجه ضربات للقوات اليابانية التي كانت تتشكل من أربعة حاملة طائرات، وبارجتين حربيتين، وعدة قلاع عائمة وسفن عابرة للمحيطات.

في تلك الرحلة الجوية الاختبارية التي قادها على متن طائرة الـ(تايغر) الحديثة، كان (أتريدج) يحلق فوق مجال المدافع الأرضية المضادة للطيران على بعد أربعين كيلومتراً من الشاطئ فوق مياه المحيط الأطلسي، ثم انقض رأسيا بطائرته من على علو منخفض قدره 6 كيلومترات بينما كان يتهيأ لاختبار مدافع الطائرة الحربية.

قام بإطلاق النار منها لمدة أربعة ثوان مستمرة على ارتفاع 3 كيلومترات مطلقاً في المجمل حوالي 70 طلقة، ثم قام بدفع المحرك لاستغلال غرف الاحتراق الإضافية وتوقف عن إطلاق النار، ثم قام بانقضاضة أخرى أكثر حدة، وقام بإطلاق النار من المدافع مرة أخرى، وهذه المرة على ارتفاع كيلومترين اثنين إلى أن فرغت الذخيرة منها، وبمجرد أن انتهى من عملية إطلاق النار الثانية هذه التي لم تدم هي الأخرى سوى أربعة ثوانٍ، اهتزت طائرة الـ(تايغر)، يبدو أنها تعرضت لإطلاق النار وتضرر زجاجها الأمامي وانبعج ناحية الداخل.

لاعتقاده أنه قد اصطدم على الأرجح بطائر ما، وهي مشكلة نموذجية عندما تحلق فوق المياه القريبة من الشاطئ، قام (أتريدج) بخفض طاقة المحرك وعاد أدراجه إلى المهبط في محطة شركة (غرومان) الجوية على نهر (بيكونيك) بالقرب من (كالفيرتون) في نيويورك.

قام بتقديم تقرير لبرج المراقبة في منشأة (لونغ آينلد) أن علامة الضرر الوحيدة التي كان بإمكانه ملاحظتها هي الضرر الذي لحق بزجاج مقصورة القيادة، وإصابة بليغة على الجانب الخارجي من المحرك الأيمن، ومن الغريب أيضا أنه لم يكن قادرا على تجاوز نسبة 78 في المائة من طاقة المحرك القصوى بدون أن يبدأ المحرك في إصدار ضجيج غريب وتحدث به اهتزازات.

ومنه أدرك (أتريدج) أنه مع نسبة انخفاضه للهبوط تلك، لم يكن بمقدوره الوصول إلى المدرج بأمان، ففي كل مرة كان يحاول جعل طاقة المحرك تتجاوز 78 بالمائة كان المحرك يهتز ويصدر ضجيجا قويا، هذا الضجيج الذي بدا مثلما وصفه (أتريدج) نفسه: ”مثل صوت مكنسة شفط هوائية تلتقط الحصى من السجادة“.

في نهاية المطاف، انهار المحرك تماما قبل أن يتمكن (أتريدج) من الهبوط بأمان، فقام بهبوط اضطراري وشق طريقه في الغابات المحيطة بالمدرج، فتمزق جناح طائرته الأيمن على إثر ذلك، وخلّف وراءه خطاً من الدمار والنيران في الغابة على طول كيلومتر كامل، اشتعل الوقود داخل خزانات الطائرة، وشب حريق تسبب في إطلاق الذخيرة الحية الموجودة فيها، غير أن (أتريدج) على الرغم من كونه عانى من كسر في ساقه تمكن من الزحف خارجا من الطائرة المنكوبة.

وصلت طائرة مروحية إلى الساحة من أجل عمليات الإنقاذ التي كان يقودها الطيار (إدوين كارتوسكي)، فقام طاقمها بالتقاط (أتريدج) من بين الحطام، وتم نقله على جناح السرعة إلى مستشفى (سوفولك) المركزي لتلقي العناية الطبية اللازمة في مدينة (ريفرهيد) المجاورة، قضى بعدها أسبوعين قابعا في المستشفى ثم تم تغيير موقعه إلى مستشفى (مانهاسيت) الذي كان أقرب من منزله وعائلته.

تم إجراء تحقيق بعد الحادث اكتشف المحققون على إثره أن (أتريدج) لم يصطدم بأي طائر، وبدل ذلك كانت قد أصابته الرصاصات التي أطلقتها مدافع طائرته نفسها، حيث اخترقت رصاصة من عيار 20 ميليمتر، التي تستعمل بصورة نموذجية في التمارين والتدريبات والاختبارات، الزجاج الأمامي لمقصورة القيادة خاصته، كما أصابت أخرى المحرك الأيمن، وثالثة اخترقت أنف الطائرة. تعرضت كذلك صمامات توجيه مدخل المحرك للإصابة، كما عُثر داخل المحرك على قذيفة من عيار 20 ميليمتر، ولو أن كل تلك القذائف كانت متفجرة مثلما هو الحال في تلك التي تستعمل في المعارك الحقيقية، لما كان (أتريدج) قد نجا من ذلك الحادث.

وفقا للأميرال (ويليام سكويتش)، الرئيس المساعد لدى «مكتب علم الطيران للبحث والتطوير» فإن السرعة الابتدائية للطلقات كانت 914 متر في الثانية، كما كانت سرعتها محلّقة في الجو (السرعة الابتدائية زائد سرعة الطائرة) تقدر بحوالي 1310 أمتار في الثانية، وكان هذا يقدر بأكثر من 3200 كيلومتر في الساعة، لكن سرعتها تباطأت على الفور بفعل مقاومة الهواء، أما الطائرة فقد كانت تطير بسرعة 1400 كيلومتر في الساعة، أي أسرع بـ140 كيلومتر في الساعة عن سرعة الصوت.

رسم توضيحي لحيثيات وقوع الحادثة المحيّرة التي أطلقت فيها طائرة التايغر النار على نفسها
رسم توضيحي لحيثيات وقوع الحادثة المحيّرة.

لو أن الطائرة حافظت على مسارها الأصلي، لكانت تجاوزت الرصاصات التي أطلقتها، لكن مسارها الانقضاضي الرأسي الحاد جعلها تعترض مسار الطلقات الذي كان منحنيا نوعا ما، وعندما ارتطمت بها، لابد أن هذه الطلقات كانت تتحرك بسرعة بطيئة لدرجة أن الطائرة قامت بنقلها بجزء معتبر من سرعتها الخاصة، مما جعلها سريعة تماما مثل الطلقة التي تم إطلاقها حديثا.

الإعلان عن نتائج التحقيق للعامة:

قام بسرد هذه القصة نائب أميرال البحرية الأمريكي (ويليام دايفيس)، وهو نائب العمليات البحرية الخاصة بالطيران، في محادثة على مسامع جمعية كتّاب الطيران في نادي الصحافة الوطني الأمريكي في العاصمة واشنطن، تقريبا بعد مضي خمسة أسابيع على وقوع الحادث.

كنتيجة على ذلك الحادث، قامت البحرية بتوجيه نصائح للطيارين الذين يقودون طائراتها النفاثة فائقة السرعة بأن يحيدوا عن مسارهم الأصلي أو يرتقوا بطائراتهم في كل مرة يطلقون فيها النار من مدافعها، هذا على الرغم من أن الكثيرين منهم ادعوا بأن الأمر كان نادر الحدوث، أو كما وصفه بعضهم ”مرة في المليون“، وهو الأمر الذي اعترض عليه (أتريدج) قائلا: ”بالسرعة التي نحلق وفقا لها في أيامنا هذه، قد يعيد هذا السيناريو نفسه في أية لحظة“.

استمر (أتريدج) في عمله مع شركة (غرومان)، وعاد للطيران مجددا بعد أقل من ستة أشهر من وقوع الحادث. بعد ذلك أصبح مدير مشروع LEM-3 الذي هو أول نموذج مركبة فضائية معدة للطيران البشري موجهة نحو القمر، حيث طار إلى جانب طاقم (أبولو 9)، ثم استمر (أتريدج) ليصبح بعدها نائب رئيس شركة (غرومان إيكوسيستام)، وهي شركة فرعية تستثمر في البحث والإدارة البيئية، التي انبثقت منها تطورات نتج عنها اختراع الكاميرا الرقمية، توفي (أتريدج) في نهاية المطاف في سنة 1997.

في عشرين يونيو سنة 1973، كان (بيت بورفيس)، وهو طيار اختبار آخر لدى شركة (غرومان)، يحلق فوق (بوينت موغو) بـ(كاليفورنيا) على متن طائرة (إف 14 تومكات)، عندما ضربت طائرتَه قذيفتُها الخاصة من مدافعها نفسها، تسبب الحادث في إحداث ثقب في خزان الوقود في الطائرة، وبعد فقدان السيطرة عليها، نجح كل من (بورفيس) وضابط أنظمته وهو (ويليام شيرمان) بالقفز منها بأمان ناجين من الحادثة.

مقالات إعلانية